نصوص أدبية

نصوص أدبية

وضعت يدها في يده، وسارا معا كما تعودا أن يسيرا الى مدرستهماكل يوم، .وكما يلتقيان عند الذهاب كذلك يلتقيان عند الإياب، الى ان يصلا الى الحي حيث يدخل كل منهما الى منزله..

طفلة وطفل تِربان من حي واحد، ، منذ أن تسجلا في المدرسة وهمالايفترقان.. كان يستلذ يدها قلب يده، معجب بظفيرتها يتابعها وهي تتحرك يمينا ويسارا.. وكانت تشعر بأنسه، وبقوة حرصه عليها، وحمايته لها وهما يخترقان

الزقاق الطويل الى المدرسة....

من يومين لاحظ سعد أن كوثر تتعمد الخروج قبله، وتأخذ طريقا غير الطريق التي ألفا أن يسلكاها معا، استغرب من سلوكها، وحين سألها صباحا عن السبب اتى ردها مفاجئا:

ـ احب ان أتعود الذهاب وحدي الى المدرسة...

اغتم قلب الصغير، وقد تعود ان يرافق صديقته، كما كانت هي دوما حريصة على أن تنتظره، لم يقتنع بكلامها، أوشك ان يسألها عن السبب لكنه فضل الصمت، فليست كوثر وهي من كانت تلتصق به كلما رأت غريبا في الزقاق من تستطيع قطع الطريق لوحدها بحجة التعود على الانفراد بنفسها..

كانت أم كوثر تطل من نافذة البيت تترقب عودة الطفلين، رات سعد وقد عاد وحيدا، سألته: أين كوثر ياسعد؟ قال: لا ادري من يومين وهي تتعمد ألا تنتظرني وتعود لوحدها من طريق غير طريقنا....

لم يغب عن الام حزن الصغير تترجمه ذبذبات صوته، وبقدر الأثر الذي تبدى في عينيه اهتز قلبها، وساورها شعور غريب، رمى على عقلها جبلا من ركام التخيلات وسوء الظن، أحست كان الدنيا تضيق بها قلقا على البنت التي ما تعودت ان تعود بغير صحبة سعد.. بسرعة دخلت في جلبابها وخرجت كالمجنونة وعقلها كشلال هواجس، كان سعد لازال بباب بيتهم يترقب ظهور كوثر، ما أن أرى ام كوثر حتى بادرها:

ـ هل اصاحبك خالتي !!..؟..

وكأن الام لم تسمعه، فلا يستحوذ على سمعها غير قوله:"انها تسير من طريق غير طريقنا " هرولت وهي تتلفت يمنة ويسرة، يقمطها ارتباك مخيف، وما ان توسطت الطريق حتى بانت كوثر آتية وخداها مبللتان دمعا، جثت الام في وسط الطريق على ركبتيها هلعا، مسكت بيدي طفلتها وقالت:

مابك قولي؟

من بين دموعها ردت كوثر: لا شيء، فقط رأيت ابي هناك، لكن بعد ان كلمته: قال:هو ليس أبي !!..

وقفت الام والفزع لازال يأكل قلبها، من يكون هذا الذي سالته كوثر؟ وأين؟..

مسكت بذراع البنت وعادت بها الى حيث رات من توهمته أباها:

كان بباب الدائرة شرطي يجلس على كرسي، ما ان رأى الام حتى بادرها بالنداء: هل انت أم هذه الصبية؟

ردت ووسواس الشرريتطايرمن عيونها: نعم أنا، ماذا وقع لابنتي أخبرني..

رسم الشرطي على وجهه بسمة وهو يترك الكرسي مشيرا للام بالجلوس..

ـ اهدئي ــ سيدتي ــ لم يقع أي شيء، ارتاحي أولا، وانا سأحكي لك كل شيء

قالت الام وهي تستعجل الشرطي على الكلام: لاعليك احك..

قال الشرطي وقد أدرك بخبرته أن أكثر من وسواس خناس ينبش في عقل الام:

منذ يومين وهذه الصبية تمر كل مساء وحدها، فتظل واقفة تحدق في وجهي، ثم تنصرف..منذ قليل مرت بي، تقدمت مني وقالت: انت بابا.. ربت على كتفها ومسحت على شعرها ثم أخبرتها أني لست بابا، وطلبت منها أن تسالك عن بابا..

أحست الام ببعض الراحة ونوع من السكينة تعود الى صدرها، حدقت في الشرطي، فوجدت ان كوثر دقيقة الملاحظة، فالشرطي فعلا شبيه بالصورة المعلقة في بهو المنزل ؛اعتذرت الام عن قلقها، شكرت الرجل بكلمات، وعادت مع كوثر الى البيت دون ان تقدم أي شرح للشرطي الذي ظل يشيعها بأكثر من تأويل، وقد رفع كتفيه حيرة هي مزيج من شك وسوء ظن..

لم تصل الام الى البيت الا وكوثر تكاد تنهار من غصات بكائها، لم يكن على لسانها غير هذه العبارة: أريد بابا، اشتقت لبابا، احب أن أرى بابا..

أحست الام أنها تائهة، لا تدري ماذا تقول لكوثر، هل تخبرها الحقيقة، لن تجرؤ على ذلك، فالحقيقة بعيدة عن فهم الصبية وادراكها....

رفعت بصرها الى الصورة في البهو..ليتها لم تطاوع أباها يوم أتاها بها وقال لها: علقي هذه الصورة في البهو حتى تتعودها الصبية وكلما سألت: قولي لها "ذا بابا وقد مات في حادثة "

كيف تعالج الامر الآن؟هاهي تبكي جرحها العميق كما تبكي الطفلة جهلها لأبيها، يلزمها سبب واضح ومقنع يريح نفسية طفلتها..

لم يؤثر في الام موت والدها ولا أمها من قبل كما اثرت فيها حالة بنتها اليوم، كم مرة نزلت عليها الذكرى بأثقال من أحزان فأكلت كل أثر لنسيان فرضته على نفسها لتعيش لابنتها..غيرت المدينة التي ولدت ونشأت فيها حتى تقي ابنتها ألسنة القوالين ومن يقتاتون من أسرار الناس..

كانت تتصور ان نهر حياتها قد أخذ طريقه وأنها تعودت صغائر الامل تستأنس بها وهي تنبث يوما بعد يوم في أعماقها كلما رأت كوثر تكبر أمامها..

ـ غيري يعيش ذكريات الشوق والحنين ونفحات الهوى، وانا أعيش غصة غلطة ارتكبها حقير في حقي..

سيل من الصور تتدفق على خاطرها، ارتجاف يهز ساقيها وكأن الأرض في زلزال تحت قدميها، الحدث يتبدى وكأنه وقع اللحظة، لم تعد تستطيع الوقوف، بركت على ركبتيها كما يبرك البعير على الأرض، هيمنة الحزن تخرب كل اثر للقوة فيها..لا تدري كم مر من الوقت وهي تدفن وجهها بين راحتيها حتى تطرد صورا تعيدها الى لحظة كبوتها..

تحاملت على نفسها فوقفت، ثم جرت قدميها الى المطبخ لتعد أكلا للطفلة، فقد انستها الواقعة الوجبة الخفيفة التي تعودت أن تقدمها للصغيرة كلما عادت من مدرستها ؛سمعت نسيج كوثر يتعالى، من غرفة مجاورة، أسرعت اليها، ضمتها الى صدرها:

ـ ياصغيرتي العزيزة، كفاك بكاء، ابوك مات كما مات جدك وكما سيموت جميع خلق الله..

أحت رغد وقد خنقتها عبراتها وقالت بصوت مخنوق: لكن لم تقولي لي ابدا كيف مات، وحين رأيت الشرطي ظننته ابي..صديقتي ندى أخبرتها أمها ان أباها قد مات في حادثة لكنها وجدته يوم زواج أختها، فقد كان هو أب الرجل الذي كانت ستتزوجه أختها، ولم تكن أمها الا طليقته..

ضمت البنت الى صدرها، تنفست بقوة ثم قالت بعد تنهيدة عميقة:

حقا ان الشرطي بأبيك شبيه، لكن أباك كان اصغر وأجمل وأقوى منه بكثير، ولم أكن أبدا طليقة لأي رجل وانا اعتز بدقة ملاحظة كوثرابنتي حبيبتي، اسمعيني سأخبرك الحقيقة، اهدئي واستكيني:

من عمق اعماقها بدأت تستمطر عونا وقدرة على تلفيق ما ستقول، ومن عيونها كانت تغسل بدموعها الحقيقة التي لن تجرؤ على الاعتراف بها امام الصغيرة، التي صارت لاتراقب الا شفاه الام وعماذا ستنفرج..

ــ كنا من أبناء القرية نعيش على ما تهبنا الأرض وتدره الابقار، كنت وابوك نحلم بأننا سنعيش بما وفره الله لنا من كد تعبنا، ذات ليلة ممطرة اتانا خبر وفاة جدتك ــ أم أبيك ـ كانت نزيلة احدى مستشفيات المدينة، أصر والدك أن نسافر الى المدينة في تلك اللحظة، وحيث اني كنت حاملا بك فقد حاولت إقناعه ان نؤخر السفر الى الصباح، لان الوقت كان شتاء عاصفا، لكنه امتنع.فهو كان يخشى تقولات الناس وألسنتهم الطويلة، كيف يتأخر ابن عن حضور جنازة أمه؟ كانت الطريق ظلاما تغيب عنه الرؤية، خرجت لنا كلابا ضالة نابحة حاول السائق ان يتجنبها فانقلبت السيارة، مات السائق ومات ابوك بعده ونجوت انا وانت في بطني.. منذ أن خرجتِ الى الحياة وأنا قريرة العين بك، وبعد أن مات جدك لم أجد غيرك عزاء ومؤنسا...

كانت الام تسائل نفسها هل توفقت في اقناع الصغيرة فالحقيقة هي ماغاب عن لسانها، وهل تجرؤ أن تقول: أنا ضحية خالك وانك بنتي وأبوك هو أخي، أشاحت بوجهها عن كوثر..

الذكرى تفتتها ذرات، تستعيدها وكأنها طازجة فتحس سكاكين الظلم واللؤم وضعف الايمان تذبحها من الوريد الى الوريد.. تذكر كف دخل اخوها ذات ليلة ووجدها تشكو صداعا حادا، وكيف بادرها بحبة ادعى أنها خاصة بالصداع النصفي، تناولتها وقد انساها ارقها وصداع راسها أن اخاها ليس الا سكيرا عربيدا قد أعطاها ما افقدها سيطرتها على نفسها لم تفتح عينيها صباحا الا وهي امرأة بلا بكارة دمها بين فخديها والم في حوضها ؛كيف تشرح للصبية أنها عانت من أهانته وجبروته وهو من كان السبب في موت جدتها.. وما استكان بيتهم تحت رداء الراحة الا بعد ان مات مقتولا في عراك ذات ليلة خمرية مع الصعاليك من رفاقه..

بدأت الصغيرة تستكين، ثم مدت يدها تمسح دمعات تدحرجت على خد أمها..

كل منهما تعيش اسى متباينا، ام عازبة مغتصبة حرمها أخوها أبسط أحلامها وتجاهد على أن تنسى، وطفلة محرومة من حنان الابوة قد يغيب عن حياتها الكثير مما يدعم شخصيتها ويحقق لها توازنها الذاتي والنفسي..

من بين دموعها قالت الصغيرة:

هل يخاصمني سعد لأَنِّي تركته وكذبت عليه؟

ضمتها الام الى صدرها، مسحت عبراتها ثم قالت:

لا عليك من سعد، طفل مؤدب يحبك ويتفانى في الذود عنك، سأشرح له مالا يعرف وسيسامحك..

تربعت بسمة عريضة على وجه الصغيرة وقالت:

انا كذلك احبه، وندمت على ما بدر مني نحوه

متى ستكلمينه؟

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

على هياكل الحروف تموت الاسئلة

من أين تأتي الابتسامة؟

أي الدروب تسلك

لتصل إلى مدخل الشريان

حيث كريات الدم

تتزاحم.. تتغاضب

ناسية أن ثمة كائنا حولها

ينتظر دنو الهواء في خطوطها

من أين تراها تأتي ...؟

من النافذة ...؟

أو من المرآة ...؟

أظن نصيحة جدتي التاريخية

اعتقلتها في زاوية الغرفة

كيما تتخطى عمرها الوهمي

وتحب الأشياء بمنطق البراءة

دون اغتيال وجه مرسوم

على الجهة الأخرى للجدار

كان على المرآة أن تتدخل

لفك النزاع القائم

بين العطر والحقن المهدئة

بين السرير والأريكة التي

تهدهد حالها على الشرفة

في حالة انتشاء

بما تسلل إليها

من همهمات الشارع

بينما السرير ملقى

عند منتصف الغرفة

يلامس الشراشف في حنان

مترفقا بالوسادة

كمعنى محوري لما هي مدججة به

من اللامعنى .... واللاحضور

وما تترك من متسع في اللاشعور

لوأد حياد

كبر على امتداد مسافات القلق

واستسلام نما

حين تزاحمت الأضداد

وحدها الوسادة

تساعد على الاستقلال

من ضجر التوازن

واختيار العبارات المناسبة

لصبغ وجه النهار

بأبجديات تليق

بضحكات عريضة

منقوشة على الملامح

لا تسقط إلا بسقوط المعنى

أو بسباق خلف أثر النوايا

قبل أن يقتسم الجسد

بين اليمين واليسار

وتصير الكلمات جثثا بلا قبور

إلى حينها ...

مت في جلدك .. إن شئت

أو احيِ...

في يوميات الزمن الراكض

حيث العيون طعنة

في قلب الصحيفة

الكأس ضماد

لغابة تترجل الأحكام

عند فجاج الصرخة

ثم ترتمي على جليد الشمس

دون استئذان السماء

*

هي ليلة ما بعد..... السقوط

بالقلم رغبة جامحة

أن يكشف عورتي

أخاتله .... أهرب من منقاره

الذي يجيد تمزيق الجلد

لتتسع الروح ... وتبوح

وأنا أعشق الظلمة والصمت

لا أحب الارتماء تحت عتب البيوت

وتلك قواعد القص

إن أردت ركوب صهوة الأدب

اعفني من الكلام أيها المداد

المرآة اقدر مني على الحكي

هي تحفظ تفاصيل الأيام

تجاعيد العمر

وما تحوي النظرات من عتاب

من حزن مبتل بقافية الأنين

من آثار الجروح الممددة

على جسد تقلصت رقعته

بفعل =آآآآآآآآآآآه

*

كم يلزمني من مسافات

لاحتضان اللحظات المتساقطة

قد تنتابها رغبة الحياة

فتستوي أملا

في مركبة خلاص

لا تتوقف إلا في معبد الذاكرة

هناك تركت عيوني تبتهل

في محراب البداية

مت في ظلمتك أيها الليل العنيد

لا تتكئ على جدار النهار المنحني

لا تسند خيباتك

على هياكل الحروف

وتجعل صمتك فاتحة النهاية

ليتلمس الحلم يدا

تعانق الغياب

على حافة سوادك

تعزف ترنيمة رياح لا تشيخ

عل القسمات المتجهمة .. تشرق

تبدل بالجرح سلاما

بالصدى كلاما

يعانق الاحتمالات

على ضوء احتراق الشهوات

بين فجر قديم

وفجر يداعب الشقاء

بصيغة الغائب

كل ذلك لن يسقط الغرماء

المتربصين في الأفق السري

المكتظ بأشعار انتحرت

عند أبواب الرؤيا

حيث انتاب عشتار

عشقها الأول

وكانت نهاية الأسطورة

وبداية الأسئلة؟؟

***

مالكة حبرشيد

تزوّجت نوّارة. تقدّم لها رجل ستّينيٌّ ترمّل مؤخّراً فوافقت على الفور.

نوّارة فتاةٌ تجاوزت السابعة والعشرين، ولم يتقدّم لها عريسٌ في القرية التي تتزوّج بناتها منذ الثامنة عشرة، بالرغم من أنها جميلة، ربعة القامة، بوجهٍ مدوّرٍ وحمرةٍ خفيفة على الوجنتين، وعينين سوداوين واسعتين، وبالرغم من طيبتها، وحبّها للناس، واستعدادها لتلبية أيّة خدمة لأخيها وزوجته وأولاده، وللجيران الذين يحتاجون للمساعدة؛ تبدو عليها مسحة مسكنةٍ أو مذلّة: تسكت حين يجب الكلام، وتتكلّم حين يجب أن تسكت، وفي كلتا الحالتين، تسمع التأنيبَ من أخيها وزوجته. ونوّارة هي نوّارة الحارة بالفعل؛ الجميع يحبّها، لكنْ ذلك الحبّ الممزوج بالشفقة.

عاشت معه في بيتٍ صغير، لم تتأخّر يوماً عن خدمته، ولم تشكُ من عجرفة بناته المتزوّجات، وأوامرهنَّ التي لا تنتهي، حين يأتين لزيارة أبيهن. بيتها الصغير صار جنّتَها؛ كان لا ينغّص هناءتها إلا أمرٌ واحد... "لو يرزقني الله بولدٍ يسندني في كبري!"، تقول لجارةٍ من جاراتها اللائي لا تتوانى في مساعدتهن.

بعد ثلاث سنواتٍ من الزواج، أنجبت حسن. قامت قيامة الأولاد، أبناء زوجها الذين تنازل لهم عن أملاكه، ولم يبقِ لحسن سوى البيتِ الصغير الذي يعيش فيه مع زوجته الصغيرة، وحين مات الزوج كان عمر حسن أربعَ سنوات.

حزنت نوّارة لفقد زوجها، بكته أربعين يوماً؛ لكنّ وجودَ حسن في حياتها كان عزاؤها؛ وضعت كلّ عواطفها فيه، وتركّزت حياتها حول "رجل البيت القادم!". أصبح حسن هو شغلها الشاغل، وظلّت تعامله معاملة الرضيع، حتي بعد أن كبر ودخل المدرسة؛ تركض خلف أيّ طفلٍ إذا ضايق ابنها، أو تذهب إلى أهل طفلٍ آخر بثوبها الباهت وحذائها البلاستيكيّ، وآثار العمل لا تزال على يديها، تشكو ابنهم الذي تهجّم على حسن، أو ضربه، أو عيَّرَه... ينكر الأولاد – كالعادة – حديث نوّارة، فتردّ دون خجلٍ من أهله: "أنت تكذب... حسن قال لي!".

قنتْ دجاجاتٍ، وزرعت المساحة الصغيرة حول البيت خُضَراً، وصارت تبيع البيضَ وما يفيض من خُضَر المساكب، وعملت في مهنٍ كثيرة: تشدّ المكانس وتبيعها، وتنجّد اللحف؛ ورغم ذلك، لم يرها أحدٌ تغيّر ثوبها، منذ أن مات زوجها؛ تغسله في الليل لتلبسه في الصباح.

كان عند نوّارة ثوبان اثنان، أحدهما، الأسود الباهت، لا تبدّله طول النهار، والآخر، الأخضر الجديد، مغسولٌ ومعلّقٌ في الخزانة المعدنية، وحذاءان، أحدهما من البلاستيك، تلبسه في أرض الدار مع الثوب الأسود، أو لزيارة الجارات في الحارة، والثاني، الجلديّ، ملمّعٌ بعناية، وموضوعٌ في أرض الخزانة "للمناسبات"، رغم أنها لم تلبسه في أيّة مناسبة. شاهدتها الجاراتُ تلبسه مع الثوب الأخضر، لأول مرة، حين اقتادت ابنها حسن، وذهبت للمصوّر، ثمّ اشترت له حقيبةً صغيرة، وبعدها إلى مدرسة القرية، سجّلته، وأوصت به المدير والمعلّمات جميعهن، حتى آذن المدرسة أوصته بحسن "اليتيم".

حين استلم حسن الكتب الجديدة، جلست بقربه طويلاً تتفرّج معه على الصور الملوّنة... "اجلس في المقعد الأول، حتى تفهم ما تقوله المعلمة"، توصيه، وتضمّه إلى صدرها، وتغرق في حلم يقظةٍ طويل، يتمطّى حسن بدلال، ويقول: "ماما، أنا جوعان"، تقوم على الفور، تقلي بيضتين، وتضع إلى جانبهما حبّة بندورة أو خيارة، وطبقاً فيه لبن، يأكل حسن البيضتين بسرعة، ويترك البندورة واللبن لأمّه التي تأكلها مع رغيفٍ كامل.

صارت تضع رأسها قرب رأس حسن وهو منحنٍ فوق الدفتر، فرِحةً بابنها الذي بدأ يقرأ ويكتب، تربّت على كتفه المدوّرة الصغيرة وتقول: "خطّك حلو!"، يفرح حسن لإطراء أمه، ويبدأ بإخبارها القصص المختلفة عن المدرسة؛ وفي اليوم التالي يكون حديثها للجارات: "حسن –الله يحفظه- هو الأوّل في صفّه، خطّه على المسطرة… الطالب الذي يكون خطُّه أحلى، يأخذ الأوى… هكذا قال لي حسن".

صارت تردّد معه الأناشيد، وتضع أصابعها العشرة تحت تصرّفه، حين يحلّ وظيفة الحساب؛ وحين يتعب من الكتابة، ينحّي الكتب جانباً: "ماما، تعبتُ!"، يقول وهو يتثاءب ويتمطّى؛ تنحني نوّارة فوق الدفتر، وتكمل له وظيفته.

ذات يومٍ، عاد حسن من المدرسة باكياً، انخلع قلبها، سألته: "من ضربك؟".

- الآنسة وضعت لي أربعةً من عشرة في الإملاء… لم أغلط إلا بحروفٍ صغيرة، وغيري غلطاته أكثر من غلطاتي، وأعطته ثمانية! 

يمتقع لونها، وتمسح دموعه بتأثّرٍ، فيزيد بكاءه ويقول: "الآنسة منافقة!"؛ وفي الصباح التالي تذهب إلى المدرسة لمواجهة المعلمة، تعاتبها، وتشاجرها، وتطلب منها أن تضع لحسن علاماتٍ جيدة، ويكون حديثها للجارات عن "المعلمات المنافقات"

يوم نجح حسن في الإعدادية كان عيداً في الحارة؛ وفت نوّارة بوعدها ودعت جاراتها وجارات جاراتها، غنّت وزغردت، رغم أنه نجاحٌ متواضعٌ لم يؤهّلْ حسن إلا لدخول مدرسة المحاسبة؛ ولزمنٍ طويلٍ بعدها، ظلّت نوارة تردّد قول حسن: "المحاسبة مهنة المستقبل، مهنة البنوك والشركات الكبيرة، وهي الطريق الأقصر للغنى... المهمّ أن يكون الإنسان ذكياً"،  وتكمل أمام النساء: "وحسن، ما شاء الله، ولد ذكي... عبقري بالرياضيات!".

دخل حسن المراهقة معتمداً على أمه في كلّ شيء، ليس له شخصيةٌ واضحة، في داخله شعورٌ كبيرٌ بالنقص، يدفعه للمبالغة في الظهور، والرغبة في الاختلاف عن السائد والمألوف، هذا التميّز الذي يخفي به عاراً وهميّاً يحرمه الإحساس بذاته؛ وقد تجلّى حرصه على التميّز بكرهه للمجتمع، الذي يمنعه جبنه من إظهاره، والتقليل من شأن القيم الإيجابية وأصحابها، فتجد كلمة "لا،" أو عبارة: "صحيح ولكن…"، تسبق أيّ إجابة أو اعتراضٍ على قولٍ أو فكرةٍ ذكيّة.

بعد ثلاث سنواتٍ نال حسن شهادة الثانوية في المحاسبة، وكان يوم النجاح أشبه بعرسٍ في بيت نوّارة، علّقت صورةً كبيرة لابنها في صدر الغرفة؛ وجهٌ بارز الصدغين، وذقنٌ عريضة تبرز للأمام، حاجبان متصلان، يحضنان عينين سوداوين تحدّقان بالناظر، شعرٌ أسود كثيف... طالما تباهت نوّارة بشباب ابنها؛ جسمه القويّ المعافى، وكتفيه العريضتين وصدره البارز بمبالغةٍ ومشيته المختالة على الدوام، وطالما اعتزّ حسن بهيبته، وتمعّن في ملامحه طويلاً في المرآة معجَباً بصفاته الجسميّة، وانداح إعجابه هذا إلى كلّ ما فيه، يعوّض، من خلاله، افتقاده للعلاقات الحقيقية مع أقرانه، يكرّر، في ذاكرته، أيّ كلمة مديحٍ سمعها من أحدٍ ما، ومستغرباً، في الوقت نفسه، ألا تحبّه أيٌّ من فتيات قريته أو زميلاته في المدرسة "رغم كلّ الصفات التي تتمناها أيّ فتاة... غبيّات!!" يحدّث نفسه في خلواته؛ والحقّ أنّ حسن لم يشعر بالحبّ تجاه أيّ فتاة، لا يملك مشاعرَ تجاه أيّ إنسان.

شبّ حسن وهو يشعر بخواء في  داخله، إجساسه بذاته يستمدّه من ردود أفعال الآخرين تجاه أيّ قولٍ يقوله، أو أيّ فعل يقوم به؛ والطبيعيّ، في خياله، أن يكون ردّ الفعل هو الإعجاب، بل الانبهار، ذلك الانبهار الذي يلمسه في كلام أمّه عنه، والصفات التي تخلو من الشوائب التي تضفيها على ابنها الوحيد؛ لذلك كانت علاقته بأمّه علاقةً غريبة؛ هي، من ناحية، المصدر الوحيد الذي يمنحه الإحساس بذاته، ويملأ شخصيته بالوجود، ومن ناحيةٍ ثانية هي الإنسان الوحيد الذي يجرؤ أن يفرّغ فيها شحنات غضبه، والثأر لعقدة نقصه العميقة، حتى إنه لا يكتفي بمناكدتها واختراع المواقف الأشدّ تأثيراً، وانتقاء الألفاظ الأكثر قسوة، بل يوصلها إلى درجة البكاء؛ شيء ما في داخله يهدأ ويشعره بالسعادة والامتلاء، حتى إذا ارتاحت نفسه، أغرقها بكلمات الصلح والعناق والقبلات... ودائماً يحمّلها سببَ غضبه، ويعاتبها بكلماتٍ مؤثّرة، والمسكينة تسكت على مضض، خوفاً من فقدان ابنها الوحيد، الذي، ذات نوبة غضب، حمّلها مسؤولية ابتعاد الناس عنه، واتّهمها بأنها السبب في تجنّب زملائه له، وزادت اندفاعته الحاقدة، فعيّرها بأنّ زواجها من "ذلك الرجلٍ العجوز، الذي مات وتركني يتيماً محروماً حتى من الميراث، هو جريمة بحقّي، وعائقاً أبديّاً في طريق حياتي"، فلم تجد ردّاً إلّا البكاء بدموعٍ صامتة، حارّة ومستسلمة.

رفض حسن وظيفة محاسبٍ في مديريّة التربية، التي دبّرها له جارهم أبو كمال، برجاءٍ وتوسّلٍ من نوّارة، ولم يرحم أمّه والخجل الذي سيعتريها من الرجل وزوجته، والأهم: فراق حضنها الذي، وهو على مشارف العشرين، ما زالت تضمّه إليه؛ وكثيراً ما حنّ لثديها حنينَ طفلٍ لم يُفطَم بعد.

لم تتوانَ نوّارة في الذهاب مبكّرةً والاعتذار من جارتها أم كمال: "لأنّ حسن يريد أن يعمل في الشام"،  وتردّد كلامه: "طموحه أكبر من الوظيفة، وفي الشام الفرص أكبر، والحياة أوسع، وهو يريد أن يعمل في إحدى الشركات الكبرى، براتبٍ كبير يتناسب مع قدراته، يعوّضني، الله يوفّقه، عن فقر السنين"، وتتكتّم عن بقيّة حديثه بأنّ "الناس في الشام  متحضّرين يقدّرون الإنسان الذكي، وليسوا مثل الناس في القرية، متخلّفين وحاسدين".

صار غياب حسن يطول عن أمّه شهراً بعد شهر، وصارت نوّارة تطيل الجلوس على باب غرفتها؛ تنظر إلى الشارع باستمرار، ودائماً تجد عندها ضيفةً أو أكثر، تشرب معها القهوة، وتحدّثها؛ ومهما كان الحديث تجد في ذاكرتها كلمةً لحسن، تقولها وتؤكّد أمام سامعتها: "هكذا قال حسن".

وحسن صارت زيارته للقرية حدثاً مهماً في الحارة، أهمّيّته تنبع ليس من سيارة الأجرة التي يدفع لسائقها مبلغاً إضافياً كي يوصله حتى باب البيت، ويطلب منه أن يطلق بوق السيارة عند وصوله إلى مدخل حارته، وليس بسبب ثيابه الثمينة وأحذيته اللامعة، التي تتنافى مع حال القرية الفقيرة، والتراب الذي يملأ أزقّتها، وليس لأنّ تأفّفه  واستغرابه من الغبار أو الذباب، صار مثار تندّرٍ لأهل القرية؛ ليس لكلّ هذا؛ لكن لأنّ نوّارة، بعد كلّ زيارة، تظلّ أسبوعاً كاملاً شاغلةً كلَّ من تلاقيه في الحديث عن حسن، ونجاحه في "غربته"، والمكانة العالية التي وصل إليها بسرعة، على الرغم من أنَّ حسن، في كلّ زيارةٍ، يطلب منها مبلغاً أكبر من المبلغ الذي طلبه في الزيارة السابقة.

أنهت نوّارة كلّ مدّخرات السنين الطويلة، باعت بقرتها، وأخذت أجوراً للحُفٍ لم يتمّ تنجيدها، ومكانسَ لم يتمّ شدّها، لتعطيَ ابنها ما يطلب، دون أن يعرف أحدٌ، فيشمت بحسن.

في الزيارة الأخيرة، أخبرها أنه بحاجةٍ إلى مبلغ ٍكبيرٍ، جعلها تفغر فاها اندهاشاً؛ قال لها: "بيعي الجزء من الأرض المحاذي لجارنا أبو كمال، الأرض غالية وتأتي بسعرٍ جيد". لم توافقه؛ تدلّل وتذلّل، عاند  وصرخ، اتّهمها بالبخل، بالوقوف في طريق سعادته ونجاحه؛ لكنّها لم ترضخ.

منذ ذلك اليوم غادر حسن ولم يَعُد، ونوّارة تبكي، وتحكي عن نجاحه، وعن "الفقر الذي يجعل عبقريّاً مثله أقلّ مكانةً ممّن هم أقلّ ذكاءً منه... أغبياء، لكن أغنياء!" وتنطق الجملة الأخيرة بنفس السجع الذي نطقه به حسن.

مرّت أربع سنواتٌ، لم يزر خلالها حسنٌ القرية ولو زيارةً واحدة؛ كان يكتفي بالرسائل إلى أمّه، يكتبها على ورقٍ رقيقٍ أنيقٍ، تقرؤها نوّارة، وتشمّ رائحتها، ثمّ تعيد قراءتها؛ تتألّم لكلمات العتاب واللوم القاسية، وتفرح كثيراً للمشاعر الشحيحة التي تحتويها كلماتها، وتعيد، كلّ يومٍ، كلمات حسن على من تصادفها من نساء القرية.

منذ سنةٍ تقريباَ، انقطعت رسائل حسن، وانقطعت أخباره، صارت نوّارة، بعد أن تفرغ من حديثها مع نساء الحارة، وتعود لبيتها الفارغ البارد، تتملّى صوره، تتذكّر وحيدها، وتبكي وحيدةً من قسوته ، وتدعو ربّها، من بين الدموع، أن يوفّقه ويأخذ بيده، ويعيدها إليه سالماً معافى؛ نذرت نذوراَ كثيرةً، ووعدت بعطايا لمن يأتيها بخبرٍ عن حسن.

اختلفت الأقاويل عن حسن، فأحد طلاب الجامعة أكّد أنّه رآه في كلية التربية عضواً في هيئتها الطلّابيّة، وآخر قال إنه التقى به في كلّيّة الآداب وجلس معه في الكافتيريا، وأحد رجال القرية، لمحه في المؤسسة الاستثمارية التي يعمل بها؛ أخبارٌ كثيرةٌ سمعتها نوّارة عن حس، وفي كلّ مرّةٍ تسمع عنه خبراً، تهزّ رأسها بابتسامةٍ دامعة، وتؤكّد ما تسمعه: "ممكن يكون بالجامعة... ممكن استلم منصب مهم... ابني حسن عبقري!".

غير أنّ الخبر اليقين جاء به غسّان العبدو، الشرطيَ في السجن المركزيّ، حين سلّم نوّارة رسالةً من حسن: "اخلقي المال بأي طريقة، ووكّلي لي محامياً". لقد قُبِض عليه متلبّساً بجرم  التزوير".

هرعت نوّارة إلى جارها أبي كمال تعرض عليه بيعَ كامل الأرض حول بيتها، تردّد بآليّةٍ، والدموع لا تفارق عينيها: "أولاد الحرام ورّطوه، وواجب الأهل أن يقفوا بجانب أبنائهم في المصائب... كما قال حسن".

***

منذر فالح الغزالي

بون 27/ 2/ 2022

.............................

(*) العنوان مستمدٌّ من عنوان كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.

تعالَ!

ها نحن بالقرب من الليل...

*

قلتُ:

أنا إمرأة من رماد ورغبات ومتعة

إمرأة من ماء الورد والشهوة والغار

أعيش الحب في زمن العذارى

أتمتع بظلك حين تغفو في حضني

أنتَ القوة الكامنة في خيال يمزج الإنتظار في الآتي

*

قالَ:

أنتِ امرأة من رحيق الروح

وشهقة اللقاء

ناراً لشتاء القلب

أنساً لوحشة العالم

ضوءاً  لعتمة الأمكنة

نظرة عشق لكون على الجلجلة

***

جوزيه الحلو

 

الريح أو هذي الزلا

زل والجفاف أو المطرْ

*

جندٌ من الرحمن ير

سلها امتحانًا للبشرْ

*

منهمْ سيُؤخذُ آثمًا

أخذ العزيز المقتدرْ

*

منهم سيُعرَفُ صدقهُ

إن كان بالصبرِ اختُبِرْ

*

الخير في أقدارهِ

مهما بَدَا للناس شرْ

*

هيَ حكمةٌ وإرادةٌ

وعنايةٌ في ما أمرْ

*

حاشاهُ  ليسَ مرادُهُ

عبثًا إذا وقع القدرْ

*

وإذا جنودُهُ أقبلَتْ

قلنا "إلى الله المفرْ"

***

إسراء فرحان

أنت الآن وحدك

ووحدك الآن أنت

حجر في صحراء منسية، بلا أنس أو أنيس

موجة في نواة عاصفة مخنوقة بالملح

تطحنها الرياح ويفتتها الرذاذ

وردة يتيمة في جليد، تلفحها سوافي الثلوج

تجمدها البرودة، فيكسرها النباح

يحملها مجهول في قوس قزح

يواريها سُدًى عبثي الملامح

حولك الضباب والرماد والفراغ

الضياع والتيه والخواء

خلو وغياب وخلاء

كأنك بلا جذر، بلا جذع، وفرع وساق

بلا رجل أو ساعد، بلا زند ولا متن

ظِل يسير في ظلام

هكذا تقول عنك البوم يوم زواجها

وهكذا يوم رحيلها تعرفك الغربان

**

أنت الآن وحدك

بلا قلب بلا همس بلا صمت بلا صوت

ووحدك الآن أنت

بلا روح بلا خفق بلا ضحك بلا دمع

فيك تجتمع القرى والمدن

وفيك تتفرق عواصم، أبحر ومحيطات

مثل فضاء بلا سقف أو سماء

وفضاء يعوم يغوص يسقط يركض

يسبح يهرب يفر يقفز يثب

يحن يئن يرن يشتاق يتلهف يبتل

ينشف يتندى يتقلى يمطر يجف

يدور في فضاء من دوار

مثل حجر في مئذنة مهجورة في نواة زلزال

تضربها الشمس ويغشاها البعد، يمسكها الغياب

غادرها التوق مزقها الشوق هجرها الوجد

وكأنها حلم كامن في هواجس من رؤى مصفدة

صماء بكماء عمياء، بين صبر وصبار

بين نور تلاشى، اندثر، اندرس، باد

وبين نار ولهيب وأوار.

**

وأنت لوحدك

بين ذاتك وذاتك

بين أناك وأناك

تَلَمًس الشوك القادم من القادم

من الماضي والحاضر

الحاضر والماضي

بأنامل من عتاب حسرة ولوعة

كان عليك يوم كنت وحدك

أن تتقن كيف تعشق ذاتك

كيف تذوب في أناك

فذاتك ليس لها إلا ذاتك أنت

وأناك أنت ليس لها سوى أناك

حكمة الوجود فيك تناديك

تسألك أن تعتق الوحدة بالوحدة

تخلطها بصحارى الملح والرمل والثلج والصخر

بنكهة الصبر المحمول على ناقة خلوج

بشذا الشيح والحنظل

بمذاق شهد السدر والآس

برحيل الأغنيات من وتر النسيان

ببحة الناي بين أنياب الثغاء

**

أنت كنت هناك، وحدك

منذ البدء، قبل ميلاد الدنا

قبل نضوج الغابات والهواء والرحيل

بين حجب ظلمات ثلاث

كانت في حجب ظلمات ثلاث،

وفي حجب من حجب ظلمات

تمسك الغيب، تنقله، تزحزحه نحو المجهول

بأنامل من عجز مكلل، مجلل، مثقل بالعجز

مثل حبة رمل نفختها الآماد

خبأتها في قلب عاصفة، دوامة هوجاء

حشرتها في قطرات غيمة عابرة بين سدف من ظلام

أسقطتها في قاع محيط يمسكه الدخان

تحملها الشمس في بخارها، تسافر، تهاجر

تتلوى، تختنق، تشهق، تزفر، تضج، تطير، تحط

تضحك، تبكي، تفرح، تحزن، تيأس، تقنط، تزحف

تركض، تحبو، تقف، تُشل، تحن، تأمل، تسقط

في حبة ثلج يخطفها جليد مسكون بالصقيع

**

وحدك كنت

وحدك أنت الآن

ووحدك ستكون في كونك، يوم التكون

يوم التكوين، يوم انفجار البراكين

تهاوي الزلازل، غرق البحار والأنهار والمحيط

نقطة بيضاء في كفن أسود

نقطة سوداء في كفن أبيض

تتحرك، تتوالج، تتواشج، ترشح، تفيض

تنحسر، تنشف، تتيبس، تتحطم، تتشظى

تتلاشى، تتناثر، تتكسر، تتثنى، تتجعد

تتغضن، تتقصف، تتقصل، تتجزع، تتقطع

تلتحم، تلتصق، تشتد، تستد، تنتظم، تتصل

تقف بين حائطين واحد من نار والثاني من جليد

بين ربيع يبكي، وخريف ينوح، صيف يفح، وشتاء يزخ

رحيل عودة، وعودة رحيل

حضور في غياب، غياب في حضور

وكأنك خرافة، ترتجف حين تمسها الأسطورة

أو سحر، ينتفض من تعويذة

ضياع غير مرئي، سراب يخادع ذاته

ويخدع سرابا ينادي سرابا في السراب

لماذا تركت النجوم تختفي في جيب غيمة؟

ولماذا تركت روث الجمال يسافر بعاصفة رمل؟

وجلست تعد الكواكب، وتحصي الرياح

كأنك لم تقرأ حروف الوقت أو تتقن حوار الزمن

مع الموج المرفوع من الأعماق نحو الشمس

ولم تدرك زيز الظلام وهو يغني كالبجع أغنية الوداع

لم تدرك سر الحرف فوق شواهد القبور

سر الحزن فيها، معنى الرحيل من الذكريات

وجع اللحن وحنين الأغنيات

**

أنت الآن وحدك

تحمل رايات يومك الماضي

أشرعة يومك الذي أنت فيه

ورجفة يومك الموصوف بالغيب

مثل فريسة تطلق قوائمها للريح

تلتف، تلتوي، تنعطف، تتقوس، تدور

في عينيها يسكن الموت والحياة كتوأمين لا ينفصلان

تماما كما أنت بين ليل ونهار

أنت والليل، سكون على نصل هاوية تصعد نحو قمة

وقمة عمياء في قلب هاوية زرقاء تبحث عن سوادها

هنا قوس من نار وسخام ودخان وسناج

وهنا ماء مالح، أجاج، داكن، قاتل

بينهما نهار سريع الخطى

يدق جدار الحلم بناصية من شمع وصلصال

بيدك آفاق مفتوحة، آماد ممدودة، فضاءات مشحونة

وعلى شفتيك، تقف الأسئلة، ثقيلة، لزجة، دبقة

كيف؟ ومتى؟ أين، لماذا؟

كيف مزجت ذاتي بأناي؟

متى نبتت دالية في قلبي الصغير؟

أين رحلت بيوت النمل؟ وخلايا النحل؟

لماذا بقيت مع وحدتي وحيدا مع الوحدة؟

وحيدا يتوحد باللاشيء؟ بمجهول مهاجر في المجهول؟

كأنين ناي بكى ثغاء نعجة بين أنياب الذئاب

كذكر عنكبوت قادته شهوته نحو غلمة فاغتاله الشبق

**

رأيتك قديما، في تكون الحمأ المسنون

تحمل السنابل وهي خضراء، صفراء، ذهبية

تنثرها بين القلب وقرب الفؤاد

ترويها من الحلم المزروع في دماء الكبد

تغنيها وتنشدها، قصائد تحملها العواصف والرياح

تنثرها بين الرمش والجفن، صبايا من خيال مخصب بخيال

إناث من شهد مصفى، يذوب في النسيم

يٌلهب الذوق، يٌؤجج الخفي المتخفي فينا بالخفاء

يفتح نافذة التوق والشوق والمشتهى

يخض الغيب والمجهول، يرج السحر الكامن في النواة

يكوي بركان الإحساس ويصهر الشعور

نعم رأيتك، بين السواقي والروابي والسهول

حبة خردل يتيمة، خشخاشة بين ليمون وبرتقال

شوكة أسيرة بين حنون ودحنون

حيرة تتناسلها حيرة معتقة بحيرة

تطارد الوهم بالتيه، تلاحق الضلال بعُتُوّ وضياع

ترسم بالظلال نهاية الطريق المعبد بسؤال غابة عذراء

عن دوائر البداية في متاهات السيقان

وعن همسات الليل وسط هيبة السكون

وحشة الوحدة، رعب الهسيس، هول الحفيف

عن شبح انشق من حجر، انفلق من صخرة مبللة بالعتمة

بالعين رأيت ضربات قلبك معلقة بين فحيح ظلمة

وعواء دجن واقبه، مشلولة، كسيحة

تعضها نسمة دفعها غصن مجوف تسكنه الخنافس

يغزوه العفن وتدمره الطحالب.

**

لم تكن وحدك، هنا، وهنا، هناك، وهناك

في الشمال في الجنوب، بين الحدود وبين السدود

كنت أنت أنا، وأنا هو، وأنا أنت، وهو أنا، وأنا أنا

هناك أنت وأنا، نقطف اليأس من حقول الألم

أنا وهو نحصد اليتم من رحم قهر مخضب بالمحل والجدب

أنا وأنت نجني ثمار الذهول من خيوط الشمس

هو وأنا نرشح كما قلة الفخار في سهول البعث

عقم الولود وهي تئن من طنين النحل في العيون

أنا وأنا نفيض كالنهر في سحب مسحوبة من ودق مالح

قلت وقلنا، هتفت وهتفنا، صرخت وصرخنا،

صحت وصحنا، جلجلت وجلجلنا، عججت وعججنا

عليك كي تخرج من فم النملة، من جناح بعوضة

أن تتعلم أول حروف النطق والسمع والبصر والرؤى

أن توقن بأن اللغات كلها في الأرض وبين الكواكب

في المُهل، في التزحزح، في التردم، في الانهيار

في القبر، في البعث، في البرزخ، وما بينهما

وما قبلهما، وما بعدهما، وكل ما في الكل

أن تتقن لغة البحث عن النجاة كي تستطيع البقاء

البقاء على حافة خيط برق مولود من رعد

وعليك أن تتقن لغاتك القادمة من أناك، من ذاتك

فالعين رغم إبصارها يخدعها اللون

والصوت رغم دويه تخدعه الرياح

لكن الروح التي فيك

المعبأة بالحدس، المكتظة بالفراسة،

المحملة برائحة البداهة

لا تُخدع بالرياح والألوان، ولا يُقلدها الصدى

هي أنت وأنا، هي أنا وأنت، أنا وهو، وهو وأنا

هي أنا، وأنا وأنا.

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين – مخيم طول كرم

نَواكِبُها على بَشَرٍ تَوالتْ

لأسْبابٍ بها الألبابُ حارَتْ

*

أ مِنْ وَجَعٍ إلى وَجَعٍ خُطاها

وما هَجَعتْ ولا يَوْما تَعافتْ

*

كأنّ الأرضَ مِنْ وَقَدٍ تشظتْ

ومِنْ غَضَبٍ على خلقٍ أغارَتْ

*

بليلٍ جاءَ مَوْعودا بشؤمٍ

وإمعانٍ بعاديةٍ تَداهَتْ

*

نيامٌ دون إدراكٍ لمَوْتٍ

يُباغتهمْ كصاعِقةٍ أصابَتْ

*

أ يُعقلُ حادثٌ في جوفِ ليْلٍ

يحطمُ أمّةً حلمتْ فماتتْ

*

أديمُ الأرض يَمْضغُنا كوَحْشٍ

ويَسْحَقنا بأحْجارٍ تهاوَتْ

*

أ فينا مَوْطنُ الآهاتِ يُصلى

ونارُ وجودِنا لهباً تعاطتْ

*

تُعلمُنا المَنايا بَعْضَ دَرسٍ

ومِنْ غَفلٍ نفوسٌ كمْ تَصابتْ

*

هَجَعْنا أمْ ولجنا دارَ بيْنٍ

فما رَقدَتْ قلوبٌ واسْتراحَتْ

*

على أمَلٍ بهِ الإصْباحُ أدْرى

تنامُ خلائقٌ شَهقتْ وبادَتْ

*

عَجائبُها أعانتْ مُبتلاها

ومِنْ عَجَبٍ على عَجَبٍ أناخَتْ

*

وفي لحْظٍ من العدوانِ ألقتْ

تَحاملها على مِللٍ تَعادَتْ

*

أ ترْقبُنا الكواكبُ في عُلاها

وتَرْجمُنا كما رَغِبَتْ وشاءَتْ

*

عَلينا مِنْ صَواعِقها هُجومٌ

يُزعزعُ تربةً رَجَفتْ وكادَتْ

*

بَرايا ذاتُ أحْلامٍ بصُبْحٍ

تَردّتْ في مَواضِعِها وخارَتْ

*

أسائِلها وقلبي لا يَراها

أ هذا الكيدُ مِنْ نَفسٍ أساءَتْ؟

*

عَليمٌ فوقَ عَلاّمٍ كبيرٍ

أ يُعْلمنا بما رَسَمتْ وشادَتْ

*

سَلوا بَصَراً تَخطى قيدَ أدْري

وعانقَ عَرْشَ أمٍّ إسْتدارَتْ

*

تدورُ بنا وما عَرَفتْ لماذا

وتَحْملنا مؤسَّرةً فجارَتْ

*

هيَ الأرضُ التي منها أتيْنا

تُحذّرُنا وتأكلنا فدابَتْ

*

أ نعلمُ أمْ بنا غفلٌ شديدٌ

رَغائبُنا تعزّزهُ فَسادَتْ؟

*

فصارَ الليلُ عدواناً علينا

يُحمّلنا عَقابيلاً أبادَتْ

*

تُحاربُ خلقها أرضٌ تَردّتْ

بقاضيةٍ بإرْعابٍ فراعَتْ

*

كأمٍّ مِنْ كآبتها تَشرّتْ

تُقتّلُ وِلْدَها وبهمْ تخابَتْ

*

ألا غَثيانُها أزْرى بحالٍ

فأطْعمَها بما حَمَلتْ وجادَتْ

*

سَمِعْتُ صُراخَها في بَحْرِ ليلٍ

فأيْقظتِ الصخورَ وما اسْتفاقَتْ

*

لأمْواتٍ بلا نذرٍ أتَتْها

تُخَمّدُها بناياتٌ تداعَتْ

*

وتَصْعقها بهَزّاتِ ارْتدادٍ

وتطْحنها إذا شنِئتْ وغاظَتْ

*

سماءٌ دونها أرْضٌ حَميمٌ

بها نارٌ تؤجّجُها فهاجَتْ

*

كأنَّ ربوعَها شدَّتْ بخيْطٍ

تواهى مِنْ عَواضِلها فغارَتْ

*

وإنَّ الماءَ من نارٍ تأتّى

وإنَ لنارِها ماءٌ فراقتْ

*

إذا مَوْتٌ سَيجْمَعُنا سنَحْيا

عناصرَ رحْلةٍ فينا تفانَتْ

***

د. صادق السامرائي

9\2\2023

جثثُ الاطفال

تتوارى في ندوبِ الأرض

فماذا نقولُ للأُمهاتْ؟

**

هَلْ هُنا - كَ

اكثرُ قسوةً وظلاماً

من هذهِ القياماتْ؟

**

اغصانُها تتدلى حزناً

على شهداءِ الزلازل

اشجارُ " الشامْ "

**

نخيلُ الرافدين

يُنكّسُ سعفاتِهِ حداداً

على ضحايا الزلازلْ

**

مطراً احمر

تفيضُ دموعُها

السماءُ تبكي في الزلازلْ

**

بلا رحمة

تُحطّمُ القرى والمنازلْ

وحوشُ الزلازلْ

**

مدنٌ تنزفُ جثثاً

اطرافٌ تصعدُ للسماءْ

ضحايا الزلازلْ

**

جبالُ " قاسيون "

تحاولُ الثباتَ

بوجوهِ الزلازلْ

**

تتساقطُ جذوعُها

معَ الضحايا

أَشجارُ " حلب "

**

عماراتٌ مُهدَّمة

ركامُ بيوت

زلازلُ الخرابْ

**

برغمِ قسوةِ الزلازل

الكلابُ اكثرُ رحمة

من بعضِ البشر

**

ما جدوى …

كلِّ هذهِ الزلازل؟

الربٌّ يسألُ الشيطانْ

***

سعد جاسم

شاعر عراقي - كندا

 

ثـوى فــي كـلّ داجِـيَـةٍ  ضيـاءُ

بـمَـقْـدَمِه ، وأشـرقـت الـسمـاءُ

*

تـعـثّـرَ كــلُ خَطْوٍ، فــيــه كُـفـرٌ

وزال الشــكُ مُـذ  وضح النداءُ

*

رؤوسُ الكفر قالوا كيف نمضي

لأمــرٍ ، لـيس فــيـه  لــنـا  ولاءُ

*

فَـجَـهَّـزوا  كلَّ  شائِـنةٍ ، لِـرَدْعٍ

فـحاقَ بـهم ، وبالخـذلان  باءوا

*

رأوا بـنـفـوسهم  زَهْــواً  ولكنْ

غُـرورٌ فارغ ٌ، بـئـس الغِـطـاءُ

*

لقـد ســادتْ عـقـائدُهـم  بـجهـلٍ

فــغابَ  الحلمُ ، واستـتر الذكاءُ

*

ومَـنْ  منهم  تفكّر مُسْتـَبـيـنـاً

طريقَ الحق ، نـوَّره المَضاءُ

*

بـذِكْـرِ النــورِ دُنـيانـا  بـخيـرٍ

وفــي بـركاته  ، نِعـمَ الشـفاءُ

*

لنا  فـي كل سـيـرته  اقـتــداءٌ

بهـا  دوما ، سُـمـوٌ  وارتـقاءُ

(من الوافر)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

في الصف الخامس الإبتدائي فقط، وعندما لم يقبل أي تلميذ أو تلميذة الجلوس إلى جانبي في الرحلة اكتشفت أني دميمة وعديمة الجمال إلى ذاك الحد.

يومها ايضا عرفت أني أشبه أمي كثيرا، حيث كانت ذات بشرة كامدة، بلا نضارة تذكر، وعينين غائرتين بلون باهت وفك علوي مرتفع، وأسنان متزاحمة متداخلة مع بعضها. في ذلك اليوم كدت اسأل أبي لماذا أقدم على الزواج من أمي، لكني قضيت الوقت كلّه في اختلاس النظر لملامح أمي غير المتناسقة وملامح أبي متوسطة الجمال.

لم أستطع النوم في تلك الليلة، كنت أكابد ألما من نوع غريب، شيئا يشبه الخجل والعار يجثم على قلبي، وأنا أتذكر كيف كانت المعلمة تحثهم واحدا تلو الآخر على الجلوس إلى جانبي لكنهم جميعا كانوا يرفضون بضراوة. تأملتُ في ذلك الليل العميق  جديلتي الطويلة الكثيفة ذات الملمس الناعم، وأدركت جيدا أنها الشيء الوحيد الجميل الذي بحوزتي، هذه الجديلة ايضا ورثتها عن أمي الدميمة، وأمي ورثتها عن جدتي. إعتدلت في فراشي وجعلتها بين كفيّ، ورحت أقبلها وأشمها، تبا ألم تكن هذه الجديلة كافية لكي يحبني التلاميذ؟

في الصباح بدا صوت أمي وهي توقظني جارحا ومستفزا لجميع حواسي، في الحقيقة كنت غاضبة جدا، ولا أرغب في سماع صوتها.

أنا احمل ذات الصوت الحاد، يا رباه كنت نسختها!  أخبرتها وأخبرت أبي أني قررت ترك المدرسة. عندما فشل أبي في أقناعي بالعدول عن قراري ذاك،  قام بضربي.  في البداية ضربني بيديه، ثم بحزامه الجلدي. كانت أمي تبكي، وهي تهزني من كتفيّ بقوة. ثم بدأت تبكي يوميا بصمت.

من النافذة أشاهد أفواج التلاميذ ذهابا وإيابا، علم المدرسة كان يلوح من بعيد، يتحرك مع الريح، كان يبدو كلّ شيء بخير، الحقائب على ظهورهم، الضحكات على شفاههم، النشيد الوطني الذي يخترق المسافات ليصل إلى سمعي، المعلمات اللواتي يخرجن من المدرسة بتلك الملابس الأنيقة والعطور الطيبة التي تغشى أنفي، وهن يتبادلن الأحاديث، نعم كل شيء كان بخير، ويسير مطمئنا، كأني ما غبت؟ كأني لم أكن معهم يوما!  حتى جديلتي لا أحد يفتقدها! ما نفعها إذن؟

في أحد الأدراج كانت أمي تضع حاجياتها الصغيرة. كانا نائمين بعمق.

حسنا لم أحتج إليهما في تلك اللحظة، انا وحدي أستطيع القيام بكلّ شيء.

لم تتوقف أمي عن الصراخ. توقع بعض الجيران أن أحدنا مات، لكنها فقط جديلتي قمت بقصّها تماما، ودفنها هناك تحت تربة حديقتنا. حتى أبي كان يبكي، ويلطم جبهته، وحدي أنا كنت سعيدة جدا، سعيدة وحرة.

***

تماضر كريم

 

جليداً وكأسٌ ومدفئةٌ

ثم أوراق تُفسر معنى الحقيقة

وكرامةٌ أُغتيلت

لماذا نَهرب من وجه الحقيقة؟

*

في الحي القديم أمجاد وحرية

وفي الحي الجديد طفلةٌ معتقلة

أية أمةٍ تلك التي تعتقل طفلة؟

*

نحن نرقص بين السكاكين

كي لا ننتمي لمجزرة

نحن أبناء الشمس التي غادرتها الغيد الحزينة

حياتنا قُتلت وصار بوسعكم

أن تشربوا نبيذا على قبر “الشهيد”

وأدخلوا حفل عشاء راقصٍ

لكن فكرنا يحيا من جديد

*

يا تنهيدة هربت في الغمام

ويا صوتٌ أبكى الجليد

ويا حروفي الأبجدية المقطعة

أنا المذبوح صمتا

برماح تاريخ البكاء.

***

حسام التميمي

 

لو أنك جئتَ معنا يا ميسوم إلى الوادي الباقي لاستمتعتَ بثمار اللوز اللذّيذة، ولتسلقتَ الأشجار بنفسك، وقطفتَ الثمار بنفسك أيضا ...

متعة كبيرة كنت ستدّركها وأنت وسط الأشجار، تنتقل من شجرة إلى أخرى، وقد تتوقف طويلاَ عند هذه أو عند تلك؛ تتريث عن الشجرة ذات الثمار الحلوة، وتُغادر سريعاً ذات الثمار المرّة...

أعرفُ أنك تعودتَ انتظارنا في البيت لكي تحصل على نصيبك من اللوّز مثل أمي وأختي، أما أبي فإننا نُخفي عنه كيس اللّوز،  أو القشور فإن رآها فإنه يُوبّخنا بعنف وأحياناً يقتص منا بالركلات والصفعات، فهو لا يحبذُ أبدا أن يدُق سي شلفي على بابه ويقول له غاضباً أن أولاده يسرقون لوزّه! وعليك أن تشتدّ في تربيتهم...

أنت لم تصحبنا ولو مرّة إلى الوادي الباقي إلا أنك ترهبُ سي شلفي، وبسببه لا تريد أن تُرافقنا. سي شلفي ذاك الكهل النحيل، طويل القامة، حادُ العينين، قليل الكلام الذّي لا يمل أبدا من مطاردة الأطفال في موسم نضوج حبات اللوّز ...

نحن لا نخشاه، أعني نحن مثل باقي الأطفال نهابه لكن نتحايلُ عليه. وفي كل مرّة نذهبُ إلى الوادي الباقي نعينُ طفلاُ يهتم بالحراسة فقط،  وحينما يلمحه من بعيد مقبلاُ، راكضاَ أو مهرولاَ، يصفرُ أو ينادي بصوت عالِ،  نهبطُ من الأشجار، وبسرعة نحملُ أكياس اللوّز ثم نعدو نحو مدينتنا الصغيرة ...

وكثيرة هي المرات التي يجدّ في ملاحقتنا حتى في المدينة، فما علينا إلا أن ندخل بُيوتنا نخبئ أكياس اللوز جيدا ثم نبدل ملابسنا.. من كان يلبس الأحمر يرتدي بدله الأخضر، ومن كان يرتدي سروالا اسودا يبدله بأخر بني..

فسي شلفي لا يعرفنا ولا يعرف أسمائنا، ولا يتذكر ملامحنا وإنما يلمح من بعيد ألوان ملابسنا فأسرع ما نبدلها، ثم نخرج إلى الشارع، وأحيانا نلتقيه ونحييه، فيبتسم لنا ونبتسم له !

ما أسهل أن تستمتع باللوز اللذيذ ...

وما أسهل أن تركض لما تسمع الصفير ...

وما أسهل أيضا أن تخلع قميصك الأزرق وترتدي الأرجواني ....

*** 

عبد القادر رالة

 

على رصيفٍ مُهترئ ِ الذِّكرى

التقيتُ بأمانيهِم تَسألُ عنهُم

بقايا عِطرٍ في الزَّوايا

ظلالُ أملٍ كسيـح

رحلَ ذلك َالبَريق

ماتَ الوَميض

*

خارجِ الزلال

يَتعثرُ اليُتم

ذَنبٌ مُتشردٌ

يتكئُ على عنقِ اللَّيل

*

الدُّخانُ يمضغُ الخَطايا

اشباحٌ تسيرُ نائِمَة

احتدَّتْ مُلاكَمةُ الضَّباب

خسرِ الحُبُّ جَولَته

للمَرةِ المَليون

ستبقى نازِفاً أيُها القَدر

والقمرُ بعيدٌ مَجرَّة مجرَّة

*

حَزين هوَ الحُب

لا العيدُ فَرحَته

ولا المَساحيقُ تُغريه

أجنحةُ الغيثِ

تطيرُ نحوَ الصَّحراء

استشهَدوا  كَي تَعيشوا....

اِقْرَرررررعي

أيَّتُها الأجراسُ الصَّماء!!!!

***

سلوى فرح – كندا

 2023/2/8

وقصص أخرى قصيرة جدّا

آثام البنادق

حين شردت عنزتي عن القطيع كانت الشّمس تسقط وراء التّلال. وكان لا بدّ أن أصعد الجبل حيث هي...

ذات منعطف تناهى إليّ صريرٌ جرحَ أذنيَّ مخلوطا بزمجرة مخيفة... تذكّرت أنّ هذا المكان قبل ثلاثة أيّام كان مهوى لمدافع العدوّ... مددت بصري، وهناك سقط على جثّة ثائر تعمل في عظامه أنياب الذّئاب بعد أن جرّدتها من اللّحم...

**

صُنِع في...

شقّوا على صدره. انتزعوا تلك المضغة. رأوا فيها صورة بعيرٍ وحسناءٍ ونفط... غمسوها في قدح عليه صورة شمعدان.. غسلوها بمحلول غريب وركبّوا فيها صورا جديدة: شعبا يُذبح، وأرضا تسلب، وترابا يَحُدُّه أزرقان...

وأعادوها إلى مكانها فخفقت خفقانا له رنين المعدن وقعقعة الصّخر...

وعندما أقعى على عرشه والسّحرة بين يديه نبح كثيرا فبكى الشّعب...

**

من الزّمن الغابِر

- ارحل من هُنا!

- بلغ العطش مِنّي ومن بعيري. أرجوكم.

- غادر البئر وإلّا...

من بعيد يلوح فارس له غبار...

- لا مروءة لكم. كيف تمنعوه الماء؟

ويلوّح بسيفه فيصيب منهم...

- سِر أمامي حتّى أُبلغك مأمنك.

- (...)

- لم تنس طعنك لي غدرا. أنا نسيته!

- يا بن العمّ...

- لا عليك. إنّما أنا أنصرُ القبيلة!

**

العشاء الأخير

عندما رأيتك هرعتُ إليك كعادتي. تشمّمتك. حرّكتُ ذيلي فرحا بك. وكنت أتوقّع أن تعطيني العَلَف كما عوّدتني، لكنّك صرعتني فظننتك تلاعبني. لم أنتبه إلى زوجتك التي شدّتني من طرف حلقومي، ولا إلى تلك السّكّين التي كنت تخفيها وراءك...

عندما رُفِعت عنّي أعجميّتي وعُلِّمتُ منطق الأشياء، لم يؤلمني مثل غدرك بي... وتألّمت أكثر حينما رأيتك تأكل من لحمي وذاك الملك في السّماء ينظر إليك ويقول:

"كُل فهذا عشاؤك الأخير!"

***

حسن سالمي

تتعاقب الفصول

وأنا أقول لي

ياهذا هل الغد أجمل؟

مع كلِّ شروق

أهمس في أذنِي

نهارك بلا تعَبٍ

بلا همٍ

بلا ...

مواجع الحياة

أتراها الحياة  بلا مواجع؟

تدور رحى الأيام

تطحنني الساعات،

كهشيم بلورات الثلج في قدح

تقلبني  ملاعق الفاقة.

ليهنئني اليُسَر بعد يوم مضني

أستسلم مرغماً لثقل جفوني

التي ضأقَ

بَصِيِصُ الضوء  في  محجريِها

طافَ خيالُ الأحبةَ في ملكوتِ الله

أتراها أضغاث أحلام أمانٍ كاذبة!

لأعيدَ الكرة مع أول تكبيرةِ إحرام

لفجر جديد،

المشهد الذي  يتكرر

يذكرُك  بتصدعاتِ الروح

واصفرار ملامحِ الجسد المنهك

وأنتَ تمنّي الروح  بغدٍ أجمل

***

كامل فرحان حسوني

"أنا لن أمنعك الزواج، لكن أن أعيش معك في بيت رجل آخر فلا؛ اليوم طلبك برضى ووافق لأعيش معك، وغدا يتنكر لرضاه، ويرمينا معا في الشارع، فعلها أبي يوما، وهو من أوجدني، فأحرى أن يكون رجلا غريبا، وما أنا معك بالنسبة له الا ذيل تبيع، تذكري أو "الدجاجة غسلات رجليها ونسات ماداز عليها "؟!!.أنا .أبدا ما نسيت ولن أنسى، لن أكون معك، ولن أتعقب حياة فاشلة، سأنحازالى خالي، ربما يتحملني رغم ضيق حاله الى نهاية السنة، أحصل على شهادتي الثانوية وابحث عن عمل في مصنع أوخادمة في بيت حتى، هذا قدري، تحملت الضنك وشراسة أبي عساني ألبي طموح نفسي الدراسي، وأحقق رغبتي ولو باقل ماكنت أطمع، ربما للقدر رأي آخر.."

كانت الام تصغي لكلمات بنتها في هدوء، وتلك طريقتها في التعامل معها حتى قبل موت والدها بسكتة قلبية من فرط السكْر والسُّكَّري.. فقد كانت تكره أن تشب البنت بعصبية وشراسة كأبيها، أو تتشرب مما كان يتلبسه من طغيان وعناد وبطش، فتضيع، أو تخرج الى المدرسة بلا عودة ؛ كانت تحوز البنت اليها بحب يعشعش في صدرها حرصا بكل ما تستلزمه تربية بنت بلا مثل ولا قدوة من أب، ولئن استطاعت هي أن تتجلد وتصمد فهيهات لطفلة ألا ينكسر لها عماد ..

هو ذا الرعب الذي كان يتملك الأم، وهي ترى بعض بنات الجيران قد غادرن أسرهن بلا رجعة بعد ان تحولت بيوتهن رمادا من خصومات وشقاق جراء السكر، وإدمان الرهان على الخيول، الوباء الشائع بين رجال الحي ..

غلبتها دموعها، فوضعت يد ابنتها بين يديها، لثمتها، وكأنها تتوسلها أن توافق، فالرجل ذو أصل وميسور، وهذه فرصة لن تعوض:

ـ طاوعيني حبيبتي، لا أطلب منك الاأن تستعملي عقلك، عمرليس كما تتوهمين، كان ابن حينا، أعرف أصله وفصله، "دار خير، يد أهلها تسبق قلوبهم .."

سلت البنت يدها من بين يدي أمها، قالت وصوتها لا يخلو من دهشة:

ـ معناه حب قديم عاد ليمسح عن وجهك ضنك الزمن بعد موت أبي، فمن منعك منه أمس لترضى به اليوم؟ أتوسلك ماما، فلست مستعدة ولن أصير فتيل احتراق، ذليلة أمام خلق الله مرة أخرى.

أعادت الأم يد البنت بين يديها، ثم رفعتها إلى شفاهها، وكأنها تنفث فيها إحساسا بالأمان و تستجديها القبول:

ـ والله لم يكن حبا ولا حتى صداقة، فقط كنا جميعا من سكان حي شعبي واحد، تلاميذ وطلبة، أبناء حرفيين ومهنيين وصناع تقليديين، وقد بدأت صداقة بين أبيك وبين عمر الذي سكن أهله الحي متأخرين عن اسرة والدك، لكن سرعان ما انتهت بعد أن تخاصما من اجل هيمنة كان ابوك يفرضها في الحي كرغبة في السيطرة وحب الظهور، ثم ما لبث أهل عمر أن رحلوا الى مسكن جدهم بعد وفاته حتى أنه لم يعرفني حين صادفته في متجر الحي..

باستدراك مباغث وبلهجة تأنيب اتى رد البنت:

وانت بسرعة تعرفت عليه بعد كل هذه السنوات، فتحركت بين ضلوع الصدر رغبتك القديمة اليه، متوهمة أنه أتى ليطوي محطات خيبتك مع أبي . قدمت له نفسك، فأخبرك بأنه أرمل، فقد زوجته، ويعلم الله كم مرة خرجتما معا، فنفضت أمامه ثقل مظالم المرحوم عن صدرك، ثم ماذا وقع بينكما؟ حتى طرقت باب الحلم، وعريت له عن مائدتنا الدنية لتستمطري عطفه علينا، قولي الى أي مدى بلغت علاقتكما، قبل أن تتخذا قرار الزواج والحكم غيابيا بانضمامي الى بيتكم السعيد؟..!

لأول مرة تحس الأم أن البنت قد تجاوزت معها حدود اللياقة والأدب، فلم تكفها السخرية وسوء الظن، بل تجاوزت الى الطعن في عفتها، لماذا؟هل هي غيرة؟ أبدا، هذا أبعد مما يمكن أن تتصوره في بنت هي عجينة قصعتها، ربما هو فقط عناد مراهقة حتى لا تتزوج أمها بعد موت أبيها كنوع من الوفاء الوهمي لأب لم تكن تحس له أصلا بوجود؟ بل هي من كانت تردد بعد كل خناقة يختلقها ابوها في البيت او الحي:

ـ الموت راحة وستر يا ماما، هو وحده قد يكف عنا نظرات الجيران الذين ضاقوا بوجودنا بينهم ..

هل كانت تحلم أن تواتي أمها صدفة أحسن من عمر وما وعدها به عمر؟ لا أظن !! .."هي أصلا رافضة لمبدأ زواجي مرة ثانية "..خنقتها غصة صدر، فهبت واقفة و قد تلبستها سورة غضب، لا ليست هذه هي السعدية التي ربت وحاولت بكل التضحيات النفسية والجسدية أن تبعدها عن احساسات ابيها، وشراسته، قالت وقد احمرت عيناها وشرعت دموعها تتسربل كوابل من مطر

ـ اعرف أن طرد أبيك لنا قد هدم نفسك بكراهية لكل الرجال، لكن ماكنت أتصور انك تحملين كل هذا الثلوث الموروث من سوء الظن بأمك وبالناس، كنت أتصور اني لم انقش فيك غير طيبتي وثقتي بعفتي وبنفسي وربي، أما وانت كذلك فيلزم أن أحسم الأمر من الآن ..

لم يترك لنا ابوك ما يمسح عنا قهر الزمن غير ديون لا يغيب عنا معا كيف تراكمت عليه، وفيم كان ينفقها، حتى البيت الذي نسكنه وجدناه مرهونا، وموعد افراغه لا يفصلنا عنه غيرثلاثة اشهر.. أنا لم أتوهم في عمر ما يقسم صدرك بحقد على كل الرجال، وانما توسمت فيه يدا امتدت الينا لتمسح عنا معاناة الزمن، ربما هي رحمة من الله ان يبادر الينا بمن ينقد ماء وجهنا ويستر عوراتنا، انا وافقت على الزواج من عمر، وهو من اصر على ان تكوني معي، فخير الله حقيقة في يده وفير، لا ادعاء ولا أوهاما كما كان يلعلع ابوك وسط الحي أن"خيوله داخلة بخير"، كنت أتصورك بنتي بصدق الظن واليقين:، أما وأثرالوراثة فيك منقوش، فلك الاختيارأن تكوني معي، أو الانحياز لخالك، فتضيفين اليه عبئا جديدا الى أعبائه.. لن امنعك، أنت حرة، أما أنا فلن أتخلى عن بصيص من نوراخترق حياتي ولا أملك الا أن استضيء به، وكيفما كان، فهو أوضح بكثير مما عشته مع أبيك ..

رمت الام كلماتها ثم دخلت غرفة نومها، وقد خنقتها غصاتها فصارت لا تتنفس الا بصعوبة، وفي مسامعها كلمات السعدية من ورائها كنفير تحذيري تخترق مسامعها:

"حلي عينيك قبل الزواج, أما بعد الزواج غيرغمضيهوم، راك مجربة.

كانت السعدية لا تتجسد أمامها الاصورة ابيها الذي خرجت من صلبه، صورة قزمية قد اسود لها وجه، وتهرأت له عينان، فصارتا جمرتين كجمرات فرن الحداد، الرغوة من بين شدقيه تتطاير، وهو يصيح مستكبرا، تياها، غير شاعر بسكره وضلاله، ولا يملك قدرة للسيطرة على انفعالاته المفرطة، عار الا من سروال ممزق الى ركبتيه، يدفعها دفعا خارج البيت مع أمها التي أوشكت أن تسقط في حفرة قد امتلأت ماء آسنا، وقد تمزق لباسها وكأنها خارجة من معركة حربية لاتبقي ولا تذر ..مشهد مرعب، كم فتك بصدرها وعقلها وكل ذرة من كيانها، ظل يؤرقها بليل ونهار، حتى بعد أن تدخل أهل الخير بصلح هو في صالحها وصالح أمها خوفا عليهما من مكر الشوارع وأخطارها ؛أية كرامة بقيت لأنثى، ورجل هو أبوها، المؤتمن عليها يرميها خارج البيت ككيس قمامة بلا رحمة؟. ماتت فيه الابوة والرجولة، كلب مسعور قد تجرد من كل إنسانية !! ..أبعد هذا تثق في رجل؟؟ !!كلهم سواء !!..

تزوجت حليمة والد السعدية بعد إلحاح شديد من أبيها الذي أكد لها أن الرجل قد تاب من السكر والمقامرة بالرهان على الخيول، وصار يلازم الصلوات الخمس في المسجد، لا يهتم الا بمتجر الألبسة البالية الذي يديره، وهو الى حد ما ميسور ماديا، والحق يقال أنها عاشت معه، رغم تقلبات مزاجه، وسرعة انفعالاته، أزيد من سنة، استطاع خلالها أن يساعدها على حيازة البيت الذي تسكنه بالشفعة من أخيها بعد موت والدها، كما انهما أنجبا السعدية التي أدخلت بهجة الى حياتهما، لكن سرعان ما انقلب الرجل راسا على عقب بعد أن علم ان احد أصدقائه قد غنم الملايين من الرهان على الخيول، ثم التف عليها بالكذب والحيلة الى ان وقعت له وكالة للتصرف في البيت بحجة الارتهان في شراكة تجارية بينه وبين احد معارفه ..

صار البيت جحيما لا يطاق، أهمل صلواته إهماله لنفسه وأهله، لا ثقة الا بما يغريه به شيطانه، وتلويحات الطمع من خيوله، استهزاء واستخفاف بها وبكل من حوله، كل يوم صار البيت ينقصه شيء من أثاث حتى يحقق لنفسه قنينة خمر وورقة قمار، وقد بلغ الامر حدته يوم امتدت يده لبعض مجوهراتها مما ورثته عن أمها، ثم طردها من البيت ومعها السعدية بعد أن عيرته باللصوصية وقلة الدين وأنه بلا أصل، وكانت السعدية في السنة الثانية إعدادي، قد بلغت الرابعة عشرة من عمرها، مما جعل الام تصر على الطلاق، ولم تعد الا بعد ان تدخل أخوها وبعض وجوه الخير واطفأوا نار غضبها، و أقنعوا السعدية كذلك خوفا عليها من التشرد وذئاب الشوارع بعد ان تم اكتشاف ان البيت الذي ورثته حليمة عن ابيها تم رهنه من أجل المقامرة على الخيول لا من أجل شراكة تجارية كما ادعى .. فرضوا على الزوج مبلغا يوميا يقدمه لها عن طريق أخيها تسد به كفافها وأوكد حاجات ابنتها، فلئن تعيش حياة عرجاء في بيتها وهي مقيمة فيه ريثما يتم إيجاد وسيلة لفكه خير من أن تتحول وبنتها الى فاكهة احتراق قلب مجتمع لا يسيره غير ذئاب الردى ..

سنة كاملة مرت الآن على موته، وهي تعيش كفافها مع السعدية بما يساعدها به أخوها، وما يجود به اهل الخير من العائلة، ومن إرث ابيها من أواني نحاسية قديمة تنازل أخوها عن حقه فيها فباعتها لأصحاب البازارات...

لم يكن لعمرأبناء، فزوجته المريضة كانت عاقرا، أوهكذا توهم، وما ان صادف حليمة في احد المتاجر حتى تذكر بنت الحي ذات الوجه المتورد من حياء، والعيون الجميلة برموش طويلة، والضفيرتين اللتين تهتزان يمينا ويساراوهي تسير بسرعة وكأنها عادة قد تعوَّدتها، كعادتها لباس بنطلون الجينز الأزرق..

كم كان يستهويه أن يتابعها من خلف وضفيرتاها تتقافزان يمينا ويسارا وكأنها تتعمد ذلك، كم حاول أن يثير انتباهها اليه كلما صادفها في الطريق، لكنها لم تكن تلتفت لأحد، وكأنها مأمورة أن تعود من المدرسة أو من مهمة قضتها الى البيت بأمرين:

أن تحرك ضفيرتيها، وان تعود الى البيت بلا تأخير ..

في كل لقاء بينهما كانت حليمة تحدق في عيون عمر، كانت تجد حنانا وشغفا يرتج له صدرها برغبة اليه، تحس كأنها تجالس رجلا هو ما كانت تتمناه في احلامها قبل ان يفرض عليها أبوها بائع الألبسة البالية، كانت كلماته الرومانسية تجعلها تنجذب اليه، وتتمنى لحظة تجد نفسها بين أحضانه، فلباقته ابعدت عنها كل إحساس بالخوف على نفسها وعلى مستقبل السعدية، فكل ما كان يتفوه به نابع عن رغبة جدية وصدق، أنه وجد ضالته، كما هي قد بلغت إحدى أمنياتها، فصار قلبها يمطر توسلا أن يحقق الله رغبتها فيه ..

قالت له مرة: عمر !! .. هل انت مقتنع بأن تكون السعدية معي؟ عمرها سبعة عشرة سنة وهي مقبلة على البكالوريا، شخصيا لا استطيع العيش بدونها، فأرجو أن تضبط قرارك بالتروي، فالأيام أمامنا، وضبطها بإيقاع العقل واجب كراشدين ندرك ما نريد ..

أمسك بيدها، وقال:

ـ حليمة عزيزتي، لم أندم يوما على قرار اتخذته، لأني مسؤول عما اقرر، عُمْرُ زواجك من المرحوم وزواجي من المرحومة يكاد يتقارب، ربما انت قد عشتِ حياة متقلبة بين مد وجزر، لكن ثقي اني عشتها رغم اكتشاف مرض زوجتى من العام الأول لزواجنا، بلا ندم ولا يأس من قدرة الله، لأني كنت قد اخترت زوجتي عن قناعة ورضى ؛ ومذ التقيتك، أيقنت أني وجدت أنثاي بكل الإشارات والكلمات، فقلت ذا سقف من قديم معرفتي جازاني الله به على صبري حتى أحتمي بظله.. لن تندمي ابدا حليمة هذا وعد مني ..

قلبت حليمة الأمر من جميع الوجوه، هي قد تعلقت بعمر، ولن تجد رجلا مناسبا مثله، كثيرا ما صغت اليه وبإمعان وهما معا، فلم يكن الرجل الذي يبالغ او يدعي أو يعد بما لا يستطيعه، كان واقعيا يحكي حياته الماضية بعفوية، ويكفيها وفاء منه وثقة به، أنه اكتشف مرض زوجته من سنته الأولى معها، ولم يتبرم أو يشكو، او يفكرفي تركها.. ربما هي وعمر متناقضان على مستوى الغنى والفقر، لكن ما ترسله عيونه اليها لا يمكن ان يغير معزوفة أعماقه وما يترجمه اللسان..

هي تدرك أن السعدية وهي ترفض ان تعيش معها في بيت زوج جديد، تقيس على سلوكات أبيها، سلوكات تطويها، تعصرها، و تهيمن عليها بقماط من خوف وقلة ثقة، فأبوها لم يكن معها رحيما ابدا، كما لم يكن غيره من رجال الحي الا صورة منه، وهو ما يرعب السعدية وفي نفسها قد حفر عن صديقات لها في الثانوية، كيف يعانين من نزاعات الأب والام اليومية ..ربما قد أغضبها ما تفوهت به السعدية، لكن لها تجد عذرا، فالسعدية مذ وعت الحياة ما ربت عليها الاب بيد رحيمة، ولاتقرب منها بهدية، ولاحاول أن يعرف حتى مستواها الدراسي والى أين بلغت، فهي لاتسمع الا شخيره أو أحلامه المزعجة، ضجيجه و صياحه في البيت او الحي؛ أنى تلفت أو مر، تفر البنت خوفا واحتراسا مما قد يصدرعنه بلا تفكير..

"لن يحترق صدري على السعدية بكدر أو غضب فهي بنتي أولا وأخيرا"

هكذا تفكر حليمة وهي تبحث عن لغة هادئة ناعمة تعيد بها الحديث مع السعدية حديثا يقنعها أن عمر ليس هو غيره، فعمر لم يترب بين خيول الرهان وأوساخ السكارى، وأبخرة أكياس الثياب البالية، عمر رجل متعلم واع، يحمل مبادئ وقيم، كقناعة فكرية وسلوك حضاري لا كشعارات واقوال..

بكل هدوء ورباطة جاش دخلت حليمة على السعدية غرفتها، جلست على جانب سريرها، كلا المرأتين غلبتهما ابتسامة وكأن النقاش السابق لم يؤثر في علاقة الحب التي توثق بينهما، فالسعدية قد تعاند، وقد تتشبث برأي، ولكنها نبض من أمها تتراجع على ذبذبات العقل حين يومض بفكرة تقبل التصديق والتطبيق .. توسلت حليمة من السعدية أن تلبي لها رغبة كآخر محاولة منها قبل أن تحزم السعدية أمرها و قرارها الأخير، قالت حليمة:

ـ عندي طلب، هل ممكن تسمعينه؟

ردت السعدية وقد تبسمت منها العيون قبل الشفاه:

ولماذا لا؟، ألست أمي!!.. وطاعتك واجبة، الا فيما قد تضيع معه كرامتي أو أحس بإهانة من أحد؟ . أنا عجينتك وهذا ما تعلمته منك الا في القليل ..

بكل هدوء وثقة نفس قالت حليمة:

معك حق، وصف دقيق لبنت ربيتها على الكرامة وعزة النفس.. صمتت قليلا ثم تابعت:

عندي اقتراح وأرجو الا تقاطعيني حتى تسمعي رايي..

حركت السعدية رأسها إيجابا فقالت الأم بلا مقدمات:

ما رأيك لو نجلس معا، وعمر ثالثنا في مكان خارج البيت، أو أستدعيه للبيت اذا سمحت، نتحدث، وتتعرفين عليه عن قرب، ثم بعد ذلك اكشفي عن رغبتك وقرارك الأخير، بلا زيت ولا فتيل من أي منا .؟؟..

احست البنت بذكائها أن هذا العمر قد درع أمها، فقيَّدها بشيء فيه مثير، وهي قد عادت تحاول معها بطريقة أخرى حتى تقنع نفسها بماعزمت عليه...

"لماذا لا أجر معها خيوط اللعب؟ على الأقل أتعرف على هذا العمر الذي أراد ان يسرقها مني، أو يغريها بما ليس فيه، كل الرجال سواء، يبدأون في وداعة الخرفان وينتهون بشراسة السباع، لن يضيق بي أفق أو يمتصني ظلام !! .. اسمعه، فقد أكتشف ولو القليل مما خفي ولم تتنبه هي اليه، حقا مظهر الانسان لا يدل على حقيقته، لكن يمكن أن أتلمس ولو بعض الظلال مما غيبه اندفاع أمي لرجل ربما تمنته ذات زمن، او وجدت فيه جابر حالتنا فرمت بنفسها بلا تدقيق" ....

تعي السعدية جيدا وهي بذلك مقتنعة رزانة أمها وتعقلها، لكن ما في أعماقها من أثلام وجراح يغطي عن كل ثلمة مضيئة قد فتحتها حليمة في أعماق السعدية التي تذكر يوم رماهما الاب الى الشارع، غشاوة على العينين، وأنين موجع في الصدر، فبقدر ما لانت الأم، كانت هي تمتنع عن العودة .

ـ "لن أستطيع رفع بصري الى أي رجل سلك مسلك من كان يدعي أبوتي، رماني بين الأقدام ..لا ابدا..اشك أن يكون ذاك أبي ! .. وكيف يكون أبي وقد دفع الباب وراءنا وهو يقهقه بلا رحمة من داخل البيت؟

هكذا واجهت السعدية أمها التي تستعيد الآن كلماتها وقد ضمتها والألم يفتت صدرها:

ــ سامحك الله على سوء ظنك بي، ليس هذا هو المهم الآن، المهم هو أننا لا نملك مأوى غير هذا البيت، وهو أصلا بيتي ورثه من أبي قبل ان يرهنه ابوك وينهار لي أمل في استعادته، وخالك يعيش أزمة مادية، فالحركة السياحية تشكو الجمود وهو لا يتوفر على دخل غير ما يربحه من عطايا السياح، العقل يقول: يجب أن نحتمل ونتحمل في ستر داخل بيت هو لنا، بدل أن نصير عالة على غيرنا ونحن ثقل على صدروهم ..لابد ان نتحمل، بدل أن تحز رقابنا الحبال وتحركنا الثعالب والذئاب، أعدك انك ستجدين عمر انسانا لا بهيمة لا يصحو لها قلب ..

تنهدت السعدية وقالت وقدغلبتها دموعها:

ـ أتمنى ! .ولكنهم حقا بهائم وليس بهيمة واحدة، ولا اظنها ستصحوعن قريب..

تغاضت حليمة عن تعبيرالسعدية اليائس الجارح، حدقت فيها بإمعان وهي تقول:

ـ ماريك؟ هل توافقين؟ طاوعيني، لن تندمي ..

نطقت السعدية وكأنها تستخرج كلماتها من كلابة قهر:

ـ أوافق ..لكن بشرط

بادرتها حليمة: ـ قولي ماهو؟

ـ أن يكون اللقاء خارج البيت، لا أريده أن يدخل بيتنا أو يعرف أحوالنا الداخلية ..دواخلنا تركها المرحوم حقارة، لاتسر راء..

فرحة عارمة غمرت كل ذرة في حليمة، فقبول السعدية باللقاء هو تفكيك أولي لترسبات عالقة في أعماقها عن سلوكات ماضية كم ادمت إحساساتها، ولها اليقين أن السعدية ستجد في عمر حين تجالسه ما يقصي تلك الترسبات أو يخفف من غلوائها على الأقل، فلا تظل البنت حبيسة تمركزها حول ذاتها، لاترى في الحياة الا لحظات الغضب والقهر، وانسلاخ بعض الذكورعن إنسانية الانسان، فحتما يوجد في الحياة نماذج غير أبيها من يحملون قلوبا كبيرة تسع الكون كله ..

ضمت السعدية اليها وقالت وهي تتكئ على اختيارها وتؤيده:

ـ وأنا من رأيك، فأنا لا اريد أن يرى بيتنا هذا ويعرف حاله، أريدك فقط ان تبلغي قناعة اليقين بجدوى اختياري ..

أخبرت حليمة عمربما قررته مع السعدية، ففضل ان يكون اللقاء غداء، فالسعدية في عطلة مدرسية، ولابأس ان يجلسا أطول وقت ممكن حتى يتم تعارف مريح بينهما..

كانت بداية اللقاء بين عمر والسعدية تغطيها غمامة بغير قليل من الفتور من قبل السعدية، ولكن هذا لم يمنع الانبهار الذي هيمن على صدرها من النظرة الاولى الى عمر: طول وأناقة مظهر، .. وأول تصرف اثارها حين جر الكرسي الى الخلف بلباقة رجل متحضر ليفسح لها الجلوس وهو يقول وبسمة تشرق على وجهه:

ـ تفضلي، مرحبا، يوم سعيد أن أتعرف على بنتي ...

قبل أن يقوم بنفس السلوك مع حليمة التي ظلت تتابع المشهد بغبطة وبعض الحذر مما قد تؤوله السعدية، ثم تعمقت النظرة بعد التعارف وقليل من حديث..

ظل عطر عمر يملأ الانسام من حوله، والسعدية تتابعه بنظراتها: وسامة هي غالبا ما اثار أمها التي كانت تحس غبن جمالها في رجل لم يكن يقدره أو يحسه مذ تزوجت اباها، غبنا كانت لا تخفيه حليمة، تعصره في كل حديث مع السعدية:

""كم لفتني أحلام اليقظة برجل يحسسني برجولته، وكم شردت اشباعا لتخيلات تهشمت على صخرة قرار جدك، ثقة بمظاهر كذابة مزيفة لمن صار أباك ..سامحه الله !!..."

ـ "لأمي الحق ان تتشبث بالرجل، مظهريا فهو كامل مكمول، هو ولادة جديدة لها، إحياء لكل إحساس قتله ابي فيها طيلة سبعة عشرة سنة، اين يمكن أن تحلم بمثله، الحق يقال لا مقارنة بينه وبين والدي الذي كان لايغير ملابسه الا بعد شد وجذب مع أمي، مشغول بخيوله عن نفسه وبيته حتى سرقه الموت وهو لا يدري ..هذا على الأقل ما يوحي به ظاهرهذا العمر من طريقة استقبالي، وكيف ترجم احترامه لي، ومن بعض ما تلفظ به من كلمات معي "...

كان المكان رومانسيا رائعا، طاولة في مول على شاطئ البحر حيث صخب الأمواج يرمي برذاذ ينعش النفس، كانت حليمة تعرف ان السعدية لم يسبق لها الجلوس في مكان كهذا، لذلك فقد وجدتها مأخوذة بسحر المكان، منبهرة بما ترى ..وكان عمر يقرأ السعدية بنظرات يسرقها بين حين وآخر، فيستعيد صورة حليمة في صباها وهي تحرك ضفيرتيها، تتسرع العودة الى البيت؛ السعدية نفسها أمامه الآن أنثى شابة اخذت من أمها جمال المحيا والعيون الواسعة، والشعر الغامق المسدول على كتفيها، لكن من عيونها يطل نوع من الأسى والتوجس وعدم الرضى، وكأي مراهقة كانت تتصنع وجودا بحضور ملفت انها صاحبة الراي والقرار..

اقبل النادل يسجل الرغبات، بقدر ما كانت حليمة تبدو عفوية لأنها المرة الثانية التي تزور فيها المكان مع عمر، كانت السعدية مترددة لا تعرف ما تطلب، أحس عمر بترددها من نظرات الاستنجاد المنكسرة الى أمها وكأنها تقول: أغيثيني!!..

انبرى عمر وقال: بنتي السعدية ضيفتي اليوم، واذا أذنت لي سأختار لها بذوقي، التفت الى الام وسال كاستشارة: هل تحب السعدية السمك؟

حركت الام راسها وقالت: "اقلب القدرة على فمها تخرج البنت تشبه لامها"

طلب عمر أنواعا من المقبلات، واشكالا من الأسماك وعلى مختلف الطعوم، حتى ان السعدية لم تخف انبهارها بما كان على المائدة..

"لباقة وكرم "!! ..هكذا قالت في نفسها ..بسرعة داهمها طيف أبيها، جرفه صوت تلاطم الأمواج وهو يثيرها برغبة الى حياة لم تقرأ عنها الا في بعض المجلات، ما عرفتها ولا حلمت بها من قبل، وكثيرا ما مدت يدها من تحت الطاولة تضغط على ركبة أمها غبطة وحبورا وهي تهمس اعتذارا:

"يكاد قلبي يتوقف عن الخفقان، أي سحر هذا؟ أحس كأني طفلة لا تجد تفسيرا لما يحيط بي.. يقينا رجل مثل هذا لا يمكن ان يتصرف الا من طبع أصيل، لا ظرفية ولا استغلال موقف.."

أدركت الام أنها اصابت هدفها باقتراحها اللقاء الثلاثي، وان فرحتها بحبيب العمر طالب يدها قد انتقلت من قلبها الى قلب السعدية، كانت ترفع بصرها الى عمر، تقرأ في عيونه غدها الموعود، فيرفع عمر يده الى فمه ويقبلها كاطمئنان من قلبه يخاطب إحساسها ..

وهم يشربون القهوة كان عمر يرفع بصره الى السعدية يتملاها طويلا حتى انها أحست بالخجل من نظراته، فنظراته نظرات قارئ متفحص، لكن من قلب عيونه يتفجر صفاء لم يسبق أن رأت مثله في عيون غيره، "شتان بين رجل ورجل" عبارة كم رددتها في دواخلها !! .. هل هي التربية، أم الثقافة، أم الأصول، ام كل ذلك حين يجتمع فيخلق انسانا من فصيلة الانسان كما أراده الله أن يكون .. قال لها:

السعدية بنتي، وأقول بنتي بصدق والله على ما أقول شهيد، عمر لن يكون ابدا كأبيك يرحمه الله، فشتان بين اب كبرت بين أحضانه، ترعرعت بين كل جزيئات حياته، لاعبك ودلعك وأحبك بطريقته الخاصة، فهمك وفهمته، وبين اب ستدخلين بيته وانت انثى كاملة الأنوثة، واعية، تدركين كل ماحولك، بعد أن عشت كثيرا بين منافذ الضوء والظلام، ضاقت أو رحبت، وتستطيعين بها ان تعبري جسرالمواقف التي تصادفك فتميزين بين خير وشر، وبين صدق وكذب ..ولو أني لم يسبق لي أن جربت الابوة فأنت أول بنوتي، انت بنتي السعدية، أكرر واشهد الله اني اقولها من عمقي وبإرادتي، وبدءا من غد يمكنك مصاحبة أمك الى بيتك الجديد، فربما فيه ما يحتاج الى تغيير، و لي اليقين انك ستجدين فيه كامل راحتك كطالبة لن اقنع منها الا بشهادة عليا من هنا أو من خارج الوطن حسب رغبتها ..

انتبه عمر الى حليمة التي غلبتها دموعها والى السعدية التي عانقتها وهي تقول: الناس من حولنا ماما بلا بكاء هذه لحظة فرح، بداية عمرك وعمري، ثم مدت يدها لعمر وقالت: لن أكون متسرعة اذا طلبت أن تسمح لي فأناديك بابا؟ أنت بابا.. لا انكر انك ابهرتني، فما كنت أتصورك بهذا النبل والاريحية، لهذا فقد طفر اعجابي بك منذ النظرة الأولى وشعرت بسخافة اوهامي السابقة، وربما لي أعذاري ..حقا "للي ما عرفك خسرك"، وثق انه ليس الشكل ولا الهندام ولا الكرم ما جذبني اليك، وانما مروءتك واتزانك، ولن يقدرك الا من التقى بك وسمعك، أما من يصغى اليك فيصير بعمر مديد، وأكثر من ذلك كله وأبلغ، احساسي العميق باني سأسلم امي لفارس احلامها كما حلمت به من صباها، كما سأسلم حياتي لابي الحقيقي بلا تردد ولاخوف، وبكل الصدق الذي قرأته في عيونك انت يا أبي العزيز...نسلم لك أمرنا بصنوج وطبول ومشاعل نسأل الله أن يشهد الزمن لعمرنا بالطمأنينة وراحة البال ..

شد على يديها، وقفا معا وتعانقا ثم قال: لكن من سيرقص على دقات الطبول؟

قالت حليمة واللحظة تستغرقها بفرحة عميقة:

ـ هي السعدية أحق منا بالرقص،

تنهدت ثم تابعت وهي تركز في عيون السعدية:

ـ هل شفيت عقدة دمالة الوجه؟

أدركت السعدية معنى السؤال وقالت: كل شيء بأوان، المهم أن تظل الشعلة فوارة..

طيلة الطريق من المطعم الى البيت والسعدية تكلم أعماقها، وقد ارتخت على المقعد الخلفي في سيارة عمر:

"ما أنقاك أيها الرجل من بداية اللقاء الى آخره لم تنبس بكلمة سوء عن أبي ..!! "لقد كنت صادقة أيتها الام العظيمة، كدت أفسد عليك اختيارك، الان أدركت لماذا كنت صارمة في قرارك، ورغم عنادي كانت عاطفة الأمومة فيك هي التي تخاطبني وتقنعني..من صباي وأنا أحس بأثرك الكبير في حياتي، عطاء كلما تزايد منك صرت أنا بعقل أكبر وأوعى، حتى في أشد المواقف وأنت تحت سوط الظلم ممن كان أبي، كان رأيك تجربة سلوكية من رؤى تلاشي انانية رجل كان لايتجاوز عقله رقم فرس وقنينة خمر، لا أدري كيف اسقطوك في حباله !!..؟؟. . بعض الآباء نسخ مشوهة مما خلق الله، لاتتقلب من اختيار الى آخر الا كما تتقلب دابة في التراب، لايهمها ما يجنيه المارون مما تثيره من أتربة وغبار، وهي تحك دمامل جلدها، بقدر ما يهمها التخلص من الدمالة التي تثيرها، هكذا بعض الآباء، ما يهمهم هو التخلص من البنت" دمالة الوجه". حقيقة أنا أولى بالرقص على الطبول فالمشاعل أضاءت أعماقي.."

انتبه عمر الى صمت السعدية فقال ويده اليسرى على القيادة: هل نمتِ السعدية؟ ام سرقك سارق؟

قالت وقد ضغطت على كتف أمها من الخلف:

السارق الذي سرقني سائق ماهر، عيناه على الطريق ويسراه على القيادة أما يمناه فتسوق الأحاسيس ...

انتبهت حليمة الى يد عمر تمسك بيدها فضحكت وقالت:

ـ يالطيف لايفوتك أي شيء !!

رن الهاتف ليلا في بيت حليمة، كانت في سريرها بين نوم وصحو، مدت يدها في دهشة الى هاتفها وعيناها تحدقان في ساعة حائطية أمامها:

ـ اللهم اجعله خيرا ماذا يريد عمر في هذه اللحظة؟

ردت عليه وقد تملكها غير قليل من خوف:

ـ خير حبيبي ماذا حدث؟

طمأنها بعد اعتذار منه وقال مازحا: كم مرة قلت لك لاتخافي من عمر..

بادرته: أخاف على عمر حبيبي وليس منه ..

ـ صمت قليلا وقال: هل السعدية نائمة؟

استغربت للسؤال !! ماذا يريد عمر بالسؤال عن السعدية في ساعة مثل هذه؟..

أكثر من احتمال مر بخاطرها !! ..

اهتزالهاتف في يدها اهتزاز ذبذبات صوتها: نعم، لماذا حبيبي؟..

أدرك خوفها، ..فبادرها:

مابك حليمة؟ أحسك مضطربة، غدا عيد ميلاد السعدية، أليس كذلك؟.

ـ نعم لماذا؟ السعدية ماعادت تحتفل بعيد ميلادها .

ـ لكن غدا ستحتفل به..اسمعيني بلا تأويل .

أحست قلقه وهو يسترسل في كلامه:

ـ غدا سامر عليها بالثانوية بعد حصة المساء، سآخذها معي، لن تغيب كثيرا، ما أطلبه ألا تخبريها بأي شيء..لا تقلقي..اياك أن تخبريها.. تصبحين على خير حبيبتي، أحبك وأعتذر ان غسلت النوم عن عيون حبيبتي ..

ليلة أرق رماها عمر على وسادة حليمة !!..حقا فقد غسل النوم عن عيونها. !!.

"لماذا لم يدعني معها؟ وكيف عرف عيد ميلادها؟ولماذا تعمد أن يأخذها من الثانوية مباشرة؟

أعوذ بالله من سوء الظن ..لا هي ولاهو قابلان للشك .هل أخبرها؟ قد يغضب وقد يفقد ثقته بي ... سأترك الأمر للقدر..

لم تنتبه السعدية أن عمر وهو يركز النظر اليها يوم اللقاء الأول، قد استطاع قراءة الأرقام الدقيقة في القلب الذهبي المخروط المعلق بسلسلة في جيدها، ولا أمها انتبهت لذلك، كان القلب والسلسلة هدية من خالها في عيد ميلادها الثاني، والذي لم تحتفل به الا مرتين أو ثلاث في عمرها ؛ كانت تتعلق به و يلازمها لأنه آخر ماتبقى مما سرقه ابوها وباعه من أجل الرهان على الخيول..

كان عيد ميلادها يصادف اول يوم من الدخول المدرسي بعد العطلة، فلم يستطع عمر ان يستدعي حليمة والسعدية الى عشاء للاحتفال بالمناسبة .. أو يشتري هدية بذوقه ويفاجئهما بها في بيتهما، فقد تحرج من ذلك فربما العادات والتقاليد لا تسمح في حي ما أكثر ما يراقب الناس بعضهم بعضا وما يتقولون، ودخوله كغريب قبل الخطبة قد يجر على المرأتين كثيرا من القيل والقال .

كانت مفاجأة السعدية أكبر من مفاجأة أمها للهاتف الليلي وهي ترى سيارة عمر تقابل باب الثانوية مباشرة، نطت اليه بين اندهاش انظار صديقاتها اللواتي لم يصدقن قفزات السعدية الى صاحب السيارة الذي دعاها الى الصعود، وكان استغراب الصديقات أكبر حين لاحظوا كيف تعلقت السعدية به وعانقته في تبادل للقبل على الوجه ..

انطلقت السيارة مخلفة وراءها عاصفة من الاستغراب والدهشة.

قال عمر: عندي لك مفاجأة لكن لن أخبرك بها حتى نكون في المكان المناسب.

استغربت وقالت: وماما أين هي؟

قال وهو يضحك: هرولتُ الى الفتوة والصبا، وتركت العجائز الشمط على أبواب الترقب .. سنعود اليها، لا تخافي .. .

ضحكت وقالت: أهذا رايك فيها؟ ويحك حين أخبرها ..

"الى أين يريد أن يأخذها "؟ فقط هوذا السؤال الذي يحيرها لكن ما عداه فهي واثقة منه مذ لقائهما الأول، وازدادت ثقة بما تحكية حليمة عنه، لكن الى اين يأخذها وما المناسبة؟ لم تتذكر ان اليوم هو يوم عيد ميلادها، فهي لم تحتفل به من سنوات، والايام عندها سواء، لا تتعجل غير يوم تنال فيه شهادتها الثانوية. ربما يريد اعتمادا على ذوقها الذي أطراه يوم لقائهما أن يشتري لحليمة هدية يفاجئها بها.. لا تدري !! .. انتبهت ان السيارة تتجه ناحية المتاجر الكبرى .. سالت وكانها تتدلع:

ألا تريد أن تخبرني الى اين يبحر قرصان عجوز بطفلة بريئة؟

قال ضاحكا:الى حيث أرسلني موطن الأسرارالمعلق في عنقك..

تلمست قلبا صغيرا في عنقها وكمن لسعتها الذكرى .."اليوم عيد ميلادي "!!..

التفتت اليه وقالت: كيف عرفت؟

قال وهو يضع اصبعين على عينيه: عيوني من عيون زرقاء اليمامة .. عيد ميلاد سعيد بنتي عزيزتي، من الآن وكل عام آت وانت أحسن وأجمل ..

كان ينزل في منحدرمدخل مرأب المول فلم يستطع الالتفات اليهاالا بعد أن أوقف سيارته، خرج ثم ضمها اليه وقال:

سندخل لاقرب متجر نسائي، تختارين بلا تقتير كل حاجة اعجبتك وتاقت لها نفسك، فقط لا تتأخري لان حليمة تذرع البيت قلقا عليك، لا تنسي أن تتذكريها بشيء من ذوقك . .

كانت السعدية واجمة، لاتدري ما تقول، كل ما حكته حليمة عن الرجل تراه بأم عينيها واضحا جليا، رجل يعرف كيف يأسر أنثى بلباقته وكرمه !! .. أخبرتها أمها ذات مرة انه يتضايق متى قدم لغيره هدية وتم رفضها، فشعاره: الهدية لا ترد .. ستصمت لكن كيف تبرر موقفها مع أمها؛كان عليه أن يخبرها من قبل حتى تستأذن، كادت أن تسأله هل فعل؟ لكن ليس من الذوق فسؤال مثل هذا قد يجر قلقه وعدم ثقتها في نفسها ...

انتهت من اختياراتها، فدعته ليرى ما اقتنت قال:

ـ أثق في اختياراتك،، فمن تصور المعاني وتترجمها لايمكن أن تخطئ في جمال ماترتدي، ومن يوم لقائنا الأول أدركت تلك الاناقة طريق القلب، فهل وجدت السعدية صعوبة في دخول قلبي؟

ضحكت وقالت:وكيف يستعصي علي قلبك ولسانك ذوق قبل قلبك؟.. وكل سلوك منك هو نبع ابوة صادقة، أنا لم اتعجل نداءك بابا عبثا ..

شدها اليه وقال: لكن دعيني أرى ماذا اخترت لحليمة اذا سمحت، تفحص الاختيارات فأعجب بها ووجدها مما يناسب حليمة ؛قال للسعدية ضاحكا:

ـ هات خدك .. قبلها ثم قصدا السيارة ..

لم تنتقل حليمة والسعدية الى البيت الجديد الا بعد ثلاثة أشهرمن التغييرات والتبديلات التي طلب عمر من حليمة ان تقوم بها في البيت حسب ذوقها، بعد أن استحسن ميلها الى الألوان الفاتحة والخشب الدافئ المبهج، وهو عكس ما يوجد في البيت، وما كانت تفضله المرحومة زوجته، وللحقيقة فهو نفسه كان يسعى من وراء تغيير بعض الأثاث أن تخلق حليمة داخل البيت بذوقها وشخصيتها المرحة ما ينعكس علي حياته الجديدة، فالأمل الذي يجتاح نفسها هو نوع من الراحة النفسية التي قد تغير الجو الحزين الذي كان يفرضه مرض المرحومة زوجته ..

خلال هذه المدة كان عمر قد حرر بيت حليمة من الرهن، وتسلم وثائق رفع اليد، وكانت السعدية قد أنهت امتحاناتها بتفوق في البكالوريا، وتستعد لاختبارات الانتقاء التي تنظمها المدارس والمعاهد العليا ..لم يكن لها إحساس بخوف من ذلك فهي متمكنة من نفسها وقدراتها، وقد اقترح عليها عمر أحد المعاهد الفرنسية لكنها كانت مترددة، فهي مرتبطة بأمها ارتباطها بشريان هذا الوطن، الذي تؤمن بصحوته يوما، فقط تلزمه هزة تمكن شبابه من اظهار قدراتهم العالية وابداعاتهم الخلاقة، هزة قد تكون ثورة بيضاء، او ربيعا أخضر، أو جائحة تعيد صياغة الحياة بتصور جديد، ومفاهيم غير ما هو سائد، وتفتح العيون على النقائص ..

جلس عمرالى حليمة ذات مساء وأخبرها بتحرير بيتها من الرهن، ملأت السعادة قلبها، وكأن عمر قد حررها من أسفها وأعاد لها الصبا المفتقد على بيت رغم صغره ووقوعه في حي شعبي الا انه كان مخزن ذكرياتها الطفولية، فقد كان كجرس ينبهها كل حين بقلق يخض صدرها، كيف وثقت بزوجها السابق وسلمته توكيلا برهنه؟

وجدت حليمة أن عمر على لسانه شيء يريد أن يخبرها به ولكنه يتحرج، وضعت يده بين يديها وقالت:

كم أعشق هذا الوجه وهو ضاحك !! ..لكن حين يداهمه عبوس تغيب فرحتي، فما الذي يقلق "الزين ديالي"؟ هل ظهر من أهلك من يمنعك عني؟ لا اريد أن يدق قلبك باي شيء يعكر مزاجك، أياك أن تقدم على أي فعل قد يكون لك فيه حرج أو..

بسرعة وقبل أن تنهي كلامها سل يده ووضعها على فمها ثم قال:

حليمة ياحبيبتي!!..لماذا تصرين على ان تجعلي من حبنا معارك، معركة مع السعدية وربحناها، وشبه معركة الهاتف ليلة عيد ميلاد السعدية وتجاوزناها، وهذه معركة جديدة تدقين طبولها الآن !!.. سافرت بعيدا ياحبيبتي !! .. الامر أبسط مما تتصورين، ولكن خفت أن تؤولي مسعاي فترددت في قول ما أريد.. فلازال اللجام لم يستقم بعدُ في يدي ..حليمة ياحبيبتي، انت صرت في حياتي خطوتي المتجددة، "ومستحيل ان تحتويك الظنون " وأنا بك قد لملمت كل الأمنيات، ولن يستطيع أي كان أن يحولني عنك أو عن بُنوَّتي للسعدية، هذا حديث لا اريد ان تنبسي به حتى مع نفسك ..

أدركت السعدية أن عمر يسجل كل ذبذباتها ولا تفوته نبضة مما يخالجها سيان كانت معه أو غائبة عنه، ارتمت عليه وقالت:

مهرتك لك طيعة ياحبيبي، وانت نفسي يا عمر، صدر احتضنني أمنا، فيك أمي وأبي بل أنت أحن واشفق، فقط أنا لا افكرالا بجهر معك، أعرف حساسيتك لكن اعذرني .. بربك قل فيما تفكر؟

ضحك وقال: اريد أن اشتري بيتك منك ..

شدته اليها بقوة وقالت:فقط هو لك هبة ياحبيبي، أهذا يحتاج لكل هذا الاحتراس منك؟ انت بمالك قد فككت رهنه، فانت أولى به من غيرك..

ـ لا، لا اريده هبة، أريده بمقابل، لكن اسمعيني جيدا ولا تقاطعيني او تعارضيني ..

ضحكت وقالت: ماعهدتك سلطويا، أهذا عمر !! .. "الفقيه اللي كنتسناو براكتو داخل للجامع ببلغتو."؟.

قال وقد شد شفاهها بطرفي اصبعيه:

ـ مايعجبني فيك هو هذه الأمثلة كم ارتاح لها..ترك شفتيها، لثم أصبعيه ثم تابع: ـ الامر لا يتعلق بسلطة ولا بهيمنة، الامر سر بيني وبين نفسي، وانت تصيرين المؤتمنة عليه، ولا اريد ان تعارضيه او تسألي لماذا؟ أكره حليمة أن يستمر أحد في استغفالي بعد اليوم، أو يستغل طيبتي..

قالت وكانها قد تعجلت ما سيقول وقد اثارتها كلماته:

كيف لا أسالك عمر؟، ومن يجرؤعلى استغفالك أواستغلال طيبتك؟ وانت من وحدت اضدادنا، فانا معك لا أملك الا الشكر والطاعة والامتنان، أنت كل وجودي، فتصرف بلا استشارتي ولا رأي مني..

قال: لا اتحدث عنك ولا عن السعدية، ولكن عن غيركما وعن مستقبل ليس موضوعه الآن، سأشتري منك البيت مقايضة ببيتي الذي سأكتبه لك مناصفة مع السعدية وسأشهد أني تسملت منك إضافة نقدية حتى يكون البيع بلا تأويلات ولا شكوك ..

أرادت أن تتكلم فقال: نهينا الامر حليمة فقط هل انت موافقة؟

غلبتها دمعة، قالت: أوافق على ماذا؟ انت حكمت الا أتكلم وانا طوع يديك حبيبي، "ماذا عساه يقول ميت أمام غسالو"؟ أنا ملكك فأحرى قفص من ستين مترا مربعة..

قبل ان تتركه الى الحمام قال لها: كل اثاث فائض من بيتنا سأرسل من يحمله الى البيت الثاني ..ومن اليوم سيصير البيت مخزنا لي ..

طيلة ليلها لم تنم، تحول سريرها الى شوك قتاد، أو يعاسيب تلسع جسمها !!..

ماذا يدور في عقل عمر؟ أن يقايض بيتي ببيته، ويتحمل إضافة يدعي انه تسلمها ذ ويكتبه مناصفة بيني وبين السعدية، ويؤدي فوق هذا ثمن التسجيل والتحفيظ ؛ فلابد هناك سر .. ومن يستغبيه ويستغفله؟.. ومن غيرها وغير السعدية عنده؟ هي سبق أن علمت منه وبتلميح بسيط ان علاقته متوثرة ببعض أهله، لكن الحديث كان عابرا اجمله في كلمات:

"كيخلف الله على الدومة ولا يخلف على من حشها "..لو كانت إساءة لنسيتها، ولكنها شمتة وتحقير ..

من طبيعة عمر ألا يتكلم عن أهله، ولا يذكرهم الا عابرا، والقليل هو ما التقطته حليمة منه، وحيث انها تحترم خصوصيته فلم تحاول ان تسأل او تستقصيه عن صباه، وسر بعض العبارات التي تنفلت منه عن أهله..

ليس لعمر الا اخ وحيد من أمه، التي تزوجت رجلا بعد موت ابيه وأنجبت معه ابنا وعمر لا يتعدى السنة من عمره، وقد كان عمر يحتل الرتبة الثانية عند زوج أمه،، وكم عانى عمر من تسلط أخيه المحتمي بأبيه الذي كان يدلله، ولم يرتح منه عمر الا بعد أن فشل في الحصول على الشهادة الابتدائية ثلاث مرات فارسله أبوه الى السنغال ليشتغل عند عم عمر بتدخل من ام عمر التي ارادت ان تتخلص من مشاكله.

استقر أخو عمر في السنغال، وكان قلما يدخل الى المغرب، فبعد أن تزوج فرنسية صار خطه الرئيسي داكار باريس، لكن رغم ما قد يتربى في الصدور ظلت العلاقة بين عمر وأخيه علاقة موصولة، حرص عمر بطيبته الموروثة عن أمه، وقلبه الكبير أن يمنعها من الانفصام بالرغم من الكبر وغير قليل من حسد كان لا يخفيه أخو عمر بل كثيرا ما جاهر به سرا أو علنا ...

كان عمر يفضل ان يكون زفافه عائليا، لكنه كان يخشى ردة فعل من قبل حليمة التي حكت له يوما ان عرسها الأول كان "كعشاء المعزيين في بيت جنازة "، أولا لضيق ذات يد أبيها الذي لم يكن غير صاحب دكان للتموين صغير، وثانيا لادعاءات الزوج انه يكره الفيش "وللي غادي ياكله الطبيب يأكله المريض " مما جعلها تقبل على مضض، خصوصا وابوها كان يمتنع عن طلب قرض بريبة من أجل وليمة لايتعدى زمنها لحظة من عمر؛حين فاتحها عمر في الموضوع قالت:

ـ عمر ياحبيبي ماعدنا صغارا نفكر بعقل المباهاة والفيش على الناس، عرسنا هو سعادة ليلتنا نحن، وما غيرنا الا حضور لمراقبة اثر التوافق والفرح والرضا في عيوننا، عمر نحن لا نريد شهودا على رضانا عن بعضنا كل واحد منا حجة على نفسه .. ضحكت وقالت:طيب اريد حفلة كبيرة على شرط ان أكون والسعدية قلب ميدة واحدة ..

ضمها اليه وقال:ومن هذا الفيل الذي يستطيع رفعكما معا؟

قالت: حب عمر لنا..

اقتصرت حفلة زفاف عمر وحليمة على عشاء صغير كلف به احد الممونين لا يتعدى مائدة واحدة، حضرته السعدية وخالها مع زوجته وأخ عمر وعمه، وزوجتاهما، وقد أتوا من السنغال .. كانت الدردشة على المائدة فيها نوع من "حك الدبرة" على حليمة التي تسلحت برزانة اثارت الانتباه، كأنها أنثى من اسرة عريقة ذات ماضي عريق، كما أن إلمام أخيها بأنساب المدينة لخبرته السياحية قد جعلته يتعرف على زوجة عم عمر التي بدأت بثرثرة وفيش وانتهت بصمت طويل، أما السعدية فقد اثارت الاعجاب بلباقة حديثها وثقافتها، فلم يخرج المدعوون الا وقد ايقنوا أن عمر محظوظ و لم يخطئ الطريق ولا الاختيار ؛ عمر نفسه انبهر من سلوك زوجته وربيبته، وقد عانق السعدية بالشكر الذي ابهرته بإجابة مقنعة وقوية: أبي العزيز !! ..أخبرتني أمي أن جدي لأمي يرحمه الله كان يقول: "اذا لم نعش في الخير فقد خمسنا على أهله "، فأنا وامي نعرف طبائع أهلك، وقد اتفقنا أن نكون في موقف يشرفك كرجل أكرمنا بخيره وحبه ..جدي لأمي لم يكن غنيا كما يحكي عنه خالي، لكن كان رجل ذوق، عرافة بالأنساب والأصول..

ليلة العروسين لم تكن ليلة فرح وكفى، بل كانت متعة عمر، ما تذوقت حليمة قبلها نشوة مثل ما تذوقته مع عمر، وما احس عمر بنفسه الا محلقا في السموات العلى من قبل أنثى أدركت حرمانه وما عاناه من مرض زوجته بالصبر وقوة الاحتمال،، فقدمت له اطباقا من السعادة والوانا من فنون الحب ..

كانت حليمة كمن تشهد ميلادها مع رجل يقطر رجولة وطيبة، اتى ليفك عقدها القديمة والتي كادت ان تترسخ في اعماقها مذ ربط ابوها مصيرها ببائع الألبسة ..

عاشت حليمة ليلة غبطة وانتشاء بين أحضان رجل أحبته، وبه صفعت ماض كم ارقها ..ثم نامت وهي تدعو لهذا الجوهر أن يحميه الله من شر ماخلق ...

بدأت حليمة مع الأيام يظهرعليها اثر من السمنة التي اضافت اليها اشراقة وجمالا، فهي ما عادت تقوم باي عمل متعب بعد ان وفر لها عمر خادمة ووسائل الراحة مكتفية بمطالعة مجلات الموضة والفن أو الخروج للتجوال والتبضع..

أبانت السعدية في المدارس التحضيرية الخاصة بالاقتصاد والتي دخلتها بايعازمن عمرعن قدرات هائلة وذكاء اثار انتباه أساتذتها، وقد استطاعت من الدورة الأولى أن تحصل على تنويه من الإدارة لما تتميز به من قدرات عملية وابتكارية..

استطاع عمر أن يتغلغل في السوق التجارية، وقد اكتسب ثقة كل من يتعاملون معه دون ان تكون له نية تنافسية على زعامة أو تقلد مناصب في الغرف التجارية أو المجالس النيابية، فسعيه الدائب لم يكن لجني الأرباح، وانما لتشغيل أكثر من عاطل بشواهد عليا، يجوب بها الوطن بحثا عن عمل فلا يجده، مما يجعله ضحية مافيات التهجير، أو وسيلة سهلة للاقتناص من قبل تجار الدين الذين جنوا على الكثير من الشباب بغيبيات لم يأمر بها كتاب ولاسنة..

هكذا بادر الى شراكات مع غيره لفتح معامل تحرك دواليب الاقتصاد وتشغل الشباب..

بعد خمس سنوات تخرجت السعدية بماجيستر في التجارة الخارجية بميزة جيد جدا، وبأكثر من شهادة تنويه عن التداريب العملية التي مرت بها والبحوث التي أنجزتها وهي طالبة في المعهد، كما استطاعت أن تحصل على منحة لسنتين في بريطانية للحصول على شهادة متقدمة في التجارة والعولمة بالمعهد الملكي للتعليم العالي العالمي، وما أن عادت حتى عرض عليها عمر ان تتكلف بأعماله وتسيير تجارته، فالشهادة العالمية التي حازتها دليل خبرة تمكنها من توليد أفكار لتوسيع آفاق تجارته . بدأت تفتح ملحقات خارج المدينة مما جعل عمر يسلم لها كل السلطات مكتفيا بالسفريات مع حليمة، او استقبال ضيوف أجانب فتحت لهم السعدية بوابة لقاءات دعائية لمنتوجات شركات عمر الكثيرة من عطور وتغذية وتعليب و عصائر، وقد استطاعت أن تعقد شراكة مع أحد أبناء صاحب شركة عالمية من تركيا يهتم بصناعة الألبسة الداخلية للنساء والرجال،، ثم تطورت العلاقة بينهما الى ان هاما ببعضهما فتزوجا..

كانت حليمة يوم عرس السعدية حمامة تطير بجناحين، بنتها وعمر، عاشت مالم تكن تحلم به أبدا، لا تسعها فرحة، تتحرك بين دموعها وغبطتها، ورغم أن الطقوس لا تختلف كثيرا بين الشعبين سواء يوم الخطبة أو ليلة الحنة او نهار الزفاف، فقد كانت تدقق في كل شيء، وتتابع كل شيء، وكأنها تجمع في السعدية بنتها كل ما راته في أفلام النجوم فحلمت به، وضاع من عمرها، وقد كانت ترى الحاج عمر وهو يتابع بالمراقبة والحرص الممون بأن يزاوج بدقة وترتيب بين فقرات الاحتفال:تركي/مغربي، وقلبها يطير معه حتى انها تمتمت لنفسها: آه ياحبيبي ياعمر لو كنت عابدة غير الله لكنت انت معبودي .!

خمسة عشرة سنة من زواج مرت كطيف جميل أو حلم ممتع لذيذ، حجت حليمة خلالها مع عمر مرتين، واعتمرا خلال رمضان خمس مرات، وسافرا فيها الى أكثر من مدينة داخل الوطن، وزارت أكثر من دولة أوربية واسيوية، ترافقهما السعدية قبل زواجها ..

كان ما يؤرق حليمة أنها لم ترزق بذرية مع عمر، كانت تشعر برغبته وألمه وتدرك أن عمر يعرف عقمه، ويحاول أن يعوضها عن ذلك بحبه الجارف لها وللسعدية، وبالعمل على إرضائها بكل ما يحقق لها وللسعدية سعادة الوجود والحياة، كان عمر يحس ألمها قدر إكباره أنها لم تحاول أن تثير الموضوع معه، فقد كان يمني النفس بطفل يخلد ذكره فيكذب تحليلات سابقة ابان زواجه الأول، لكن هو أمر الله كيف شاء فعل ...

سألها ذات صباح وهما لازالا في السرير، وقد أخذ يدها يقبلها كعادته:

هل انت قلقة على عدم الخلفة؟

وضعت يده على شفاهها، لثمتها ثم قالت:

ـ أنا لم أكن انتظر منك شاهد رجولة او قدرة، فانت قد حركت في نفسي كل ما ضاع من عمري، أنت لي كفاية ياحبيبي، فيك زوجي وحبيبي وابي وأمي واطفالي، بل عوضت بك حتى السعدية التي رحلت مع زوجها عني، انا لا اريد أن يملا سمعي وبصري غيرك، لا اريد غمامة ولا غلالة تبعدني عن رؤيتك والتفكير فيك، انت حب يا عمر نبضة من عطاء الله لايدرك حقه الا من عاش كما عشت قبل ان أعرفك..

ضمها اليه وقال: وهل وفيت لك بما وعدت وما تستحقينه؟

انغرست بين أحضانه وقالت: حرام عليك، انت وفيت بما لم يستطعه إنسان، ضمني حبيبي، ففي صدرك مدفني ..

ضمها اليه وقال:والله لن تعيشي الا ملكة في خير انت صاحبته..

قبلته وقالت: أميرة ملك هو أنت، كل شيء منك واليك...

صحت حليمة ذات صباح فلم تجد عمر بجانبها، ظنت أنه في الحمام لكن منامته معلقة على المشجب تعلن خروجه؛ بحثت في الحديقة، لا اثر، أخذت الهاتف وادارت الرقم، هاتفه مشغول أو خارج التغطية، بدأ قلبها يصعد الى حلقها وهي صاعدة نازلة تدور بين أركان البيت، أين ذهب؟ ليس من عادته ان يخرج دون ان يخبرها بوجهته ويتناول فطوره ..مرت ساعاتان، ثلاثة، لا خبر .لم يبق امامها غير السعدية، اتصلت بها، ردت كاتبتها ان السعدية سافرت أمس على استعجال هي وزوجها الى باريس، تذكرت حليمة أن عمر من يومين وهو يخفي عليها شيئا كان يشغله، فتوهمت انه من الأرق الذي يصيبه.. بلغ بها القلق أقصاه، وقبل أن تغيب عن صدرها طاقة النور التي كانت تتسلح بها رن الهاتف، وكلمتها ممرضة: "السيد عمر قد خرج من البلوك بعد عملية جراحية، وباستطاعتك زيارته " ثم اعطتها عنوان العيادة..

ركبت سيارتها وأسرعت اليه ..

كالمجنونة دخلت عليه الغرفة في العيادة، ارتمت عليه وهي تشهق من بكاء:

ـ حرام عليك، لماذا لم تخبرني؟ مابك؟ لماذا هذه العملية؟

كان ينظر اليها من بين ابتسامة باهتة ودمعة نازلة على جانب خده الأيمن؛ ادركت انه تعب، فصمتت وشرعت تقبل يده ظهرا وبطنا . .

اقبل الطبيب الذي شرح لها انه لو تأخر دقيقة واحدة لانفجرت مرارته، وقد تم استئصالها بصعوبة بالغة ..

بعد أسبوع سمح له بمغادرة العيادة، قالت له حليمة ضاحكة وهو يودع الطبيب ويشكره:

مع السلامة الحاج عمر "جيتي بوحدك ارجع بوحدك .".

تبسم ومد يده اليها وهو يقول للطبيب:

ـ يشهد الله أني احبها، وأكره ان ابلغها ما يؤلمها، قبل العملية بيومين وانا اعاني في صمت وما تجرأت على أخبارها ..

قالت: أحسست بك، لكن توهمت تقلبك في السرير هو عادة الارق التي تصيبك..

عادت السعدية من باريس بعد ان بلغها الخبر، أتـت وكما وصفت نفسها:

ـ لما اخبرتني الكاتبة صرت "بحال شي هبلة مشيرة بالغراف"

أبحث أنا وأوغلو على وسيلة نقل تحملنا اليكم بأي ثمن ..

أمَّن زوج السعدية على قولها وقال: مارأيت في حياتي انثى تحب اباها حب السعدية للسيد عمر، هنيئا لك يا رجل !! ..أنا مجرد ظل أمامك !!

قال عمر وهو يمزح مع صهره: يجب ان تكون الحاج عمر، ويرضى عنك الله ببنت مثل السعدية، وأم مثل حليمة، عندها ستدرك معنى ان تحبك أنثى مثل السعدية، تململ في مكانه ثم تابع:

انت حكمت من خلال واقعة بسيطة في لحظة أو لحظات، وحكمك هو تحليلك الخاص، وربما هو اللاوعي الذي لم يجعلك تميز بين حب السعدية لي وهيامها بك، فالسعدية تربية أم، لها وعي من طين اصيل، وجذر عميق، من تربة حضارية تجانس فيها الدين بالتقاليد، فصيَّرها حضنا مفتوحا لكل من يصدقها ويخلص لها .. واذا أحبتك السعدية فقد احبك الله..

تماثل الحاج عمر للشفاء وبدا يخرج للحديقة يتمشى ذهابا وإيابا،

و يقرأ التقارير التي تقدمها له السعدية عن سير شركاته وأرباحها، يزور مصانعه ويحيي الرحم مع عماله .

ما أكبر ما حققته السعدية !!..نملة شغالة، وعقل جبار، وفاء وصدق..

اقترح عمر على حليمة قضاء أيام في تركيا، كانت غايته ان يغير الجو،

 ويتأكد من اثر السعدية في نفوس أهل زوجها .. لقد اسعده ما حققته خارج الوطن، فعبقرية المغربي حاضرة أنى وضع القدم، كما راقه اثرها الطيب عند حميها ..

كانت حليمة والحاج عمرموقع ترحاب وتقدير كبير من عائلة زوج السعدية، لم تترك أم اوغلو وأبوه مكانا سياحيا في إسطنبول وبورصة وأنقرة ومرمرة لم يزوروه ..حتى ان الحاج عمر كان يخجل من مودة صهرة وفائض كرمه ..

بعد شهر من التجوال والراحة عاد عمر وحليمة بعد الحاح من السعدية التي هدها الوحم وصارت في أمس الحاجة لخبرة أمها.

امتنع الحاج عمر أن يدخل بيته قبل أن يمرعلى بيت السعدية، هاتفها وهو لازال في المطار أن تعد عشاء معتبرا يليق بفخامة الجدة والجد القادمين ليباركا وحم ابنتهما ..

في الطريق دخل عند أحد المشهورين بصياغة الذهب واشترى خلخالا انبهرت له حليمة وقالت: هذا كثير ياعمر، آخر ذلك الى الوضع ..

نظر اليها نظرة لا تخفي صرامة وقال: أول حمل لابنتي ولا ادري ان كان حفيدي سيجدني حيا ام ميتا؟

اهتزت حليمة بقوة وقالت: حرام عليك ماذا أصابك؟ بعد عمر طويل يا حبيبي..حفيدك يتربى في عزك ...

لم يكن استقبال الحاج عمر في بيت السعدية عاديا. فالممون الذي تكلف بالعشاء أكدت عليه السعدية ان يجلب فرقة عيساوية تكون في استقبال الجدين بأمداح وأهازيج..

ما ان وصل الجدان الى الحي حتى شرعت جلاجل عيساوة تشق سكون الحي السكني الهادئ وصارت باب العمارة التي تسكنها السعدية كركح استضاء بشموع المولى ادريس الضخمة وتضمخ بأدخنة العود والجاوي وسرغينة تتصاعد من مباخر نحاسية كبيرة، واختلطت الحناجر بالزغاريد والجاه العالي ومدح الرسول تحت وابل ماء الزهر والورد من مرشات فضية لامعة .. ..

اول المستقبلين كان زوج السعدية وقد بادره الحاج عمر:

-"شكون المختون"؟

لم يفهم زوج السعدية قصده وقد تفاجأ بضحك كل من حوله وزاد استغرابا حين قالت السعدية:

"زوجي أوغلو، واش جئتوا تكملولو الختانة"

عندها تنبه اوغلو فشد على حزامه وتراجع الى الخلف ضاحكا وكأن الامر حقيقة وقال:

لا والله مختون من اليوم السابع من ازديادي..

كانت حليمة تجذب على نغمات غيطة عيساوة وكأنها مسحورة بها مما دفع السعدية الى ان تلازمها خوفا عليها من السقوط على الارض فهي تعرف عشق أمها لعيساوة وتفاعلها مع أنغامهم وأذكارهم..

دخل الحاج عمر وتبوأ وسط الصالون ويده اليمنى لا تترك يد السعدية، واليسرى تشد على يد أوغلو ؛ ما ان استقامت السعدية بجانبه حتى قال لها:

ـ هات رجلك اليمنى

تفاجأت لماذا؟فكرر العبارة وقد ادركت الغرض..

تذكرت حلما كانت قد رأته قبل زواجها، الحاج عمر يعقد لها خلخالا بقدمها اليمنى، حين حكت الحلم على مائدة الافطار وعدها لئن تزوجت وحملت ليكون هو من يشد اجمل خلخال في رجلها وها هو يفي بوعده؛مسك قدمها ورفعها الى شفتيه مما جعلها تصيح قائلة:

"حرام عليك بابا باغي تفلسني"

كان زوج السعدية لا يفهم ما يدور حوله حين شرع الحاج عمر يعقد على قدم السعدية خلخالا بخيوط من ذهب وترصيعات لؤلؤية أبهرت العيون، وقد تنبه الى الدمعات وهي تتحجر في عيون حليمة فقال لها:

ـ "انا مشغول مع بنتي، وانت اشرحي لنسيبك قبل ما يخرج له النفير احول"

ضحكت حليمة وقالت:" رآك تدير ما بغيتي"

عانقت السعدية الحاج عمر وطبعت على خده ثم يده قبلة جعلت الدمعاتالمتحجرة في مآقي حليمة تتسربل على خديها، كانت .تقارن بين عهدين ورجلين: عهد بكت فيه أب السعدية يوم طردهما من المنزل وعهد يقبل زوج أمها قدمها فرحة بحمل لم يحظ به هو نفسه..

في لحظات الفرح الغامر قد تداهمنا ذكريات الرعب أو المذلة فلا نملك غير الحمد والتسليم ..

كان الحاج عمر يحس بألم حليمة ويدرك ان مايقوم به قد حرك غيرتها، مد يده اليها ضمها الى صدره وقال:

هذا مافاتنا ياحبيبتي فصار ابناؤنا احق به واجذر ..

بعد ايام من عودتهما من تركيا عاود عمر التعب ففرضت عليه حليمة راحة اجبارية وقد ظل الطبيب يزوره في البيت مرتين كل أسبوع ..

نهضت حليمة ذات ليلة على انفاس عمر القوية، تحت الضوء ظهر وجهه ممتقعا بصفرة أرهبتها، كما تنبهت الى بطنه المنتفخ جدا، بسرعة استدعت الطبيب، بعد فحصه طلب نقله الى العيادة فرفضت حليمة وقالت:

ـ إذا كان نقله من أجل عملية لاباس، لكن ان كان غير ذلك ارجو ان يتم كل شيء في بيته ..وافق الطبيب ووعد بارسال ممرضة تلازمه ..كانت حالته تتفاقم يوما بعد يوم، وبعد فحوص كثيرة صارح الطبيب حليمة الا أمل في الشفاء لان كبده قد صارت مجرد خيوط واهية .. فهو مصاب بتليف الكبد في مراحل متطورة جدا ..

صارت حليمة في البيت أنثى بلاعقل، لم يستطع اخماد ما يشتعل في اعماقها من ألم وخوف طبيب بمهدئات، ولا السعدية وزوجها بملازمتها، صارت تحس انها نهايتها قبل نهاية عمر وتلك أمنيتها، فهي لن تتخيل لحظة تعيشها بدون عمر ..

نهضت بعد غفوة سرقتها بعد أن هدها الصوم عن كل شيء، على صوت الممرضة وهي تقول لها:

ـ البركة في راسك، الدوام لله !! ..

صاحت حليمة صيحة ألم مزقت السكون من حولها، "كيف تنطفئ شموعك ياعمر؟؟ !! .. من لي بعدك ياعمر؟ !!..

غابت بعد لطمة قوية على وجهها، فشرعت الممرضة تسعفها الى أن استعادت وعيها، اتكأت على أريكة، تنفست بقوة، مسحت وجهها بماء بارد عساها تزيح غمامة قاتمة قد لفت كل ما حولها، تقف ثم تجلس، تهتز ثم تهدأ، عيناها زائغتان، وراس غير مستقر كأنه يتحرك من رعاش ... بعد جهد موصول من قبل الممرضة استطاعت أن تجلس وتمسك برأسها والصور تترى متشاكلة متضاربة أمام عيونها:البكاء بعد الميت خسارة، يجب ان تكون متيقظة، طلبت من الخادمة ان تسد أبواب الغرف وتحتفظ بالمفاتيح عندها، ثم نعت الخبر للسعدية التي أتت بوجه ملطوم ظلت لطماته وسما ازرق على خديها، ثم بعد هدوئها تكفلت بإعلان وفاة عمر الى أهله عبر الهاتف، مبلغة أياهم أن الدفن سيتأخرالى الغد حتى يتمكن أهل عمر حضور مراسيم الجنازة والدفن؛ استدعت ممولا ليقوم باللازم وكل ما يجب اعداده في مثل هذه الحالات ..

كانت حليمة والسعدية لاتنبسان بكلمة، دموعهما وحدها تتكلم متسربلة ولسانهما صامت تستمعان الى ترتيلات القراء بقلبين يتفتتان كمدا وحسرة..

كانت أم أوغلو التي حضرت الجنازة تلازم السعدية خوفا عليها وعلى حملها، تمنعها عن أية حركة ..

حضر الكثيرون ممن عرفت حليمة ومن لم تعرف، و تكلفت السعدية باستقبال وتوديع زوار العزاء من أصحاب الشركات والعمال في حين أن حليمة كانت ترد على التعازي بحركة من راسها، أما اللسان فقد انخرس، ولا ترى أمامها غير ظلال اشباح تدخل وتخرج ..

بعد الدفن عاد عم عمروأخوه من المقبرة، وقبل أن يودعا حليمة، اخبراها أنهما سيعودان بعد أيام من أجل تقسيم الإرث .. أرتعش جسمها وقد أحست كأن عمر يهمس في مسامعها بما قاله ذات يوم: "لا اتحدث عنك ولا عن السعدية، ولكن عن مستقبل ليس موضوعه الآن .."

ـ لقد أدركتُ ياعمر، ادركت الآن ماكنت تحتفظ به لنفسك، وما كنت توثقه بعيدا عني .. تذكرت مرة قال لها قبل أن يفقد وعيه وقدرته على النطق "يوم موتي لا تبدي رايا أو تشرحي لطالب معلومة، كل شيء عند المحامي":

لم ترفع اليهما وجها ولم تزد عن القول:

ـ مرحبا بكم متى شئتم، البيت بيتكم ..

صارت حليمة تعيش وحدها في بيت عمر، كمتبتلة عزفت عن الدنيا ومافيها، تداهمها أمواج الشوق لعمر، فتطغى على ذاتها وتظل تبكي الى أن تغيب، تخرج صباح مساء الى مكانهما في الحديقة فتظل هناك الى ان تغفو ثم تعود متثاقلة الى غرفة نومها، ترتمي على السرير وروحها لا تناجي الاعمر .. تزورها السعدية يوميا، وكلما سافر زوجها تأتي اليها تؤنسها الى ان يعود الزوج، كانت هي نفسها كالغارق في بحر يتطلع الى السماء خوفا على أمها التي هزلت، وعلى حملها الذي يزداد ثقلا .... فقد صارت حليمة لاتفارقها ممرضة تسعفها من غيبوبة تصيبها بين حين وآخر ..

بعد غسل عدتها انتقلت من لباس ابيض الى آخراسود لا تزيحه عنها..

اقبل أخو عمر وعمه بعد خمسة أشهر من وفاته، وكانهما كانا يترقبان نهاية عدتها، أو اليأس من خلو بطنها من جنين، رحبت بهما حليمة على قدر ما استطاعت، وحين سألاها كوريثين شرعيين عن تقسيم الإرث، أحست كانهما يصبان عليها ماء باردا يوقظها من نوم.. سبقتها دموعها وهي تقول بصوت اشبه بالهمس:

أنا لا اعرف شيئا ولم ابحث في أي شيء، سأستدعي بنتي السعدية لتدلكم على محامي الشركة يمكن تجدون عنده ما يفيد..

كانت السعدية تقرأ في وجوههما لهفة لمعرفة ما تركه المرحوم، وما نصيبهما من تركة عريضة، واسعة، فالنفوس عطشى، والفرح يطل من العيون بوميض، فالفقيد لم يترك غير زوجة بلا خلفة من عمر ولا يظهر عليها أثر من حمل، ولن يتعدى نصيبها الربع مما ترك والباقي سيكون بينهما ..

فتح المحامي ملف وصية عمر، وشرع يقرأ وثيقة بعد أخرى، وجد ان أخ عمر مدين لأخيه بخمسة ملايين درهم لم يؤدها لعمر منذ ان اقرضه إياها من ثماني سنوات، وتوجد بالملف رسائل تبادلاها تكشف عدم سداد هذا الدين، آخرها رسالة من الأخ تقول: الم تحاول ان تنسى هذا الدين وقد وسع الله عليك وورثت من زوجتك الأولى الملايين؟ لا تقلق ذات يوم سأؤدي اليك ما بذمتي ..

أما العم فلا زال يحوز 96 هكتارا هي نصيب أب عمر من جد عمر وبعد ان داهم الموت والد عمر بشهرين من موت الجد بقي العم يحتفظ بالأرض الى يومنا هذا، وبالملف الذي بين يدي المحامي نسخ من استغلال تلك الأرض في الزراعة المغطاة مع نسخ طبق الأصل من كشوفات مدخولها السنوي..

أما الشركات والمعامل والأموال فثلاثة ارباع من جميع ما خلفه الحاج عمر في اسم زوجته موثق ومسجل ومحفظ في اسمها، وهي من كانت المتصرفة وباسمها يتم البيع والشراء والشراكات، ينوب عنها الهالك السيد عمر بتوكيل من قبلها، وان الربع المتبقي قد شاركته فيه ربيبته السعدية مناصفة، ومعنى هذا فماعاد للحاج عمر غير الثمن هو ماتبقي للارث بعد خصم الربع كحق زوجته الشرعي و خصم الثلث الذي كتبه هبة لربيبته السعدية، ولا يسلم الباقي من التركة الا اذا أدى عمه واخوه ما بدمتها عن آخر درهم؛أما البيت فهو في ملكية السيدة حليمة زوجته وبنتها بعقد موثق، مسجل ومحفظ في اسميهما بكل مافيه، وقد اقتنته منه اثر ضائقة مالية اصابت الحاج عمر ففضل ان يكون المشتري زوجته وربيبته بدل أي غريب حسب ما بالملف من وثائق موقعة من قبلهما..

تفاجأ العم والأخ بما سمعا وقد أحسا بالضيق حين طالبهما المحامي بسداد ما بذمتهما مع الفوائد فاقترحا عليه مخارجة بلا نزاع ولا محاكم والسداد على مراحل ؛ هنا نطقت السعدية قائلة:

نحن أبناء أصول، ولايمكن في غياب عمر ان يقع ما يحرك راسه بقلق في قبره، كان رحمه الله يد خير تسبق قلبه ..ارجو من السيد المحامي ان يكتب تنازلا مني وأمي عما في ذمة السيدين، وتنازلا من قبلهما عن حقهما في الإرث المتبقي، وهكذا "مريضنا ماعنده بأس" والله يسامح علينا دنيا وأخرى ..

بدأت حليمة تعتاد حياتها الجديدة وان كانت الغصات لاتفارقها، فعمر لصيق بالصدر والعقل وأثر لا يمكن محوه، فما تركه في نفسها لم يتركه أب ولا ام، فعمر هو من فتح عيونها على إنسانية الانسان في الحياة، كان يعطي ولا يطلب، يبذل ولا ينتظر جزاء، كان عمر هدية عمرها من ربها وكأنه ما أتى الا ليؤدي رسالة في حقها وحق ابنتها ثم يتوفاه الله ..

استطاعت السعدية أن تخرج أمها من وحدتها، تحبب اليها السفر معها، تعتمر معها في رمضان، وتعرجا على تركيا للراحة والاستجمام، وقد كان لازدياد عمر الصغير لدى السعدية أكبر أثر في نفسية حليمة، فصار هو شغلها اليومي واهتمامها....

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

جِراحُ الكَوْنِ مِنْ ألمٍ تشافتْ

ونارُ الروحِ في أجَجٍ تخابَتْ

*

وأنّ الأرضَ أوْجدَها دُوارٌ

وكمْ تَخشى إذا تَعِبتْ وخارَتْ

*

أ مِنْ علياءِ مَوْطننا أتَينا

إلى جُرُمٍ بهِ الأجْرامُ حارَتْ؟

*

تُعللنا بأوْهامِ انْطلاقٍ

وتَأكلنا بأفواهٍ أغارَتْ

*

وما كُنا كما حَسِبَتْ نُهانا

لأنَّ قلوبَنا فيها تداهَتْ

*

بغابِ مَسيرةٍ ذاتِ اعْتداءٍ

تؤرّقنا النوازعُ ما اسْتطاعَتْ

*

فكلّ قويةٍ ذهَبتْ قِواها

وكلّ عليلةٍ شمَخَتْ وسادَتْ

*

كأنَّ وجودَنا برقٌ وميضٌ

كأمْواجٍ بتيارٍ تماهَتْ

*

فلا تَعْجبْ إذا برَزتْ علينا

مُدجّجةً وعَنْ شرٍّ أماطتْ

*

هيَ الدنيا تُضاحِكُنا كغَفْلى

وتوقِظنا إذا حُفُرٌ تدانَتْ

*

أتيْناها وصوْتُ الضُدّ فينا

وقولُ الحّقّ يقهرُها فهانَتْ

*

مَشينا في مآسيها بصَبْرٍ

وفزنا رغمَ داهِيَةٍ تداعَتْ

*

وكنّا فوقَ أعْلاها وأعْلى

ودُمْنا نرْدعُ الأقوى فخافَتْ

*

فلا تيْأسْ ولا تَجْزَع ْمَصيراً

فما ألقتْ عَصاها واسْتراحَتْ

*

نواجهُها بإصْرارٍ وعَزمٍ

ونَدْحَرُها وإنْ شنِئَتْ وطاشَتْ

*

بروحِ كبيرةٍ كمُنَتْ ضَراها

وأوْقدها التوجّع فاسْتَبانَتْ

*

تداعتْ نحوَ جَوْهرِها بعَزمٍ

ودامَ الشِعرُ يَنهرُها فهابَتْ

*

نزيفُ حياتِنا مَطرٌ عَذيْبٌ

يُساقي تربةً نَضَرَتْ وطابَتْ

*

جهادُ النفسِ مَبلغهُ بَعيدٌ

وإنّ النفسَ من شرَهٍ أساءَتْ

*

عواقبُ خَطوةٍ ذاتِ انْدفاعٍ

تُداهمُ أمّةً منها تشاكَتْ

*

فكمْ فينا تنامى مُنهَواها

فأرْدَتنا عواضِلها وطالتْ

*

زميلي يارفيقَ الطبِّ إنّا

تَواصَيْنا بحاديةٍ تصابَتْ

*

فما حَطتْ ركائبُنا برَبْعٍ

ولا شدّتْ رحالا فاسْتخارتْ

*

نُصارعُها كما جئنا إليها

ونَركبها وإنْ عَرَمَتْ وماطَتْ

*

بترْويضٍ وإقدامٍ وهمٍّ

وواعدةٍ بآتيةٍ تدانتْ

*

فقمْ هيّا لمُعْتركِ ابْتداءٍ

ومُشرقةٍ بآفاقٍ ألاحَتْ

*

على بُسُطٍ من الإيمانِ سِرْنا

كأنّ الشمْسَ في كفٍّ أضاءَتْ

*

وما نلنا المُرادَ بلا كِفاحٍ

فطاقةُ ذاتِنا شرراَ أشاظتْ

*

تفيضُ الروحُ من بَدنٍ عليلٍ

لأنّ الروحَ في شممٍ تآوَتْ

*

وإنْ سِرْنا بلا قدمٍ وكَفٍّ

سنقطعُها وإنْ صَعُبَتْ وغامَتْ

*

تحيّاتي منَ الأعْماقِ تُسْدى

إلى عَلمٍ روائِعُهُ أنارَتْ

***

د. صادق السامرائي

12\4\2022

..........................

* إلى الزميل الأديب الأريب الذي قرأت له شعرا ناطقا بروح الحياة فكانت هذه الكلمات!!

 

عادت إلى بيتها بعدما أسرها الطبيب المعالج بأن زوجها في أيامه الأخيرة اذ أصبح طبيا ميئوسا منه فرتبت كل شيء واودعت ابنها وابنتها لدى صديقتها في الجوار واعلمتها أنها ستغيب عدة أيام لرعاية زوجها في المستشفى واودعت مصوغاتها وماتملك من مال عندها واوصت صديقتها بطفليها خيرا بعد أن لمحت لها بأن الموت لا يفرق بين سليم وسقيم ثم عرجت على الصيدلية وابتاعت علاج ممنوع بعد إيهام الصيدلي بغرضها ورقدت في الليلة الأولى تحت سريره بعد أن اختفى صوته وامتنع عن تناول الطعام والدواء وقبل منتصف الليلة الثانية أخبرها الطبيب بان زوجها دخل دور الحشرجة وقد يلفظ أنفاسه الأخيرة بين لحظة وأخرى ولما خرج الطبيب مدت يدها إلى جيبها وأخرجت ما اشترته من الصيدلية وابتلعته دفعة واحدة مع كاس ماء ومعه حبوب مخدرة ونامت مطمئنة وكان الطبيب بين فترة قصيرة وأخرى يطل عليهما وبعد منتصف الليل بأكثر من ساعتين سمعه الطبيب يطلب ماء فهرع إليه لكن المريض جلس منتصبا وطلب طعام فذهل الطبيب وفحص النبض ودرجة الحرارة وكانا طبيعيين فحاول ايقاضها ليبشرها بتحسن صحة زوجها فوجدها جثة هامدة .

في الصباح تم تحويل جثة المتوفية للمشرحة لتشخيص سبب الوفاة مع أن الطبيب على شبه يقين أنها ماتت منتحرة بسائل شديد السمية معللا ذلك بخوفها من مواجهة الحياة في حالة رحيل زوجها متناسية أن الله يغير الأمر ما بين رمشة عين وانتباهتها .

مكث عدة أيام في المستشفى من دون أن يخبره أحد بما حصل لزوجته ثم أخرج بعد أن تعافى وعند الباب أخبره الطبيب بماجرى فلم يبدو عليه كثير اكتراث ولما استقر به الجلوس في البيت استذكر الأيام الخوالي يوم أحبها واحبته في دار رعاية الأيتام وكيف أقامت لهم الإدارة بعد إكمال الثامنة عشرة من العمر حفلة عقد قران وزفاف ومنحتهما مبلغا من المال ليبدأ به حياتهما خارج الدار وكيف واجها الحياة وحيدين من دون أن يكون لهم قريب أو سند وقرر أن ينهي حياته بنفس الطريقة التي رحلت بها لكن دخول الأطفال ومعهم المرأة الجارة اربكه وابكاه منظرهما وحيدين من دونها فانهار باكيا فخرجت المرأة مسرعة وجاءت بجار مسن اخذ يهديء من روعه ويعظه ويشجعه على الصبر في المكاره ثم اتفق الرجل المسن معها على أن تعود بالأطفال إلى بيتها ويأخذ هو الزوج المكلوم إلى بيته ريثما يستعيد حالته الطبيعية .

مرت الايام واندملت الجراح وحلت نعمة النسيان لكن الأطفال تمسكوا بالبقاء في بيت المرأة وبعد أشهر تولى الجار المسن الأمر فخطب له تلك المرأة لكنه اشترط عليها أن تحمل اسم الراحلة وبعد موافقتها تزوجا وعاشا في بيت واحد مع اطفالهما وأصبحت الأولى ذكرى بعيدة.

***

راضي المترفي

براءَةٌ أَدمَتْها الأَشواكُ

فهوتْ تَنْزفُ بين هضابِ الحيرَةِ..

لؤلؤَةٌ ثَمِلَةٌ تَموجُ

على شَواطِئِ النِسْيان

سِنديانَةٌ ثَكلى تتَرنَّحُ

على بُحيرةِ اَلآهاتِ

كم من آمالٍ أطْفَأَها أَنينُ اَلشُموعِ

وأَحْلامٍ شرَّدَتْها كُثْبانُ الوهمِ؟

عَصِيَّةُ اَلدَّمْعِ

لن أَذرِفَ دُموعِيَ

على أَعْتابِ القَهر

ما زِلتُ أَتَحدَّى

أنا جُلَّنارَةُ اَلشرقِ , عَذْراءُ الروح

لا أَنحَنِي

والقَمَرُ لا يَستَكينُ إِلاَّ لإِمارَتِي

لا تُساومْنيَ على ذاتِي

شامخَةً أُبْعثُ

زهْرةَ رُمَّانٍ على ثَغْرِ الفِينيق ِ

لا تَأسِرْ أُنوثَتِي

ولا تَحبسْ شَهَقاتِي

خلاصُكَ بعَذبِ أنْفاسيَ

ظَبْيَة ً أتهادى بدَلاَلٍ

فلا تُجازفْ

لن أَكونَ تَوابلَ عشْق ٍ لشهواتِكَ.

تَعَرَّ من غُروركَ أَمام أَسْوارِ قلبي

واعْتِقْ أغْلالَكَ عند مَنارةِ أحْلامِي

على أَجْنحَةِ ملائكَتي نَواميسُ العِشْقِ

*

حَلَّقْ صَوْبَ اَلشَمسِ

كي تُهْدِيني ضَفائِرَها

وانْسُجْ بَتَلاتِ البنفْسَج

إكليلاً لروحِي...

أَنا وطنٌ لا أُزْهرُ إلا بقَطراتِ اَلخُلود

ولا أُبْحرُ إلاَّ بأَشْرعةِ الحريَّةِ

***

سلوى فرح - كندا

 

شوقا سارت بَخُطَى الخَبَبٍ

طرَقَـتْ بَابِـي بَـيْـنَ الــطُّـرُقِ

*

بَـاتَـتْ...مَـا بَاتـتْ ليْـلتَـهَا

مَــا أطـوَلَـهُ اللّـيْــلُ فِي الأَرقِ

*

جَاءتْ...أَشْرقَ العِشْقُ في عَينِهَا

لمّـا بَـاحَتِ الـعَـيـنُ بالـشَّـبَـقِ

*

مِثلَ بُهْرةِ شَمْسِ الضُّحَى حِينًا

أوْ كَمِثْـلِ أفُـولٍ فِي الغَـسَــقِ

*

قُــلــتُ أَهْـــلًا مَولاتي مَرْحَبًا

وَاِرْتَمَتْ بَـيْـنَ صَدْرِي والعُـنُـقِ

*

عانَـقَـتْـنِي فِـي وَلَـهٍ وبَـكَـت

روحِـي تَـفْـدِي دَمْعَـةَ اَلْـحَـدَق

*

عَانَقـتْـنِـي عانَـقـتُـهَا صِـرْنَا

كَجَنَاحَيْنِ طَــارَا فِـي الأفُــــقِ

***

سوف عبيد - تونس

 

 

الساعة السادسة صباحا

والموسيقى تضج في

راسي

لم تكن أشعة الشمس

قد انتشرت بعد

ورغم ذلك شاهدت

كيف تذوب الأحلام ببطئ

أمامي

بمجرد ان لمسها الضوء الخافت

شوارع المدينة كانت

تنزلق تحت قدمي

تمسكت بآخر امنية ..

وسرت باتجاه البحر

كان لا يزال نائما

بدفء

تحت أمواجه

في الليلة الماضية

لم تنم الأسئلة

لحظة ..

فتحت لها كل الكتب السماوية

قرأت لها  المعوذتين ..

.. ولكنها لم تنم

طاردتني أشباحها

بهدوء في الغرفة

وفي الصباح..

لم أكن بعد في كامل

وعيي

حتى أميز بين مرارتها

وبين مرارة

القهوة

البحر لايزال نائما

والاسئلة

أتمت طوافها الأخير حولي

ثم ضجت بأغنية

حزينة داخل

رأسي ..

لم يكن صباحا عابرا

لم ينتشر الضوء

بعد ..

كنت محاصرة

ورغم ذلك

كان علي ان أحدد

اتجاهي

.. الأخير ..

***

بقلم: وفاء كريم

 

لم نكن اوفياء للحلم...

لذلك غادرنا النوم

واحتلت الكوابيس

مسافات الأرق

اليوم آخر فرصة

لقتل الصمت

حشد جموع الوجع المكتوم

وجنود الغضب القاصر

المعتكف عند عتبات

الزجاج البارد

مازال في الفؤاد نبض

في الوعي حريق

لا ينطفيء

مهما افرغنا عليه

من دنان الصبر

ستظل السماء

تنجب سحبا عقيمة

حتى يصدق الوعد

وتنزل اللعنات على الاقفاء

انتقاما للأفواه المفغورة ...عطشا

والعيون المشدوهة ....رعبا

نحن الراسخون في اللعب

على الزجاج

الموقدون حروب العبث

بين الحروف...والحروف

بين الأزهار والصور

لا ندرك أن البحر

بات معلقا على الأفق

لوحة ...تذكر الهدوء المحيط

أن الموج ...لن يموت

مهما ضاق الإطار ....

اكفهرت الألوان

واسقط الأزرق

عن السماء والماء

في الأعماق موسيقى صاخبة

لذا ادعوكم للرقص على دويها

نكاية :

في حظر مفروض على العازفين

في أحكام مرتجلة

اعتقلت النوارس واليمام

حين اختل الميزان

وأدركت المطارق الجماجم

عند حدود الغضب

ادعوكم للرقص

على إيقاع النحيب

مادام ناي الأمل مكسورا

كمان الفرح منزوعا

سنرقص حتى

توقظ التناهيد

جيل الحلم القادم

وأنتظر

سننتظر ارتفاع الموج

في الأزرق العائد

من ساحة الرماد

في عيون

المقتعدين الرصيف

النائمين تحت سقف السماء

فاغضبوا...

أو اعرضوا ضمائركم في المزاد

لا أحد يشتري وعيا

كل ثروته ..........ثرثرة

***

مالكة حبرشيد

 

لم يخلُ شارعنا من مناحة على مدى عقود. فها أنا ذا تخرجتُ من الجامعة منذ مدة طويلة، ومازال النواح يتردد ويتكرر بين حين وحين في الشارع والحي بل المدينة كلها. وذلك بسبب الحروب التي كلما أطفأ الزمان نار واحدة، جاء أحدهم ونبش رمادها وصب الزيت عليها. لتتوهج وتشتعل حارقة اليابس واليابس. ولكن مع كل هذا الألم عشتُ طفولة عامرة برفقة صديقي وجاري الذي هو بعمري الآن. صديق الطفولة هذا استشهد أبوه في الحرب ذاتها التي فُقِدَ فيها أبي. وكنّا على صغر سننا، نتبارى في أيّنا أشد ألماً من الآخر. الذي مات أبوه أم المفقود ولا يعلم أهله مصيره؟!. كنتُ الوحيد لأمي حين خرج أبي من المنزل ذات فجر، وركب في السيارة التي تقلّ الجنود الذاهبين للمعركة. السيارة ذاتها الذي ركب فيها أبو صديقي الذي توفى في تلك المعركة. الفرق أن جثة أبي صديقي أحضروها ذات يوم إلى دارهم، فاشتعل الدار نواحاً وصراخاً. أمي التي هرعت لتعزية جارتنا والدة صديقي، كانت ترتدي ملابسها السود وكانت تبكي. وحين سألتها لماذا تبكين؟ أجابت لا شيء. لكنني عرفت وقتها أنها لم تكن تبكي على جارنا المقتول في الحرب، بل سبب بكاؤها أنها سألت الذين جاءوا بجثة والد صديقي عن أبي، لكنهم أجابوا أنهم لا يعرفون مصيره حتى هذه اللحظة، وربما قد فُقِد في المعركة. لكنه سيرجع إن كان على قيد الحياة بلا شك. ومن ذلك الحين وأنا أعاني من مرارة الخوف من الفقد. وكم شرحت لصديقي خلال المدة التي عشنا فيها سوية كأصدقاء وجيران، أنني أعاني أكثر منه من الألم والحزن. وذلك لأنني تأثرت كثيراً بأمي وألمها وحزنها. فقد أشترت ملابس سود خشية أن يحضروا ذات يوم جثة أبي. وفي الوقت ذاته كنتُ أراقبها حين كانت تخرج الملابس الملونة من دولاب الملابس، لتنظر إليها طويلاً ثم تتأكد من نظافتها وتعيدها إلى الدولاب. وحين كان يقول لي صديقي دائماً عبارته المتكررة (لا مرارة أشد من مرارة اليتم)، لا أجيبه بل أظل مُطرقاً برأسي وتخرج من صدري حسرة مخلوطة بأنفاس زفيري. فيظل يشرح لي الليالي الطويلة التي قضتها أمه وهي تبكي على فراق أبيه. وفي المقابل كنت عاجزاً من إفهامه أننا أنا وأمي اللذين فقدنا ولم نفقد أبي، كنّا نعاني ربما أكثر من معاناته وأمه. فحين يموت شخص عزيز عندك ستحزن بلا شك، ولكن حزنك سيكون على دفعة مركزة واحدة، كغيمة تهطل أمطارها بغزارة ثم تنكشف الشمس. أما الذي يعاني من غيْبة من يحبه، ستكون سماؤه ملبدة بالغيوم التي لا ترتاح من ثقل أمطارها الحبيسة فيها، ولا يُرى من الشمس سوى النور المحجوب وراءها. إنه صراع شديد بين الحزن والأمل لم يفهمه صديق طفولتي الذي نسى أباه. فبعد مرور سنتين تزوجت أمه، وعاش في كنف زوج أمه الذي كان يرعاه رعاية جيدة. أما أنا وأمي فلم نكن نعرف هل أنا يتيم وأمي أرملة أم ماذا ؟!. وظلت أمي تنتظر كلَّ يوم مجيء أبي الذي ظل مصيره مجهولاً. وأنا رضعت حزنها على فقده وأملها في رجوعه حتى أشتد عودي. فلم أتزوج ولم أفكر في الأطفال بتاتاً، حتى بعد وفاة أمي بمرضها الأخير، والتي كانت توصيني في لحظاتها الأخيرة بانتظار أبي، حرصاً منها عليَّ حتى بعد أن أصبحت شاباً. ولكم فشلت كل المحاولات في تغيير رأيي في مسألة الزواج. لأن فلسفتي هي أن لا أتعلّق بإنسان بتاتاً، إن كان زوجة أو أطفالاً، خوفاً من فقدهم وتحمل مرارات العيش من دونهم. لكن هذا لم يمنع من تربيتي لقط أبيض أليف ذي عينين زرقاوين، وفرو ناصع كالثلج. قلت في نفسي أن مسألة تربية القط لا تكلفة فيها، حتى لو فقدته ذات يوم لن يكون الأمر بتلك الصعوبة فهو مجرد حيوان. وليقضي معي الأيام والليالي ويسليني في وحدتي، خصوصاً أنه كان مرحاً ولعوباً. وحين أفتح باب الشقة يأتيني مهرولاً، ويموء بمحاذاة ساقي ويمسح رأسه بها. وفي كثير من الأحيان كان يستلقي إلى جنبي على سريري فنغط بالنوم سوية في ليالي الشتاء الباردة. وذات مرة حين كنّا أنا وصديقي - صديق الطفولة اليتيم- نسير في شارع ليلاً عائدين إلى مساكننا. كان يحدثني وينصحني بالزواج، ويراه ضرورة قصوى فقد تزوج هو وأنجب طفلين، ويسكن بالقرب من شقتي. لكن محاولاته كلها كانت عبثاً لأنني لم أغيّر رأيي. وإذا كان الأمر بخصوص التسلية في ليالي الوحدة الرتيبة، فأنا أنعم بقط جميل صار صديقي. وبدّد الوحشة عن نفسي وهو الآن ينتظرني. في تلك اللحظة حدث مالم يكن في الحسبان. فحين دخلنا في شارع ذي نور خافت، رأينا شبحي رجلين متشبثين بفتاة. عرفنا هذا من صوتها حين طلبت النجدة. وكما يبدو أنهما مجرد متحرشين يتسكعان في هذه الأنحاء. وحين هرعنا لنجدتها جرى شجار بيننا، فأخرج أحدهما سكين وطعن صديقي في بطنه عدة طعنات أردته قتيلاً على الأرض. وحين هربا ركضت وراءهما، لكن سيارة داهمتني عند الشارع فصدمتني صدمة عنيفة. سقطت على إثرها ولم أفق إلا في المستشفى. ثم علمت لاحقاً أن صديقي قد توفي، وأن المتحرشيْن المجهولين قد لاذا بالفرار. وسألت عن المدة التي كنت فيها فاقداً للوعي، فعرفت أنها كانت لأكثر من يومين. وأنني مكبّل بالجبس الذي وضعوه على ذراعي اليمنى وساقي. وأن الفحوصات الدماغية مازالت مستمرة. في تلك اللحظة تذكرت قطي الأبيض الذي في شقتي. فأنا لم أترك له ما يكفي من الطعام والماء. والأطباء قالوا أن وقت العلاج لن يكون سريعاً. لا أدري لماذا حين سمعت بخبر وفاة صديقي، لم أتأثر بقدر تأثري على مصير القط. وصرتُ أسترجع تفاصيل الشقة والسبيل لهروبه منها إذا ما التف على رقبته حبل الجوع والعطش. ولكن الشقة محكمة الغلق بأبوابها ونوافذها، ولا سبيل لهروبه سوى أن يفتح له أحدهم الباب ويحضر له طعاماً وماء. وحين تحدثت مع الطبيب المختص قال لي هل تريد أن نوصي أحدهم بفتح شقتك. وبصراحة لم أجد أحداً فكل الذين أعرفهم وأثق بهم هو صديقي الراحل. وبعد أيام كنتُ أتقلب فيها على فراش المرض والقلق على مصير قطي المسكين، خرجت في النهاية من المستشفى أجر بدني كما يجر الثور محراثاً. باذراً في كل خطوة اتركها ورائي بذرة من أمل وأخرى من قلق. وحين مررت بمسكن صديق طفولتي المسكين رأيت لوحة تعزية معلقة، فخرجت من جوفي حسرة، ورحت أشجع ساقيّ على مواصلة المسير بمعونة عكّازي إلى شقتي. وفي تلك اللحظة التي فتحت فيها باب الشقة كنت أتخيل منظر القط المسكين ملقى على الأريكة، وقد فاضت روحه من شدة الجوع والعطش. لكنني حين درت في المنزل باحثاً عنه لم أعثر عليه، وتفاجأت بحال الشقة مقلوباً رأساً على عقب، وكنت أشك أن القط هو من فعل هذا تحت دافع الوحدة والخوف والجوع. لكنني عرفت أن القط غير موجود في الشقة، لأنه فرَّ من خلال النافذة المهشمة. والتي لم يهشمها هو بالطبع، لأن الشقة بعد أن دقّقت النظر فيها وجدتها مسروقة. وأن اللص الذي دخل إليها عن طريق النافذة فتح ثغرة للقط لكي يهرب وينجو بسببه. في حينها قلت لنفسي أن القط سيعود، ولم أهتم حتى لشقتي المسروقة. لكنه تأخر ولم يعد!. ثم أجريت مسحاً للمنطقة ولم أر سوى قطط الشارع تموء وتأكل من الأزبال، ولم أعثر على قطي الجميل معها. قالوا لي أصحاب محال القطط أنه سيعود.. سيعود بلا شك فالقط لا ينسى صاحبه. وها قد مرَّ زمان طويل ولم يعد. زوجة صديقي غادرت منزلها برفقة أطفالها وزوجها الجديد، والشوارع رمموا أرصفتها، وجيراني أغلبهم غادروا وجاء جيران جدد، ولم يعد قطي الأليف. لو كنت قد رأيته ممداً على الأريكة ميتاً لكان أفضل. سأدفنه بلا شك في مكان قريب وينتهي كل شيء. وكم استغرب أصحاب محلات بيع الحيوانات من إلحاحي في السؤال عنه، وظنوا أنني مخبول. فمن هذا الذي يبحث عن قطّه مثلي، وهل يستحق حيوان كل هذا التعب والتفتيش والبحث؟!. لا أجيبهم عادة كعادتي مع صديقي الراحل، بل أظل مُطرقاً برأسي أمامهم وتخرج من صدري حسرة مخلوطة بأنفاس زفيري.

***

أنمار رحمة الله

 

 

لـو كـنـتِ أنـت مـعـي والـنـاس غـائِـبــةٌ

ما ضَــرنـي احَــدٌ ان غـاب او حَـضَـرا

*

أنـتِ الأنِــيـس وآنـت السعــد أكْــمـلــــهُ

آنـت النـعـيـم مـديـد الـعـمر ما افْـتَـقَــرا

*

يـا حـظْــوتي وغـنائــي دائـمـا طَــربَــا

قــد صـار مسـتـقـبلي فـي بهْـجة قَــدَرا

*

صديقَــتي ، نـصْـفيَ الـثـانـي إلـى ابَــدٍ

قَــيْـدي المحبب في الكَـفين ما انكسـرا

*

مـا حاجَــتي لانْــطلاق عـابـثٍ نَـــزِقٍ

مـا حاجَــتـي لرحيـلٍ جالـبٍ خَــطَــرا

*

أعـيــش فـي هَــدأةٍ والـدفء يغمرني

كانـت حيـاتي لَـهـيبـا يَــقدح الـشَّـررا

*

أعـيـش فـي مأمَــنٍ والأمـن يغمرنـي

نسـيـت يـوما حيـاتـي غادرت كَــدَرا

*

سبحان مَـن قَــلّب الأحوال بعد أسـىً

هـذي حظـوظي هـناءً لم تعد عَـثَــرا

*

أذوق مــن شهْــوة الــدنـيا حَلاوتهــا

فَــقبلهــا نِــلْـت مــن آثــامها عِــبَــرا

*

كم كنـت مُــستهْــدفا لَـعْــناً وبهْــذلةً

لو كان غـيري حواه الهمّ ما صبـرا

*

شُـقيتُ حـينا ، تحملت الأذى مِـقَــةً

حتى الأباليس ترمي صوبيَ الحجَرا

*

كانــت حياتي ظلاماً دامـــساً أبَـــدا

وحـين جـئتِ إلينا أشْـرقت صــورا

*

أنـا الرغيــد ونُــدماني رفــاهــيــةٌ

برفقة الوجد يَهدي نفسيَ السَّــمَـرا

*

جعلتِـني راجـحا عَــقلاً ومتّــزنــا

جعلتِــني شاعرا مستلهما فِــكَـــرا

*

شكرا صديقـة قلبي ، إنني فَــرِحٌ

ان الحبيب اذا ما ارتاح قد شكرا

***

جواد غلوم

جَلَس منكسراً، المقهى شبه فارغ، طلب قهوته سوداءَ قويّةً، اِحتساها دفعةً واحدة ثم شرب محتوى قارورة الماء المعدني بتوتر ظاهر، هناك أشياء كثيرة تجول بخاطره وتشج تفكيره، أشياء بعضها مضمرٌ وبعضها ظاهرٌ يُحسه ضاغطاً على أنفاسه، تراكمت أخطاء الماضي فلم يرحمه الحاضر، وغدا مُفلسا يتسول كِسرة أمل تنقده من سَغب الأيام الشاحبة، سنوات العمر تنفلت منه دون شيء يذكر، روتين قاتل عاش بين أحضانه زمنا طويلا يمارس لعبة الاختباء والمراوغة،

ويُحدث نَفْسه "بِمجد" شَخْصِي قادم وانبعاث أسْطوري يضعه بين العظماء.

جال ببصره في فضاء المقهى الكآبة تجثم على المكان، والتلفاز يقدم أخبار الحرب الروسية الأوكرانية، مشهد عَبثي يُرسم على الشاشة وخراب ورائحة بارود وعفن يكاد يشمها، ممتزجة بذخان سيجارة سيدة أربعينية كانت تجلس بالقرب منه، كانت تسحب في كل مرة نفسا عميقا من سيجارتها وتنفث دخانها بانتشاء واِستمتاع وهي تبحلق حولها وتتابع دوائر الدخان المتصاعدة، ألقى عليها نظرة خاطفة، تَبدو محترمة، ولباسها أنيق، قد تكون أطارا كبيرا في إحدى الإدارات المجاورة للمقهى، وربما كانت صاحبة مكتب للمحاسبة أو أيّ شيء أخر، راودته فكرة تدخين سيجارة كما كان يفعل منذ سنوات خلت، رفع يده مشيرا للنادل وكان كهلا قد اِبْيَضَّ شَعر رأسه، لكنه عندما دنا منه غَيَّر رأيه وأحجم عن طلب السيجارة، وقال مبتسما:" عَصير ليمونٍ بارد من فضلك ".

قدم له النادل العصير، رشف رشفة صغيرة، ثم نظر من جديد إلى السيدة الأربعينية كانت قد أشعلت سيجارة جديدة، تذكر فجأة أنه أصبح في عقده السادس، وأنَّ قطار الحياة قطع به مسافة تبدو طويلة لكنها مرت دون أن يحس بها أو يستمتع بمحطاتها.

قفزت إلى ذهنه فجأة صور من طفولته، وارْتَدَّت به الذاكرة خمسين سنة إلى الخلف: " أيها الطفل الكامن داخلي اِستيقظ بهدوء، وحدّثني عن أمس تبدَّدت لحظاته وصارت مجرد اِنفلاتات شاحبة تحمل طيّها أشياء كثيرة قد تكون حدثت أو تمنيت حدوثها ولم تعد لي القدرة على التمييز بينها ووضعها في سياقها الحقيقي.. أيها الطفل المتوثب داخلي لممارسة شغب الأمس وبراءته، حدثني عن حنان أمي وصرامة أبي، عن بداية اِكتشاف ذاتي وشعوري بالانجذاب إلى الجنس الأخر..."

دوائر الدخان ما تزال تتصاعد من سجائر السيدة الأربعينية وقد اِنضم إليها رجل أسمرُ البشْرة بهندام أنيق أيضا وربطة عنق بلون أحمر فاتح، كان هو الأخر يُدخّن بنهم، مبتسما ثم مقهقها.

رنَّ هاتفه المحمول، نظر إلى شاشته، كان رقما غريبا، تَجاهله، هذه الأرقام  يتوجس منها دائما خيفة، لهذا لا يردُّ عليها، عاد إلى عالم طفولته، ونزل درجا ثم أَدْرُجاً، نظر بهدوء إلى صفحة الماضي، وَوجَد مَشْهد السَّيدة الأَربعينية ورَفيقها الأسمر يُذكِّره بأمِّي "عايشة" صديقة جدّتهِ وزوجها سي عيسى تاجرُ الخَزف صديق جدّه، كِلاهما كان مُدخنا نهما، كانت أمي عائشة تخرج علبة" كازا سبور" من جيب سروالها" القندريسي" و معه صندوق عود الثِقاب "السّبع" وتردد لازمتها المعتادة:" الله يعفوعلينا "، كان يُحدّق بها وهي تشعل لفافة التبغ الأسود  وتقول بصوتها الأجش: "البِليَة صعِيبة، هذا لحرام تعلّمناه من عند النصارى "، فينتابه شعور غريب بأنها سيدة أسطورية من عالم خرافي، أما عيسى فكان يخرج من شكارته المراكشية "السبسي والمطوي" ثم يحشو "الشقف" بالكيف المسحوق ويشعله، ثم يسحب نفسا عميقا بانتشاء و يضحك دون توقف .

فكر: "الأشياء تتكرر بِصُوّر متعددة، لكن المَعنى لا يتغير والإحساس يبقى واحدا والذكرة تتسع للماضي والحاضر، ونحن رهائن لِنَاموس غامضٍ يَتَسَلّى وَاضِعه بتحركينا على هواه، وخَلْقِ شَرخٍ رهيبٍ داخل ذواتنا، سّي عيسى وزوجته أصبحا الأن مُجرد وَمضة قد لا تتكرر، جدتي كانت تُسِرُّ لي بأنها لا تطيقه لأنه كان يشجع جدي على اِرتياد مجالس "النشاط" وشرب الخمور وتضيف غاضبة: "الملعون يعرف شيخة يُبَدّر عليها أمواله" كلامها مُبطن وفيه إشارة لفهم علاقة المرأة بالرجل، جدتي المسكينة كانت تخاف أن يضيع منها جدّي، بل ربما يضيعُ منّا جميعا"

غادرت السَّيدة الأَربعينية المكان برفقة الرجل الأسمر. وخرجتْ في أثرهما ذكرياته مع سي عيسى ولَا لَّاعايشة، صعد دَرجة ثم درجات، طوى صفحة الماضي وفتح صفحة الحاضر.

نظر إلى ساعته اليدوية القديمة عقاربها تشيرإلى الواحدة بعد الزوال، قام من مكانه متثاقلا، نقد النادل ثمن مشاربه، وغادر المقهى .

***

محمد محضار

يناير 2023م

ويسألونك

عن القصيدة

حين تتآمر عليك

وتترك للظل بابا مفتوحا

وانت تدفع

فواتير  الكلام  بانتظام

من دمك

ومن لحمك

ومن عرق يسيل

من يومك..

وكيف تترك الغياب

يسرج لك  حصان الوقت..

وهل كان

سريعا بما  يكفي..

ليصل بك الى

سدرة المنتهى..

هل كان صبورا  بما يكفي

ليتحمل اثقال لغة

تنصب له  في كل زاوية أفخاخ

الإستعارات

وترهقه بفواصل

طويلة

من الصمت..

ويسألونك عن الليل..

كيف كان

يمر..

وليس هناك ما يكفي

من الأحلام..

تضيئ الفصول

المعتمة..

وكيف كنت تنام

وتغمض عينيك

عن أسئلة  تصرخ

جوعا

بلا إنقطاع.. و

تزعج هدوء الكتب

على رفوف المكتبات

ويسألونك..

عن

سرب الأغنيات

المسجونة

التي كنت تطلقها

كل مساء

لتطير من غابة

حزن الى أخرى

هاربة من عتمة الأسماء

ثم تلاحقها

لتعيدها

الى  فم النايات

كل صباح

وكيف كان البرد

يأكل أصابعك

وليس في جيبك

أمنية واحدة

تصلح لإشعال

مدفئة..

قل..

سأترك للغياب

غرفتي.. وخزانة ملابسي

وطاولتي..

وفنجان قهوة يفيض برائحة

الأرق..

وأغادر

الزمن  الذي

ينتظرني

على بعد

موت واحد..

قل..

لا تنتظروا مني أغنية

حين يتفاقم

العويل داخل راسي..

قل..

لن أدخل في جدال

مع حروفي

حتى لو اجتمعت

لتقيم علي الحد

لن ألزمها طاعتي

لن ألزمها تبرئتي

انا عارية امام حروفي

فلتكن معي

او مع ظلي

لا يهم.. فربما اجد بابا

للخروج من

لعنة الأسماء

حين تناديني

الى موتي

الاخير

بإسم جديد..

قل..

ربما أجد ظلا يشبهني و انا أسير

على الرمال  الساخنة..

حاملة عطشي

بين يدي

قد يشبهني

السراب قليلا

حين يغوص وجهي

في المرايا

هو مثلي..

لم تبعثر الألوان ملامحه..

هو أيضا يحمل جينات

الحزن الوراثية..

هو  أيضا مثلي.. يشبهه

الماء.. ولم تعتصره

غيمة..

ولم تلده أعاصير..

ولم تنفخ في روحه

الرياح..

يشبهني السراب

ينام و يصحو على

ظمإ..

يأكل ظمأ

يشرب ظمأ..

هو الذي يحمل دوما على ظهره

خطيئة خيال جاف

لم يلد و لم يولد..

قل..

او لا تقل..

دع الكلام يمضي كما جاء ثقيلا..

سأراقص الوهم طويلا

وأختال بخيبتي

وينتهي ظلي

قتيلا..

***

بقلم: وفاء كريم

"و كثيرًا ما يكون عمر الحب كعمر الورد؛

لا يكملُ عامًا"

***

في مثل هذا اليوم منذُ عامْ

تألّقَتْ في قلبي الأحلامْ

وأذكرُ القمرْ

رأيتُهُ في البردِ مُلتفًّا ينامْ

بمعطفِ الغيوم والظلامْ

الليل والمطرْ

ونحن عاشقانْ

وكنتَ يا حبيبي منذ عامْ

تراقبُ المطرْ

ومتَّ عشقًا من جمال الليل والمطرْ

وكنتُ يا حبيبي منذ عامْ

قصيدةً جميلةً غنّى لها وترْ

ما أعذبَ الأنغامْ!!!

ما أعذبَ الأنغامْ!!!

*

في مثل هذا اليوم منذ عامْ

أغرقتني بالشِّعرِ.. بالرسائلْ

وصارتْ الحروف في جوالي الجميلْ

تغني لحنَ الحب تحت لمسة الأناملْ

واشتاق قلبي بعدها للنور والأفراحْ

أشواقَ عصفورٍ إلى الربيعِ والخمائلْ

في مثل هذا اليوم منذ عامْ

غنيتُ يا حبيبي للصباحْ

لِتَحلوَ الأيامْ

*

في مثل هذا اليوم منذ عامْ

سقيتَني بالوَهْمِ يا حبيبي

شايًا وزنجبيلا

كم كان ذلك الشتاء حبُّنا جميلا!!

وحين شدّني النعاسُ قلتَ لي:

"بل اسهري قليلا..

وزَوري يا أميرتي والحبَّ في الضحى

أريدُ فوق الليل أن أُهيلَ بعضَ حبنا

كحفنةٍ من الذهبْ

أريدُ أن أُهيلا

مرّتْ ليالينا وعمرنا ذهبْ

والعمرُ يا أميرتي

ما عاد بعد حبنا طويلا

فلتسهري قليلا"

ومنذُ ذاك اليوم يا حبيبي

نسيتُ أن أنامْ

وكان كلُّ هذا يا حبيبي

منذُ عامْ

*

وعادَ هذا اليوم بعدَ عامْ

و نتَ يا حبيبي بعد عامْ

تركتني وحيدهْ!!!

لترسلَ الأشعار للحبيبة الجديدهْ

وصرتما في الليل والشتاء عاشقَينْ

وصرتُ عن أفراحكم بعيدهْ!

كم كان عمر حبنا؟

كعمرِ الوردِ كان يا حبيبي

ما طالَ حتى عامْ!!

فعادتْ الدموعُ بعدَ عامْ!

وجاءت الآلامُ بعدَ عامْ!

واسودّت الأيامُ بعد عامْ!

واغتيلت الأحلامُ بعدَ عامْ!

و البردُ موجودٌ هنا لكنني

أعيشُ بين الحزن والظلامْ

أَكُلُّ ذاك الحب يا حبيبي

يموتُ بعد عامُ!

ما أغربَ الأيامْ!!!

ما أغربَ الأيامْ!!!

***

شعر: إسراء فرحان

من كتاب: قمر الزمان

عينان في سفح الجليدْ

عينان تحترقانِ

في برد (الشتاتِ) بلا غطاءْ!

ومدينة ٌبالثلج دافئةٌ

تُلملم ضوؤها سُكْرَاً

تُفَتِّشُ عن بقايا الأمس ِفي الزمن الوليدْ!

وعلى ضواحي عِشقِها

صَبَغَتْ شوارع فسقها

تُبدي التصابي وردة ً

سكبت ْنبيذ رحيقها

وكستْ عراها

من فم الكأس المُعَتَّق ِبارتعاشات ِالمساء!

يا أنتَ ترعاكَ السماء ْ

مهما شَبِقْتَ بها اسْتَعِذْ

من طرْفها بـ(الليلةِ الحمراءْ)!

لا تَعْبُرِ الشارات...قف بالضوءِ

خلف ظلامها الواهي

وأطلق صوتك الوضَّاء واسأل ما تريدْ

هي لن تجيب: .......!؟

مادام يسري في مسام جليدها

شيخٌ يُصلي بانتشاءْ!

هي تحتفي برواغها العذري

تغسل ليلها المخمور بالأنثى

تذوب حرارة ًمن فقد ماء الكهرباءْ!

هي وحدها من أطفأت شاراتها

وساحقتْ جاراتها

فطفتْ بكارتها

بكفِّ السيد المخصي يشربها

ويُنجبُ مايشاء ْ!

تسهو بكامل شعبها...

في ركعةٍسيفيةِ الإفتاء!

تغيب في (عروبة ٍ)

تجمدتْ أوطانها

بألف ألف (رقْمَة ٍ)غيداءْ!

إن رُمْتها وقَّادةٌ

تأمركت ْعميلةٌ...عمياءْ!

هي البلادُ كلها

قوَّادةٌ لــ(المومِس العذراءْ)!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

على أرضنا البكرِ

تمرُّ الحكاياتُ، ويمرُّ السلاطينُ

ينثلمُ السيفُ بالسيفِ

يخدشُ الدرعُ الدرعُ

يبكي الدمَ دماً

حينَ سالتْ دماءٌ أُخرُ

لا ادري إلى اينَ تمتدُ هنا جذورُ الموتِ

معَ مَنْ يأتي أصطفافنا؟

لنا أمهاتٌ يجمعنَ الضيمَ فوقَ الضيمِ

والاضاحيَ بشراً

الطيورُ تأنُ وأنا وانتَ ياصديقيَ

إلى متى يأخذنا الجنُ بعدَ الجنِ

وجوهٌ تطاردُ الغبارَ

تشتري لهُ عناوينَ الخدرِ

وجوهٌ لا تعرفُ الإبصارَ لعلو السماءِ

الحناجرُ تصارعُ ذاتها

الضياعُ لا يحفزُ الكسالى

هي الارضُ التي خلقتْ بوراً

تتعسفُ ،تضطهدُ نموَ الأغصانِ

أيُّ أشباحٍ سماويةٍ تتنمرُ

تسرقُ تجلياتٍ لخطوطِ املٍ مرتجى

هنا غريبةٌ الرقابُ وهي تطأطئُ نفسها

وهنا لا نتسلى بالأعالي الشاهقةِ

نجدُ أنَّ الإبصارَ للسماءِ إلحادٌ

جميلٌ أنْ نبحثَ في عديدِ النجومِ

عن كهوفٍ لرجالٍ يبحثونَ عن الحريةِ

الاصالةُ هنا تتدحرجُ بينَ أقدامِ

النكراتِ

يالبؤسكَ صديقيَّ الشاعرَ

وأنا اراكَ تحني رأسكَ

ويالبؤسُ مَنْ يصفقُ

إني أرى اليدَ خُلقتْ لترسمَ حمامةً

ونخلةً وصورةً لشاعرٍ ثائرٍ

قضبانٌ وحبلٌ يسرقُ أوردةَ الحياةِ

ياأطفالَ هذهِ الارضِ أتحدوا

غداً ملائكةُ الربِ تأتي

تهبكم أجنحةَ الخلاصِ

تتوجكم فناراتِ عطفٍ

تضيئُ معموراتِ اللهِ

ياحسرتي على نسوةِ حينا

وجوهٌ تتلبدُ بالملحِ والعذابِ

تستظلُ برمادِ الدروبِ

ببقايا دخانٍ أعتدةِ الحروبِ

ياحسرتي لدواوينَ الحبِ

لا ترتلها نسوتكَ ياعراقُ

ولا أزهارُ الحدائقِ اكاليلَ

لصدورهنَ المتشحةِ بمواويلِ العذابِ

***

عبدالامير العبادي

جِنينٌ…ويحَنا جَمرٌ على جُرح

مَدى الأعوامِ تَشريدٌ ونكباتُ

*

فَـصائـلٌ وأحْزابٌ تَـنـاحَرت

إلى متى تُذكّيها  الخِلافَــــات

*

تعِبنا من شِقاقات اﻷشقّـاء

فمَا جَدوى أحاسيسٌ وآهـاتُ

*

تَوابيتٌ…توابيتٌ…أمَا يكفِي

وأشلاءٌ…بِـهِمْ سَارتْ جَنازاتُ

*

هُمُ الفَلْذاتُ نُهديهم قَرابينَ

هُمُ الأحياءُ…أمّا نحنُ أمواتُ

*

نَعمْ مَوْتَى ونحنُ مُجْرمُو حَرْبٍ

وإلاّ أين أجْياشٌ …ورَاياتُ

*

وأينَ العدلُ فِي عَصر القُوَى العُظمى

وباقِي النّاس هُمْ فيهِ هباءاتُ

*

وأين الحقُّ ؟حقُّ الحُرّ وقّادٌ

وأينَ الفِعلُ…لا…إلاّ شِعاراتُ

*

وأين المالُ ؟مالُ النّفطِ أنهارٌ

وراءَ البحرِ مَجراهَا حِساباتُ

*

معَ الدّولار…بالمِلْيارِ…قدْ سِيقَتْ

ومِنْ قَصْرٍ إلى قَصر…وقَيْناتُ

*

ونحنُ الكدحُ طولَ العُمر فِي صَبرٍ

لأجلٍ العِزِّ تَحدُونا طُمُوحاتُ

*

طُمُوحاتٌ مُناهَا الخيرُ والحُبُّ

كذَا نحيَا … ومَا فِينَا عَداواتُ

*

فَلا شَرقٌ ولا غربٌ…هيَ الأرضُ

لكلّ النّاسِ عند السّلم جنّات

*

كفَى ما قَدْ رأينَا فِي فِلسطينَ

كَمِ التّاريخُ يُشْجِينَا ونَجْماتُ

*

معَ الأحبابِ….فِي جِينينَ لُقْيانَا

...! بِرغْمِ اللّيلِ تأتينَا الصَّباحات

***

سُوف عبيد - تونس

 

فجأة.. وبسرعة غير محسوبة جيدًا، انقلبت الاشياء في المؤسسة شارعةً بالتغيّر والتبدّل، نام الجميع في الليل ليفيقوا في الصباح وقد تغيّر كل شيء. وبدلًا من رائحة القهوة العربية الاصيلة ابتدأنا نشم في الأصباح التائهة رائحة "النس كافيه". أكثر من هذا توصّل أفراد الادارة السابقة، ذكاءً أو تذاكيًا الى أنهم يفترض أن ينسحبوا تقليصًا لخسائر كورونية قادمة توقعوها شامّين رائحتها البائخة عن بُعد. نتيجة لهذا كله بات الوضع في المؤسسة أشبه ما يكون بِفَلّة حكم أو بسفينة غارقة، وبعد أن حمل رجالات الادارة السابقة ما خفّ وغلا ثمنه هاربين به ومولّين الادبار حالمين بليالٍ دافئة في أحضان زوجاتهم، برز نوع آخر من رجال الادارة غير المؤهلين ومن غير رجال المعرفة والخبرة، وراحوا بخبراتهم المحدودة يحاولون إعادة ترميم ما أفسدته مياه الكورونا في سفينة المؤسسة العظيمة، وكنت أنا الكاتب المتطوّع في المؤسسة أتابع الامر من بعيد وأفكر في كيفية الاستمرار رابطًا بين فترة ما قبل الكورونا وما بعدها.. وعلى لساني ألف سؤال وعلامة تعجّب، لهذا كان لا بد لي من أمرين أحدهما المكوث في المؤسسة أكثر ما يمكن من وقت والتفكير في تقييم أودي. وبما أن العين بصيرة واليد قصيرة فقد توصّلت إلى أنني ينبغي أن أخصّص ميزانية محدودة لشراء المناقيش من المخبز الواقع في الطريق إلى المؤسسة ووضعه في ثلاجتها الكبيرة.

بعد أن هدأت العاصفة وابتدأتُ بالتفّرس في الوجوه الجديدة، اكتشفت أنني أعرف معظم هؤلاء فبعضهم نبق كما ينبق الفطر بعد شتاء شديد والبعض الآخر كنت أعرفه وابتدأت بالتعرّف عليه كل يوم مجددًا كما فعلت هيلاري كلنتون مع زوجها في فضيحة مونيكا داخل البيت الابيض، المهم أنني بينما كنت أضع المناقيش في ثلّاجة المؤسسة.. شعرت بأقدام تقترب مني. والتفت إلى مصدر الأقدام لأراها تتخطاني وتعبر إلى الداخل. تركت مدخراتي من المناقيش وتبعت الاقدام، لاقف قُبالة صاحبها سعد. كان هذا واحدًا من الاصدقاء القُدم، الذين عرفتهم عن بُعد وربطتني بهم علاقات صداقة متقطّعة.. تحكمها المودة حينًا والمصادفة أحيانًا. وضع سعد يده على كتفي وهو يقول:

-ها نحن نجتمع مجدّدًا.. سنكون معًا.

هززت راسي علامة الموافقة، فتابع يقول:

-مؤكد أن أحدنا سيكون سندًا للآخر.. الوضع ليس سهلًا ويحتاج إلى هِمّةٍ ونشاط..

وافقته مرة أخرى بهزةِ راسٍ أقوى من سابقتها، فدبّ فيه حماس متجدّد، قال:

-هناك الكثير من الامور تحتاج إلى نفض.. وقلب سافلها عاليها.

بينما نحن نواصل الحديث بكلمة منه وهزّة راسٍ منّي، شعرت بأقدام تقترب من حيث توقّفنا، ولم تمرّ سوى هُنيهة سريعة حتى تبيّن لنا أن القادم هو الزميل سعدون. تركني سعد وتوجّه إليه كأنما هو عثر على مَن يَستمع إليه بعيدًا عن هزّات الراس المتواصلة، وفوجئت بالاثنين ينفجران بالضحك.. سألت نفسي عن سبب الضحك.. ضحكهما.. فلم أعثر على جواب.. ابتسمت مجاملة لهما، فما كان منهما ألا أن توجّها إلىّ قائلين بصوت كاد يكون واحدًا:

-مؤكد أنك ستكون عونًا لنا في تنظيم الامور وإعادتها إلى مسارها الصحيح.. المؤسسة تحتاج إلى دماء جديدة تضاف إلى القديمة.

وغمز الاثنان نحوي طالبيَن منّي الموافقة على اعتبار أنني واحد من بقايا الادارة السابقة وفلولها الحائرة، أرسلت هزّة أخرى إضافية من راسي، اعتبراها موافقة مني على الانخراط في إعادة البناء والتّرميم. وغمز كلٌ منهما للآخر ضمن إشارة أننا يجب أن نبدأ.

في الايام التالية فوجئت بالاثنين، سعد وسعدون، يدخلان المؤسسة مرتديين ملابس عمل خاصة ويدفعان بوابتها الحديدية الخارجية بأقدام مَن ينوى أن يقوم بثورة تغيّر وجه الكرة الارضية وليس وجه مؤسسة بسيطة في بلدة صغيرة يطلق على أمثالهما صفة مدينة تزلفًا ومجازًا. فتح الاثنان حقيبة كبيرة أحضراها خصيصًا لتنفيذ أعمال وترميمات في المؤسسة، وسحب كل منهما فرشاة طلاء وباليد الاخرى مجحاف دهان محترف. هجما على جدران مدخل المؤسسة وراح كل منهما يحف بمجحافه ويطلي بفرشاته ضاربًا فرشاة في الشرق وأخرى في الغرب. بعد أن لوّن الاثنان جدران المدخل بألوان مختلفة.. فبدت مثل جوكر يريد أن يحقّق النصر الحاسم النهائي في لعبته، جلسا يتحدّثان مبتسمين، وبإمكاني أن ألخّص حديثهما بكلمات قلائل: هذه المؤسسة تحتاج إلى نفض تاريخي.. بعد الكورونا سنجعلها توجّ وجًّا.. وسوف نُمكّنها مِن أن تتخذ مكانتها اللائقة بها في المدينة.. بعدها انهال الاثنان باللوم على الادارة القديمة، واتفقا على أن نجاح عملهما مرهون بالإجهاز على كل أثر لرجالات الادارة السابقة. ودفنه في حفرة عميقة بحيث لا يظهر لهم أثر" . على مَن يريد أن يقوم بثورة حقيقية في هذا الجوّ العربي الموبوء.. أن يهدم القديم وأن يبني الجديد الحقيقي مكانه"، قال الإثنان وصهلا مثل حصانين جامحين. في إحدى اللحظات الحاسمة رأيتهما هما الاثنين، وقد وقفا وراحا يهزّان ارض المؤسسة بدبكة فلسطينية ويُطلقان الاغاني والزغاريد الشعبية الرافعة من شأن العمل باليد.. تمهيدًا للعمل بالعقل.

للحقيقة أقول إنني لم أشاركهما عملهما هذا ولا صهيلهما ذاك، وحتى حينما توجّهت إليهما عارضًا عليهما المساعدة تقية.. تحسبًا وخجلًا، انبريا يقولان لي: نحن ما زلنا شبابًا بإمكاننا أن نقوم بالعمل على أفضل وجه.. أما أنت يا ختيار بإمكانك أن تواصل جلوسك في مكتبك.. لا أنكر أن شهامتهما المفاجئة هذه راقت لي قليلًا وشجّعتني على سؤالهما ما إذا كانت أعمال الترميم ستطول، فردّا عليّ قائليَن.. سنعمل على مهلنا.. في كل الاحوال لن نفتح أبواب المؤسسة في القريب.. يبدو أن حِبال الكورونا ستطول.

بعد أيام فوجئت بالاثنين يدفعان بوابة المؤسسة الحديدية بأقدامهما ويدخلانها متضاحكيَن.. وراحا يتجوّلان في غرفها وردهتها ناظريَن إلى الجدران الملوّنة بألوان الجوكر الشرس.. ما حدث بعدها أنني رأيتهما من زجاج غرفتي يهجمان على ثلّاجة المؤسسة.. يفتحان بابها الكبير ويأخذان بقذف مناقيشي مُتناوليَن إياها وقاذفين إياها عبر النافذة القريبة." الآن اكتمل عملُنا.. المؤسسة جاهزة لاستقبال روادها"، صفق الاثنان وراحا يرقصان.. عندها نظرت إليهما.. وراح فمي بالانفتاح حتى صار بوسع باب المؤسسة.

***

قصة: ناجي ظاهر

كثيرا ما كان يصادفها في طريقه،صباحا وهو يقصد متجره، أو مساء عند الرواح،عيونها الكحيلة الناعسة من وراء نقاب شفاف هي ما كان يثيره بسحر جذاب. انثى فارعة الطول، جلابيبها المغربية مزدانة بأصداف أمامية والتي كانت تغيرها كل يوم تقريبا، بذوق وحس فني تدل على أنها ميسورة الحال.. عنها حكى بعض من فضولي الحي:"مطلقة، أتت من مدينة شمالية لتدير مؤسسة تعليمية خاصة".

حاول كثيرون التقرب منها طمعا في مالها و سعيا اليها بهوى مفتونين بقدها وأناقتها، لكنها كانت صارمة في صد كل من يحاول التحرش بها، أو محاولة التقرب منها ولو بتعارف وصداقة، ايمانا منها أن لكل رجل قبضة هدفها السيطرة أولا وأخيرا، لهذا فهي تفرض على نفسها عزلة تامة، لاتكلم أحدا غير تلميذات مؤسستها ان صادفتهن في الطريق..

حين دخل مكتب متجره هذا الصباح، أخبرته كاتبته أن أنثى محجبة صاحبة مؤسسة حرة قد توسلتها أن تحجز لها موعدا معه،وحبذت لو يكون الموعد بعد السادسة مساء..

استغرب أن تسال عنه متحجبة، فهو عادة لا يربط علاقات مع هذا النوع من النساء، ولا سبق له التعامل مع زبونة يقمطها السواد، فهذا عنده مبالغة، وكل مبالغة نقصان، وقد ازدادت حيرته حين وصفت كاتبته المرأة، فعرف أنها المطلقة التي يصادفها في طريقه، وتحرم على نفسها أن تتعرف على رجل أو يتعرف عليها رجل..فما الذي حملها على طلب موعد معه ؟ !!..

بعد السادسة بخمس دقائق اقبلت، دخلت المكتب يتقدمها عطرأنثوي هادئ؛ انزلت لثامها ودفعت قب جلبابها الى الخلف،ثم مدت يدها بسلام بعد أن خلعت قفازها الأسود عن يدها اليمنى، أشار لها بالجلوس على كنبة من وراء مكتبه "غريب محجبة تمد يدها لرجل بسلام وتعري شعرها ".. قبل ان تستقر على الكنبة فتحت جلبابها من قُدام،فظهر صدرها الناهد وقدها الممشوق كاشفا عن ساقين طويلين مرمرين مفتولين، تتحرش بهما فوق الركبتين تنورة داخلية بنفسجية بزهور، اعادت نقابها ثم رفعته فوق شعر أسود فاحم تنسدل خصلاته على جانبي جيدها،.".جمال مبهر يتخفى !!..تحجبه جلابية وعنه يتكتم نقاب، كيف تحرم أنثى مثلها أن يتقرب منها رجل ؟.." بخبرة أنثوية ادركت دهشته من سلوكها، وخمنت ما يمور في راسه من استفهام !!.. لا شك ان أكثر من سؤال يغلي في مخه، فكيف تتصرف محجبة صارمة في تعاملاتها بهذه التلقائية ومن أول لقاء برجل لم يسبق لها التعرف عليه ؟ بادرته بعيون ضاحكة:

ـ لو رزقني الله ذرية لكنت أنت في عمر اصغر ابنائي، فانا جاوزت الخمسين.

دهشة أخرى تراكم ماقبلها في مبالغة لاتخفى عليه..أنثى تعلن عن عمرها، تخرسه بتبرير واه بلا حجة ولا سؤال، فهو لم يبحث عن عمرها أو يفكر في سبب يجعلها تكشف عن كل ما يفتن عيون رجل في أنثى، فالظاهر منها طاغ يثير، والمخزون قد يكون أشد فتكا !! هل حقا تصدق فيما تقول ؟ فالتي أمامه لن تتجاوز الأربعين على ابعد تقدير، حتما تريد أن تصرفه عن عمرها الحقيقي، ربما خوفا من أن يغريه جمالها فيتحرش بها، أو يركبه جنون الشباب فيرتمي عليها، خصوصا وهي تراه أمامها شابا طويل القامة،أنيقا، بهندام متناسق، ووجه مليح قد يستهوي أية أنثى.. وحتى لو كانت في الخمسين كما تدعي فجمالها الأخاذ يستطيع أن يحرك أي رجل برغبة..

استدار الى خزانة حديدية خلفه، وأخرج علبة شوكولاطة، قدمها اليها وهو يسال: هل اطلب لك قهوة أم شايا،أم تفضلين كوكطيلا ؟

انهرقت عيونها قلب عيونه "مصيدة شرسة وخطيرة " اشاح بوجهه عنها وهي تقول: لا شيء، دعه لفرصة أخرى، وأتمنى أن تكون قريبة.. أنا قصدتك من اجل هذه،وأشارت الى علبة الشوكولاطة..

بلع ريقه وقال: تفضلي ما المطلوب ؟

تنهدت وقد اطمأنت ان الذي أمامها لايحاول أن يتجاوز حدوده مما قد يتهور فيه غيره من بعض من تعاملوا معها في مدرستها أو خارجها، حتى كلماته تأتي على قدر السؤال بلا مبالغة أو تهور في حركة..

تراجعت مسندة ظهرها على الاريكة ؛ "هل تتعمد ان يبرز صدرها الناهد الشامخ؟ أم أنها تريد افشال مقاومتي ؟" قالت:

من سنة تقريبا، غادرت مدينتي التي شهدت طفولتي وشبابي بعد طلاقي من رجل أراد ان يتزوج بأخرى عساها تهبه مايتوهم اني عاجزة عنه، في حين أنه هو من كان عاجزا ان يهب لنفسه ما يريد، فقد كان عنينا يفشل قبل أن يبدأ..

أثارته العبارة، وقد شدت أنتباهه، جرأة حضور بتعبير يكسر كل جدار كان يلزم أن يكون بينهما في أول لقاء بلاسابق معرفة، انطلاق في عفوية وطلاقة لسان، تدمر كل حجاب،و تلغي كل صلابة مما يقال عنها، تلقائية حديث بلا تصنع أو اجهاد نفسها في كلام، تناقض ادعاءها كونها قد تجاوزت الخمسين، فكيف تكون قد بلغتها وهي على يقين انها قادرة أن تمنح زوجها مالا يستطيع أن يمنحه لنفسه لعجز فيه.. ظل ينظر اليها بامعان موح بثقة تشجعها على أن تتابع حديثها بحماس وسعادة هما ما تعكسهما عيناها الضاحكتان.. تابعت:

ـ وحيث اني تربيت في ملجأ فلا أهل لي، رحلت الى هنا حتى ابتعد عن القال والقيل وتحرشات الرجال في مدينتي السياحية التي غيرت الدعارة وجه سكانها المحافظ، فامرأة جميلة ومطلقة مثلي تصير فريسة الأغراض والشهوات من قبل الرجال.. هنا في هذه المدينة سبق أن أقمت أربع سنوات مع زوجي،وهو من بنى المدرسة التي تنازل لي عنها كصك الرضا بعد أن توهم ان الطلاق حل لما يعانيه..كما أنها ثمن صمتي وقبولي الطلاق بلا توابع.. رضيت بعطيته، ولماذا أرفض وقد مللت رجلا جليديا لايهش ولا ينش.. فعطيته قد تكفيني زيغ الرجال، أو التطلع لاغرءاتهم وتحرشاتهم...

كان أمامها كمنخل يفسخ ويفتت ثم يغربل كل عبارة تتفوه بها، وقد اثارته كلمة تحرش ترددها كلما تحدثت عن الرجال ؛ ربما عانت من ذلك، ربما تبالغ،ربما هو مرض الأنثى حين تريد أن تبررمواقف ترسخت في عقلها بلا استئذان!!..

لكن وهي تتعرى من جلبابها،تغريه بساقيها المفتولين، وترفع نقابها عن وجهها الفاتن، وتسمح لصدرها أن يبرز أمامه، أليس هذا هو نفسه اغراء عن قصد منها،وتحرش به عن إصرار ؟ ربما خططت له قبل مجيئها اليه !!.. فهو فعلا شاب وسيم يغري بأناقته وعفويته ولعلها أدركت بخبرتها تمتعه بكاريزما ساحرة تشده اليها ما حسسها بالأمان والطمأنينة. كيفما كان احساسها نحوه فعليه أن يقاومها ويحذرها حتى لا يصير ضمن الرتل الذي تحكي عنه..

هل ياترى تمارس نفس السلوكات مع كل رجل تستفرد به، فيثيرها بشباب وأناقة حضور ؟ أم هو تخطيط مسبق ؟ام أن ما يقع هو من مطحونات الرحى العقلية التي لا تتحكم فيها بعض النساء ؟

تصمت قليلا ثم تتابع وكأنها تحدث أليفا تعودت أن تجالسه وتبثه كل مشاعرها وأسرارها، فقد صارت تتكلم بكل حاسة فيها، تنيم عيونها تارة او تغمز أخرى، تزم على شفتيها او تمدد السفلى منهما، جذلى كمراهقة لاتسعها فرحة، الطريقة التي تمرر بها لسانها على شفاهها لا تعكس غير محاولة لتفتيت صلابته ومقاومة لم تستطع دحرها باثارة جنسية تكاد تكون مفضوحة..

ـ بعد غد سنشرع في عطلة الربيع، وسيبدأ كل اليف يحن لأليفه، فالدفء يثير كل كائن حي، والربيع هنا يضيف سحرا للمدينة، أليس كذلك ؟

كان يتابعها وهي ترسل كلماتها وكأنها تتعمد أن تكون موحية تبلغ رسالة خاصة ؛تتنهد وكأنها تعبر عن رغبة كامنة ثم تتابع:

وحيث أني فضلت عدم السفر، و رغبت في صديقات كن معي في الملجأ هن من يزرنني، قلت لماذا لا أكرمهن بمكسرات وفواكه جافة وشكولاطة رفيعة، مما في متجرك وهو أشهر من نار على علم..

رغم حذره واحتراسه فقد ابهرته طلاقتها والتعبير عما تريده بقدرة منقطعة النظير، حتى أنه نسي نفسه وهو مشدود الى غمازة على خدها الأيمن، وخال مثير اسفل أذنها اليسرى اضافا الى لونها القمحي وسحر العينين جمالا مغريا ؛فبين تناقضات القول وجمال الطلعة سحر يحتاج الى فك غموضه ؛ انثى فريدة تسكنها الحياة بقدر ما يسكنها التناقض... تبسم في وجهها وقال: رغم ان متجري لا يبيع بالتقسيط فسأزودك بكل ما تحتاجين، كضيفة وزائرة لمتجري..طيب كم عدد زائراتك ؟

قالت وكأن كلامه قد اراح صدرها مما أبلغته لها الكاتبة في أول زيارة كون المتجر لا يبيع بالتقسيط:

ـ هن ثلاثة فقط، لكن أحب أن اهديهن من ألذ وأمتع مما عندك..

قالت العبارة الأخيرة بايحاء وكانها تدعوه اليها، أو تتمنى حضوره مع صديقاتها، لكنه تجاهل حركاتها.. و قد رفع نظره الى الحاجز الزجاجي بينه وبين كاتبته وكأنه يقول لها احذري !!..

ـ لا عليك اتركي عنوانك عند الكاتبة وسيصلك كل ما يكفيك

تحركت كمن لسعتها نحلة:

ــ لا ارجوك !..اكره أن يطرق باب بيتي رجل.

قطب جبينه وان ظلت عيناه تتبسمان لقولها:

ـ طيب مري على المتجر بنفسك غدا في أي وقت شئت وستجدين الطلبية جاهزة.. فتحت فمها وصبت عيونها في عيونه بنظرة عميقة كانها تريد أن تقول: لماذا لا يكون الحامل أنت ؟ لكنها تراجعت، مررت لسانها على شفتيها بنفس الاغراء السابق ثم مسحت الأرض بعيونها وكأنها تفكر في شيء معين، قالت: لن أخفي عليك انا لا أكره كل الرجال كما قد يتبادر الى ذهنك حقدا على زوجي الذي طلقني، فانا ما أحسست يوما بوجوده في حياتي، أكره بعض الرجال لان أحدهم كان قد أغتصبني و عمري 6سنوات، ولم يكن المغتصب غير ابي الذي استفرد بي بعد موت أمي.. حاولت أن اتناسى، لكن في الملجأ ما كنت لديهم غير سمكة،كل رجل يرمي لها بسنارة و طعم، لهذا لم أنس اغتصابي من ابي فظلت الحادثة تؤرقني ليلا ونهارا، وقد صرت أخشى ظل الرجل اذا مر بجانبي، لهذا بادرت بقبول طلب مدير الملجأ فتزوجته رغم أن اثنتين قبلي قد سبقاني اليه، مع الأسف لم يكن غير رجل عاجز، كان يشتري صمتي بماله مما ولد عندي ميولات أخرى اعوض بها حرماني وجوعي الجنسي.. لكن الحق يقال فقد أستطاع ان يذيب خوفي من الرجال، فقد علمني كيف اتحدى واتجاوز كل مشاعر الاشمئزاز التي كانت تتملكني كلما مسني رجل،وها انا اللحظة معك، وقد خلعت كل كلفة بيننا بل تركتك تراني كما أنا بلا خلفيات دينية أو اجتماعية، أنثى حرة لا تخشى الرجال او تتجرد من رغباتها..وثقتي فيك قد تجعلني اتعرى امامك بلا حرج..

بسرعة رفع يده وكأنه يصدها ان تغامر بماقالت !..

اطلقت تنهيدة عميقة، في لحظة مدت يدها وأخذت حبة شوكولاطة، تذوقتها باستمتاع وتلذذ شهواني ثم تابعت:

الأنثى منا تتحجب ولكن في عمقها ألف وسواس خناس يحرك فيها كل ما وهبها الله من رغبة وتوق وجوع جنسي، وكل من تدعي غير ذلك فهي تنافق أو تنتحر عن إصرار... لقد أخضعت نفسي لحجاب ليس لرغبة أو رهبة وانما اتقاء ما صرنا نعانيه كنساء بين الرجال، خصوصا اذا كانت المرأة مثلي لها ميولات أخرى تعودتها لسد جوعها وما عاد لها بالرجال رغبة لما عانته منهم.

توقفت قليلا ثم استدركت..مع استثناءات طبعا عند تحرك شوق ورغبة وأناقة حضور..

أحس بان التي أمامه تريد أن تجره الى حياتها الخاصة، تتعمد اثارته ؛ تململ في مكانه وهو يقارن بين زيها وسلوكها وبين تناقضات حياتها وكأنه يعلن انتهاء المقابلة، وقفت، و قد تعمدت ان تترك فتحة فستانها السفلى تكشف عن فخدها الأيسرالمرمري ثم قالت: لم تخبرني عن الثمن ؟

"أنثى منذورة للفتنة والحياة، و لو بقيت في مكتبي دقائق أخرى لوقعت تحت سياط أغرائها وذاك غالبا ما تسعى اليه ".. بادرها بالقول:

لايهم ستجدين كل شيء عند الكاتبة..

اعادت جلبابها وشرعت تقفل صدفاته، تراجعت قليلا الى الوراء فظهر نهدها البض، وهي تركز النظر فيه كانها تتمنى أن يرتمي عليها ويطوقها بيديه، فقد رأت فيه رجلا يستحق ان تتعرى له انثى..

انزلت نقابها على وجهها،رتبت قبها بعناية وعيونها تلتهم الرجل، ثم مدت يدها تودعه وقد تعمدت أن تضغط بقوة على يده.. انتبه الى أنها تسرق النظر الى علبة الشوكولاطة وكأنها تتوسل اخذها.. حملها ثم قدمها لها: " ذي هدية من المتجر "

ضحكت وقالت: الشكر لمالك المتجر على لطفه وذوقه..ثق أنني قد ارتحت اليك، و سأزورك مرات أخرى اذا كان وقتك يسمح بذلك طبعا.

ادرك أن السيدة لها ميولات قد كشفت عنها، كما كشفت عن تناقضات في سلوكها، وهو نفس التناقض الذي جعل ماحكته ينحل شكا في ذهنه ؛أطلق زفرة عميقة بعد انصرافها ثم أخذ ورقة ودون عليها كل ما يلزم الزائرة ؛ دعا كاتبته،سلمها البطاقة ثم قال: اجمعي المطلوب في صندوقة كبيرة وضعي داخلها فاتورة صغيرة بلا اثمنة، لا تنسي أن تكتبي عليها هدية من المتجر، لكن اياك ان تسمحي لها بالدخول عندي مرة أخرى...

***

محمد الدرقاوي

تمهل ..

لا تحاول العبور

من دمي

عالق انت هنا بين اصابعي

قصيدة لا تنتهي..

وحتى اخر نبضة

يسيل منها عطرك

على شفتي..

عالق

انت هنا

بين زمنك و زمني..

بين ارضك و ارضي ..

ولنا صوت واحد

ودمعة واحدة

وضحكة واحدة

قد تجمعنا

الى الابد..

لا وقت لنا للغياب

قد اكتفى العمر من العذاب ..

دعنا نمشي على اطراف اصابعنا

كي لا نوقظ

الحزن

فينا..

دعنا نهز السحاب كي

تعزف لنا المطر من جديد..

من همسة الحب

سوف نوقظ ربيعنا

لنرتشف العشق

كؤوس ورد و ياسمينا..

تمادى الحب فينا

تمادى شوقا

وفراقا و حنينا..

تمادى..

كبرياءا..

تمادى..

يأسا..

وانينا ..

كم مشينا في البعد

دون شمس..

وكم ضعنا

وكم نالت ليالي

الفراق من

امانينا..

تمادى الحب فينا

حتى الثمالة..

والعشق قال كلمته

الاخيرة..

انا لا ازال

انا ..

ارسم وجهك بالدمع حينا..

و بالامنيات حينا..

***

بقلم: وفاء كريم

"مهداة لكل هوى هوى"

على ضفاف طيفك رسمت

أحلاما

عشقا في هوى أغواني

ما عادت الألوان

ألوانا

ولا الملامح ملامح

في الغربة أنا، أسير أحزانا

خلفت صمم الحروف والورود

والجدران

ألغزت الرسائل...

وها الندى حيرانا... حيرانا

إني ما عدت أراك

كما عهدتك نورا في نوري

ولا سرا

من أسراري وصوامتي

وصدى النبضات

لقد أحببتك... ذات عمر

يا مرج المنى... كنته

كيف لي بك تهجرين الطريق

والأحلام والذكرى

ومعنى القصيدة

يا حسرة على صفاء

وماء

فها قد مات

مات في دمي

ذاك الذي

كان

قدسيا بيننا

***

عبد العزيز قريش

ليس حقلا مكتضاً بالأعشاب، والحشائش اليابسة عندما يهطل السيل، ويغرق الجذور الممتدة إلى حدود عواطفنا.

هل تتخيل ذاك الشعور الذي يعتريني كلما انسكب البرد على سواحل خدي، ويتمدد الحنين فارداً ذراعيه نحوي؟

وكلما بزغ خيط من خيوط الشمس هارباً من ركام الغيوم الرمادية المتراكمة في أفق السماء يصطف شريط الذكريات المنسية على رف مخيلتي مقلباً صفحاته الصفراء كاصفرار خريف ورق.

إنني لازلت أبحث عن نص بنكهة فصل خامس يعيدني إلى بدايات الندى الصباحي لا إلى تلك السطور المتأرجحة التي تذكرني بفواصل الشعور.

وإنني امرأة تحيك معاطف شتوية محكمة الأزرار بجر حرف ممطر على زجاج نافذتك، وتوقد في الأبجدية حديث دفء طويل، وتطعم النار طيش رسائلها الكتابية الصماء.

أتعلم أنني على مشارف السكون، والاكتفاء من انتظار ضجيج حرفك الذي يجوب معالم الوجوه، ويتسلق الورق باحثاً عن ظلي ... بعد ذاك الالتحام الصادم في مفردات كتاباتنا، وغريب أن يتلبسني هذا الشعور وأنا أتعثر بحديثك في تمام السادسة صباحاً.

إن المعطف الذي أرتديه وأنا منعزلة في كتابة رسائلي يتسرب الدفء إلى فوهة القلم، ويصهر كتل الجليد الحبرية، ويحولها إلى بحيرات على سطح الورق.

***

مريم الشكيلية /سلطنة عُمان....

لـكـــلِ قــافــيـةٍ عَــزْفٌ، تــوَلاّهــا

وفي انـتـقاء المعاني يَـحلو مَغْـزاهـا

*

أجـواؤها إنْ حَواها الصِدقُ عامـرةٌ

وعَـذْبُ رافِـدهـا، يـروي مُحَـيّـاهـا

*

والرأيُ إنْ جَـعَـلَ الإنصافَ غايـتَـه

تسْـمـو بـه الحالُ، مبناها ومعناهـا

*

تـَـرنِـيـمَة بـنَـقـاءٍ، صاغَـهـا ألـَــقٌ

تُـعَـزِّزُ الـوَصْلَ، في أسمى نَواياها

*

يامـن يـَرومُ دَوامـا، فــي تواصلِه

فـعِــفّـة الـنـفــس، للآمال تَرعاهـا

*

إذا النصوصُ تـسامَـتْ في بلاغـتِها

بـفضلِ مَـوْهــبةٍ قــد لامَسَـتْ فـاها

*

يـزهـو النشيدُ بها فخرا بما وُهِـبَـتْ

زهْــوَ الـقلوبِ بحُـبٍ قـد تَـمَـنّـاها

*

مَلامِـحُ الـودِّ، فـي انـسامهـا عَـبَـقٌ

وفـي الـتكلف تـبدي النفسُ شكواهـا

*

قالوا : وثـقْـتَ بأوصافٍ فبُحتَ بهـا

فــقـلتُ : قـلبي قـبل العـيـن أفْـتـاهـا

*

لـمّا رأى، أنّ فـي مضمونها قـبَـسا

مــن الحـقـيـقة قــد أغْـنى مُـؤَدّاهـا

*

إنّ الـتّـحـايا اذا جـاد اللـسـانُ بـهـا

من معجم الحب صار القلبُ مأواها

*

صَوْتُ البـيانِ لـكي يعلو، يُعـزِّزه

نَـقاءُ نَـفْـسٍ، زها بالطيب فحْواهـا

*

إنّ التخاطبَ في استِجـداءِ عاطفـةٍ

لا يـنـتمي لِـنَـوايا، عَـفَّ مَسْعـاهـا

*

محاسِـنُ الوَجْـهِ ليس الطبْعُ يرفِدُها

لـكـلِّ ديْـمـومَـةٍ شـأنٌ بـمَجْـراهـا

*

الطـبْعُ ليس جمالُ العـينِ يـَكـشـفُـه

كم مُـقْـلةٍ قد تـمَـنّـتْ غيرَ سُـكْناها

*

نَـهْجُ الثـقافـة يُـعطي نُـورَ أحـرُفِـه

للنفـس بُـغـيةَ تَهْـذيـبٍ لِمَسْـراهـا

*

فإنْ تزامَـنَـت الأخلاقُ تعـلو بهـا

مَراتِبُ العِـزّ صَوْبَ الأفق مَرْقاهـا

*

تبقى المواهبُ تمضي في توجهها

صَوْبَ العطاء لأن العَـزْمَ يهواهـا

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

"كُتبتْ هذه القصيدة أواسط تسعينات القرن الماضي شوقا الى رفيقة عمري وأنا في غربتي وقد حالفني الحظّ  وظفرت بها ضمن أوراقي القديمة"

***

ما أنــتِ يــا مَـعْــشـوقَــتـي!

كــم أشــتهــي لُــقـيـاك وجِـدا

*

فــي غُـــربَــتي مُــتَــوحِّــــــدٌ

أشْــتـاقُــهــا جَــذبَــا وشَـــــدّا

*

لــم ألــقَ فـــي كـــلّ الــشــتـا

تِ جــميــلة أصــفــى وأنـدى

*

أنْــفَــاسُهـا زهــرُ الجِــــنــان

أشُــمّــهــا عِــــطْـــرا ووردا

*

بــنـت الــعــراق سـلــيـلـــتي

مـمــزوجة عــــرَباً وكـــردا

*

فــي الــتـركمـان صـبَـابـتـي

قــد ذقْــتُــها عَـسَـلاً وقَــنْــدا

*

هــيفـاء كالــبـان الرطــيــبِ

تَـمُــدّنـي لــبَــنـاً وشــهــــدا

*

غَــرّاءُ ، فَــيـضٌ حــضـنُـها

مــنـحــوتــةٌ روحـــاً وقـــدَّا

*

أنّــى الــتـفـتتَ فـلـم تــجـــدْ

فـي سحـرِها شــبَــها ونـــدّا

*

فــالقــلـب يــمرح بالــوفـــا

والــوجه نــنـهــلُ مـنـهُ ودّا

*

بَـقِــيَـتْ على عَـهْـد اللـقـاءِ

تَـحَـمّـلـتْ هَــجْـرا وصَــدّا

*

وتـقـول لي عــند المــزاحِ

أيا جواد : أخـنتَ عهدا ؟؟

*

فــأجــيــبُـها مُـتـضاحـكــاً

عرقـوب لا يوفـيـكِ وعـدا

*

مُــتَـــنـــقّــلٌ أم ثـــابــــتٌ

لــم ألـتــمــسْ نــكْـراً وإدّا

*

لـم تـنسَـني كــلّ السـنيــن

فـذا الحسـام يـريـد غـمـدا

*

غـرّبـتَ نــأْيــاً للـبـعــيــد

تركْتِني في الأرض فردا

***

جواد غلوم

 

ﻷمر طارئ إضطر صاحب البيت أن يترك زائره وحيدا وبشكل مؤقت. الضيف وفي مثل هكذا حالة، عادة ما كان يزجي الوقت ويقضيه بمتابعته وعبر نافذة البيت لحركات وألعاب وصراخ أطفال البيت المجاور، وعدوهم وتسارعهم في باحة الدار الواسعة وما سيرافقها من شعور بالنشوة والفرح وبلا حدود، سينعكس تأثيرها على الضيف لينتابه إحساس، بسعادة لا تدانيها سعادة. كذلك عادة ما يستهويه التطلع الى كيس اللبن المعلَّق وبشكل ثابت على ساق إحدى الشجيرات ومع كل زيارة يقوم بها لصديقه، والذي عادة ما كان يستغرقه ويأخذ منه بضعة دقائق تغزلا، حيث يعيده ويذكره بذلك البيت الذي قضى فيه طفولته، يوم كان شقيقه اﻷصغر ينافسه على تذوق خلاصته اﻷولى.

 الاّ ان الضيف هذه المرة وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه لا سيما وان صاحب الدار وعلى غير عادته قد تأخر كثيرا. فبينما هو مستغرق في نظره الى البيت المجاور وإذا به يشعر بأنَّ في حركته ما يعيقها، فوقع المفاجئة كما يبدو كانت كبيرة عليه. فعلى مدى سنوات عمره التي انقضت والتي عبرت العقد الثالث ببضعة منها، وعلى الرغم من وقوفه وإطلاعه على العديد من التجارب، وقراءاته للكثير من القصص المشابهة لما يحدث له الآن، وعلى الرغم كذلك من التنظيرات والنصائح التي كان يسجيها مجاناً لهذا وذاك من أصدقائه بفخر وزهو، وخاصة فيما يتعلق بهفهفة القلب وأوجاعه، والتي عادة ما يصاب بها العاشقون، الاّ انه اﻵن يبدو عاجزاً عن القيام بأي فعل أو حركة، تنجيه من الحالة التي وجد نفسه وقد وقع فيها. أمّا رجاحة العقل وحكمة التصرف عند الشدائد والتي كثيرا ما يرددها ويباهي بها، فقد فلتت من بين يديه وقلبه.

نحرها أبيض بض، لا يفصله عنه وعن نهديها الاّ بعض خطى. وما دام الحال كذلك فما عليكم الاّ أن تعذروه، إذ هو في حالة إنفصال وانفصام كامل، غائب عن البعدين، زمانا ومكانا وربما هناك بعدا آخر أيضا. فالرجل ولعلها للمرة الأولى في حياته التي يحسُّ فيها بطعمَ الهيام والتي أفضت ومن حيث لا يدري الى قطع الصلة بما يحيط به، ليكون بذلك قد سقط في جُبٍ عميق وعلى نحو غير متوقع، جانحاً ومبتعدا عن سياق شخصيته، متمردا عليها دونما دراية بل باتت مفروضة عليه.

دونما تخطيط مسبق وإذ به يشرع بفتح النافذة الفاصلة بينه وبين مَنْ هامَ بها، متجاوزا كل اﻷعراف التي كثيرا ما كان يدعو اليها ويبشر بها. ثم أخذ يدندن وهو العارف بأغاني سيدة الطرب أم كلثوم ورائعتها اﻷطلال. وما كادت تقترب أكثر منه وفي لقطة بدت كأنها في شوق لمن يطري قلبها النابض والرابظ على خط العشق، حتى راح مزيدا من وتيرة صوته، منغما ذلك المقطع اﻷثير على قلبه: ومن الشوق رسول بيننا ونديم قدم الكاس لنا. وعند وصولها الى هذا المقطع راحت الفتاة تُكمل بقية اﻷغنية و بأداء رائع وصوت شجي، تطرب له القلوب قبل النفوس، مما دفع الضيف الذي يزعم معرفته بأصول الغناء ومقامته، الى أن يصغي اليها بكل جوارحه. وما كان له أن يخرج من حالة الهيام هذه لولا نداء أحدهم وهو يدعو سرب طيوره الى التحليق بعيدا بعيدا. إثر ذلك ومخافة أن يحدث لها وله ما ليس في الحسبان، ما كان على الضيف أو الزائر الاّ أن يعود الى أدراجه والى وعيه، مغلقا النافذة المطلة على الجيران، ملوحا لتلك الفتاة بيديه الحانيتين، على أمل اللقاء فيما بعد.

 أمّا نحن فسنصرف النظر ونغض الطرف عن بعض الإعتبارات، ونشرع بقراءة ما حصل معه وعلى نحو لا يخلو من إجتهاد في القراءة وفي التفسير وما يمكن أن يتبعها من تصورات وأحكام. فالرجل وبسبب تلك الصورة التي شاغلته وإستقرت في ذهنه وأتعبته كثيرا بل وأقضت مضجعه، والمقصود هنا صورة النحر والنهدين وموقع القلادة من الصدر، (للعلم فالفتاة لم تكن تعلق قلادة كماصورها الضيف) أدَّت فيما أدت الى إختراق مخيلته ومن غير إستئذان وإحداث بعض الإرباك، حتى تعذّر عليه معرفة ما يدور من حوله.

 ولولا بعض المؤشرات التي بانت على وجه الفتاة التي تقابله في الطرف اﻵخر من النافذة وما صدر عنها من ردات فعل مفاجئة، تنم بمجملها عن حالة قلق وإرتباك وخوف، لتثير بدورها إنتباهه ولتعيده نسبياً الى حالته الطبيعية، لما كان الضيف قد تنبَّه الى ما يجري من حوله. ففي حركة عينيها ووجلها وإحمرار وجنتيها، ما ينبئ بوقوع شيئا ما لم يكن في الحسبان ولا بالمطمئن. انه صوت جلبة داخل الغرفة، لم يستطع التأكد منه الاّ بعد أن صدرت من مضيفه  بضعة كلمات،إستبقها بنحنحة، كاد صداها وبسبب من قوتها أن تخترق زجاج النافذة الفاصلة بين بيته وبيت الجيران، في مؤشر واضح، يُنبئ بدخوله الغرفة، والى تحذيره كذلك وفي حركة تنم عن تواطئ مكشوف مع صديقه، علَّها تصله ومن دون أن تسبب له حرجا.

حتى الآن يبدو الأمر طبيعياً أو لنقل نصف مصيبة، ولكن المصيبة الأعظم هي دخول صاحبة البيت بعيد لحظات من دخول ولدها، وبيدها شيئا ما لم يستطع تبينه من شدة وقع الصدمة عليه. في هذه الأثناء لم يكن امام الضيف من حل لتجاوز الإحراج الذي وقع فيه الاّ قيامه وعلى عجل بلملمة وضعه المضطرب ما استطاع وعلامات الإرباك بادية عليه، وسط دهشة وتعجب أهل البيت، ليغادر الغرفة والدار معاً، وحتى من غير أن ينطق بأي حرف، تاركاً ورائه ذيول مشكلة، يظنها كبيرة، لا يعرف درجة تفاعلها وما سيترتب عليها من نتائج، ولا كيفية تجاوزها مستقبلاً، لا يعرف كيف سيجد لها من التبريرات والمخارج، ما سيسعفه وينقذه لتجاوز الحرج والمأزق الذي وقع فيه.

لم يتوقف عن التفكير فيما حصل معه، فطيلة طريق عودته الى البيت راح يستعيد تلك الواقعة، واضعا العديد من السناريوهات التي يمكن أن تترتب عليها: لقد إنقلبت الطاولة على رأسك يا فلان وأصبحت في حالة لا تُحسد عليها، فربما تداعيات ما وقع ستصل أبعد بكثير مما تعتقده. كان اﻷجدى بك أن تترك أمرا كهذا لشقيقك، فهو اﻷجدر منك واﻷقدر على محاكاة ومجاراة هكذا وقائع، وَلكانَ قد خطفها وطار بها حيث يشاء، وﻷجتاز كل الحدود، بما فيها الممنوعة والمحرمة. ثم راح مسائلا نفسه: ولكن ما بك يا رجل، فها هي الفرصة قد أتتك وعلى طبق من نور ومحبة، فما كان عليك الاّ أن تستجيب لنداء العشق وتطوي تلك الصفحة المعتمة من حياتك، والتي لم توصلك وحتى اللحظة الى ما تبتغيه رغم ما تمتلكه من رصيد فكري ومعرفي، بل حتى لم تساعدك على عبور الضفة اﻷخرى من النهر الذي يخترق المدينة رغم صغره.

في هذه اﻷثناء وبينما هو منهمك في حساباته، لفت إنتباهه صوت جلبة واضحة، مصدرها ما يحدث من مشادة كلامية، أحد طرفيها رجل ستيني، تبدو جلية عليه ملامح الوقار والهيبة، وهو يحاول التدخل لدى رجلي أمن، محاولا منع إقتياد أحد الصبية وإدخاله عنوة في الجانب الخلفي لسيارة الفوكس فاغن الرمادية اللون، السيئة الصيت والسمعة، والمعروفة من قبل اﻷهالي بعائديتها الى دائرة أمن المدينة، ففي اﻵونة اﻷخيرة لوحظ تزايد نشاطها وتحركاتها المريبة، مستهدفة كل مَنْ يعارض سياسة الدولة وحزبها الحاكم وتحت مختلف الحجج والذرائع. أراد أثرها صاحبنا التدخل لصالح الصبي غير انه تراجع عن ذلك، خشية أن يقتاد هو اﻵخر الى دائرة اﻷمن، فالأجواء السياسية في البلد لا تبشر بالخير، ومَنْ يدري فقد يكون هو اﻵخر مطلوبا لهذه الدائرة أسوة بأصدقائه الذين سبقوه.

 ***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

 

أجمّع نفسي عارضًا وجهي للضوء، ثمّة وجهٌ رأيته ينزف في السحب. كم من قائل روى حكايته ولم تُسمع، وأنا أهذي بانتظار أن تتركني الموجة على شاطئ مجهول، مقيّدًا إلى حجر مثل همسة بعيدة لا يسمعها أحد، كنت أصعد درجًا في نهايته فتحة كفم البئر تطفو بداخله غيمة من وجوه تسيح وتغلي ولا تستقرّ، أفتح كتاب الزمن بأصابع مرتجفة وأقرأ:

دعه يشرب ما شاء من دمك، ودعه يسيح ويهذي ويرتجف، ولا يستتب، هناك على حلبة الحياة حيث تتصارعُ الوحوش. خذ أحزانك وأفراحك ثم ادعكها، وحالما يتصاعد منها الدخان.. ضع عليها قشّ العائلة الجاف، وأغصان الأصدقاء الصغيرة، وورود الحب الذابلة، وقرّب وجهك من هذه الكومة نافخًا عليها كلّ الحسرات السريّة والآهات التي لم تغيّر شيئًا، أنفخ عليها بهدوء.. مرارًا ومرارًا ثم دعها تشتعل. ولا تخبر أحدًا عن أيّ شيءٍ يجعله يشكّ بقدرتك على جرّ عربة الحاجة، يجب أن تجرّها بسعادة، ولا تخبرهم أنّ الطريق مسمومٌ وشائك، فقط جد لك أيّ جرحٍ ونظّف دم الرحلة بهدوء.

٢

لم يكن الزمن الذي جاء منه، ولا المدينة التي عاش فيها، صالحين لقرض الشعر وحياكة القصص أو اللعلعة بالغناء، أو حتّى المساهمة في أن تنمو له قصة حب خيالية حتّى نهايتها الممكنة.. كان دخان المفخخات ورصاص العصابات يكتّف الأصوات في الحناجر ويقيّد الخيال. لم يكن ثمة شاعر، ولا طبّال.. ولا مغنٍ ذو صوت شجي، ولا حتّى حلقة للذكر يتأرجح فيها الذاكرون.كان يناجي نفسه كثيرًا، ويتواصل مع الآخرين قليلًا.. يتوقّف عن عمل أي شيء بين يديه حين ينغزه لحن، فتتلبّسه أشباح الشعر وتحرّكه وتتلاعب به حتى ينتهي هذا اللحن.

(كان يتلحّف البحر مبتلعًا الملح دون الماء

استيقظت رئتاه

وأصداء بحارة غرقى ينشدون الموت

كأن أصواتهم تودّع أحلامهم

هناك هناك..

في الضفّة الأخرى..

لم يكن سوى قمرٍ وحيدٍ يسحب الموج على خاصرته

ليستعير نوره الذابل)

هذا الرمل الذي كان موقدًا لرقصات الجثث وهي تتطاير من على البنايات وترتطم بالأسفلت. في الطفولة التي طارد فيها حكايات النوم ولم يقبض منها غير الكوابيس والليالي المفزعة.

هذا الرمل لم يتبقّى هنا ولا في الضفة الأخرى، ما تبقّى آثار أقدام وعويل.هذا الرمل لم يعد هنا، هذا الطفل يبقى وحيدًا، مثل آثار قدم مثل أصداء أغنية.

حجبت الشِباك عن زورقه الهواء، حدّق فيه وعيناه مغمضتان صرخ في سره دون صوت.واقفًا على الجانب المعتم من الظّل، ضوءًا نحيلًا يبحث عمّا وراء الجدران، لا شيء غير الشحوب يسكن غرفته، لا الستائر مستيقظة، ولا جفنه المسدول استراح من غفوة الترحال، ولا يجد الكلمات التي يصف فيها قلبه خلف جدران رطبة لا يعلم إلى أي باب ستفضي..

٣

العلم بالإله من غير المألوه لا يصح فلا يعوَّل عليه، ولهذا قال الشارع: من عرف نفسه فقد عرف ربه.

 رسالة الذي لا يعوّل عليه

محيي الدين بن عربي

٤

أطلق الحلم سراحي، وتركني بالظلام في طريقٍ مهجور. أتى ليل الضفادع والأفاعي والعقارب، إذا ما طرت هاربًا منها بلا أجنحة وطاردت أشباح الملائكة، عبرت بي كتائب مقهورة تسحب راياتها.ما كنت أقيم على الجمر، وما كنت أنام وحيدًا من أجل أي شيء وأحيا في عالمين بينهما كتاب، أفتحه كأن في قدرتي أن أستعيد ما فقدته مرّة أخرى، أفتحه فأخلع هذه الأقنعة وأستعيد الشاطئ مرّة أخرى، وأسبح ثانية في ذلك التيار.ألتفّ إلى نفسي وليس لي أن أبدأ أو أنتهي، أرتقي درجًا لا أعرف أين يؤدي، عارفًا أن كلّ ساعة هي الأولى والأخيرة.. أرتقي درجًا وأسمع الأصوات ورائي:

اسمعنا، اسمعنا آخر مرّة

وحرّر وجهك منّا.

٥

أقنعته ارتجلت خطابًا من فمه، فاندفع مثل بخارٍ من مرجل، عيناه خائفتان مثل وجه كلب مرتعب، كانتا تريان الأقنعة وهي تكتب نفسها وتقول:

تأكل طعامك في الأماكن المعتادة، تألف نفس الوجوه، تسلك الشارع ذاته، تنام على نفس السرير، تظنّ أنّك تحلم، مستيقظٌ أنت يا صاحب المقامات تجفل وتفزع فيهتزّ الليل من قميصه. قُم وانهض، وحدّثنا.الليل يومئ لك.هذا ليس وقتك.

أيها الغريب في كلّ بيت، أيّها الشريد من نفسه، يا رصيف الموانئ، وابن قاعات الانتظار، يا احتمالات الغياب في مقاهي الهاربين، يا صدأ المقاعد المهجورة، يا وحيد يا غريق يا مؤانس، يا ليلًا طويل الهموم كثير الوساوس، يا من كانت وحدته شجرة أعارت ظلّها لليل، أيّها المشجب الذي يعلّق الراحلون عليه بيوتهم.اخلعنا.. كن شجاعًا ولو لمرّة في حياتك وودّع هذه الأقنعة، اخلعنا اليوم هنا، في حياتك وحتّى بعد موتك. فمن يدري إن كنت ترتدينا أم نرتديك؟

أقنعته ارتجلت خطابًا من فمه، ما عادت تدرك ما تقول، عيناه كانتا تريان الأقنعة تكتب نفسها.صاحب المقامات يخاف الحب ويكره الضعف الذي يصاحبه، عمومًا هو يكره الخوف والضعف مع أنّه يتقن الاثنين، يختبئ خلف أقنعته مع عاشقات متخيّلات ويدّعي أنّه أعرف بالحبّ من غيره.لكنّه لا يفصح أبدًا بل يكذب، حتّى على قلبه.

٦

يحاول الغزاة أن يأخذونني أسيرًا عندهم فيفشلون. يحاولون من جديد بالضحايا والأنوار، والحروب الطويلة، وأنياب الملوك الجدد والخلفاء القدماء، يستعينون بقرّادين وشحّاذين بلا عدد، فقراء بعدد نجوم الكون، فقهاء وعلماء أهملهم الناس فصاروا يتسوّلون، وشعراء ومتصوّفة فقدوا رؤوسهم من المحبّة. تحاول الموسيقى أن تجرف الصمت بشفتيها.والديانات أن تسلخ جلدها الليليّ بعيون مغمضة.وعندما لا ينظر إليها أحد. يترجّل الملوك وينهضون من عروشهم. آنذاك ينتصب ثعبان وحيد في وسط الصحراء وقد جاء الليل. ويرى العالم إطار النافذة يحلّق وحده في متاهة يديه. تستيقظ الحياة على ضفاف دجلة وقد نسيت أن تصلي. وتقرّر الأرض أن تهاجم قلبها حيث أختبأ مرتديًا كلّ أقنعتي.

يتثاقل الزمن تدريجيًا حتى ينهار، وتستيقظ في داخلي ذكريات مجدّفين عميان يبحرون بلا خارطة إلى المجهول والسماء بأفقها المطعون تتضاءل، يتّسع الجرح باستمرار، ويسخر من الضماد مقدمًا، أقع فريسة الارتعاش والهلع، وأعرف أنّ الشمس ستأتي غدًا مسحورة بالنوافذ، وتعيد إليّ حصّتي من الخيبة.أتطلّع إليها مربوطًا بالسلاسل، والعالم من حولي يرقص كالدمية على نغم خفي، مؤشرًا لي ويقول بلغة الإشارات التي يفهمها الصم:

لماذا تتأخّر دائمًا؟

 ٧

خرجت بعيدًا عن البيت، ماشيًا في موكب، الموسيقى تأتي من مقدّمة بعيدة لا أحد يدري إلى أيّة مسافة تمتد.ينحرف الموكب مع جوقة الطبّالين والعازفين، وأرى البنايات تنتظر بتوتّر، وأسمع الموسيقى الشجيّة تفيض من أبوابها، مع سيل طويل وحيّ من الأنفاس المؤرقة، تتصاعد الموسيقى وتنتقع بدعاء كميل وزيارة أمين الله، يتنفّس الصبح بالصلاة على محمّد وآله، ثم تظهر جدّتي من الجمع وحولها أولادها، تحرّك مسبحتها وتولّي شطرها نحو ضريح الأمير، تمتزج الموسيقى مع أذان الفجر وتدخل مرحلة الإيجاز، ويطوي السلّم الموسيقي نفسه، ثم يخرج الأمير من ضريحه مع سيفه المفلوق ويبارك الجمع، يضع عباءته عليّ ثم يتسلّل بخفّة عائدًا إلى ضريحه.

٨

أمام جدارٍ من الوجوه الغريقة في الدخان، مغمض العينين، بانتظار فرجٍ لهذه المحنة. أصغي إلى نغم لا يسمعه غيري، آتيًا من قرارٍ ليس بوسعي أن أخمّنه، آتيًا من حجرات مهجولة في القلب حيث أعرف كيف أحلّق وحدي، حتّى إذا أخذتني الرعدة، ورمتني بعد التحليق هناك مرارًا. رأيت كيف تعبر غارات الآلام كظلّ سحابة في الظهيرة، من وجهي الشاحب المتوتّر إلى صدري المستعد لطعنة أخرى.تقول أقنعني أنّها رأت كيف أستقبل السكّين في صدري، فالطعنة لي، فأنا الحيّ الوحيد هنا، لي وحدي يفتح هذا الكتاب بعد أن اشتعل. أقلّب صفحات مقاماته من اللهيب، وأسبح أمام أقنعتي في ناري الأنيسة، أمدّ صوتي الجريح جسرًا يربطني بالعالم، في مقاماتي إعلان مخاضات، والبشرى تجري في الساقية، والشظايا تتقلّب بين الأحشاء. حيث تولد من دمائي تلك الأغنيات. خبيرٌ بتفصيل الجراح، لا أعرف من أيّ مدرسة للمواجع أتيت، لا أعرف على من أبكي وأرثي وأدين؟ ربّما لمن مات، ولمن لم يولد ولا يستطيع أن يموت. أنا الهلام المجبول بالخرق المتبقيّة من تضميد الجراح، أنا التنين الذي ينفث نيرانه ويرتجف محنيّ الرّقبة بانتظار نظرة حانية تذبحه من لحظين، أنا المتلعثم بالكلام، أنا هيكل الآلام، أنا الملاك الطائش الذي ضلّ طريقه إلى فردوسه النائي، وشيّدوا حوله الأسوار، أنا الذي يستطيع أن يجعل التاريخ يكفّ عن الدوران حول نفسه، أنا المتّكأ على الخرائب، أنا الذي قيل عنه أنّه بلا صاحب، كلماتي كهجر حبيب غائب، أنا الذي في النوائب، أنا الذي يسمع ولا يطيع، أنا الذي يخاف أن يتركه الجميع، أنا صاحب المقامات، وراوي سير الأحياء والأموات.أنا وارث فن بديع الزمان، أنا صاحب السجع الرنّان.أنا المتّقد من الصبابة والحنين، أنا المتأرجح بين الصلابة واللين، أنا الذي يقسو ويلين، واسمي أمين.

٩

تطارده الدروب وهو وحده، يستجدي معانقة أخيرة من العالم.يخيّل إليه أنّ هذه الأقنعة تحاول قول شيء ما، غير أن الجدار عالٍ، غير أن الصراخ مكتوم، والصوت لا يصل.تحاول الأقنعة تذكيره بكلّ شيء.بالطفل المدلّل للأمهات الثلاث، بالنبيه الذي حاول أن يتعلّم كلّ شيء، بالوحيد المرتعد الذي يتمنّى أن يعرفه الجميع، بالتلميذ المجتهد الصامت الذي لا يعرفه أحد، الفتى الذي نشأ وترعرع في بيت كلّه بنات، بالذي أخفى عن أهله شكوكه وأسئلته ومعرفته حتّى يظلّ صغيرًا بأعينهم، بالطفل الذي قرأ المصحف وحفظ معظم آياته قبل أن يبلغ، ذلك المهووس بكتب الأدعية وزيارات الائمة ونصوص التراث ودواوين الشعر وكتب التاريخ والتفسير والسلالم الموسيقية وهو ابن ثلاثة عشر سنة، بالمراهق الذي غار عندما سمع شاعرين لا يتقنان الشعر يتباريان فعرّف نفسه بأنّه كاتب قصص وهو يعلم أنّه لا يفقه بالكتابة أصلًا. بذلك المهووس بفن الحريري وبديع الزمان والذي كتب مقامته الأولى وهو لا يزال طالبًا في السادس الإعدادي، والمتلعثم الذي رأى بنتًا لا يعرفها تشبه بنت عمّه فقرّر أن يحبّها في خياله ويكتبها ويعرّف بها الناس من غير أن تعرفه هي أصلًا.قارئ الطالع والمهووس بالقصص المصوّرة وأفلام الأبطال الخارقين، صديق الجميع الذي لا يفهمه أحد، شيخ طائفة العشّاق المتألمين وصاحب هذه الأقنعة التي تحاول أن تروي نفسها في هذه المقامة.تقول له الأقنعة التي لبسها ليخفي هذا الألم وقد تداعت وتهرّأت:

اشحذ سيفًا تشرح فيه قسمات الليل، نصله البارد لا يطفئ تنهّد الحمامة وهي تطير. تنفخ السنوات نارك الموقدة في عينيك. رئتاك هيكلان من زجاج يحملان إرث اللهب والرماد. أنت لا تعلم أي عشبٍ ينبت فيك، وأي دغلٍ يعشعش بين الحجر المتراكم في صدرك. صوتك يشبه الحشرجة. يدك القابضة على الدم في عروقك تشتهي التوهّج والنفير. تحوم حول قبس شمس تهبط نحوك. وأنين الطير الذي يشتاق للسرب سيفك الذي تشحذ فيه ليلًا واضح المعالم، نصلًا يزحف نحو الغمد الذي يدعونه قلبك، قلبك الذي يدعونه قنبلة موقوتةً توشك أن تنفجر.

١٠

أصل إلى الساحة بعد أن عبرت نهرًا يهبط فيه المنجّمون بآلات فلكية صدئة، مفتّشين عن النجوم،   أعود ساهيًا نحيلًا كظلّ إبرة، من رحلات مجهولة، ألتقي بالموت وجهًا لوجه، كأنّني تركت نفقًا ورائي قبل لحظة، يتصاعد الدخان من رأسي، وأسير كالأعمى الذي يغزو الهواء بيديه نحو عدوّي الذي يختبأ خلف قناعه الأسود، أسير ويداي مقيدتان بالحريًة، تنغرز فيهما أسنان عدوّي، فيجعلني الألم أتطوّح سكيرًا في أزقّة غريبة، يفشل من فيها بمواساتي.

واثبًا في الهواء بحركات المعذّبين الخرقاء، كأنّ طيور الأرض قد تجمّعت في صدري، تبدأ الطيور انتفاضها الموسميّ من الأعماق، وتختبئ في سراديب سريّة وتشعل نفسها من حين لحين، بكبريت الوقائع اليوميّة.

أسير في طريق مجهولة لا يعرفها أحد، وأرى فيها قلوب أجدادي تخفق، رأيت خيولهم تركض وهم يتأمّلون الحجارة، يخفي الماضي ضياءه عنّي، وراء ستائر لا تحصى، أسير في مدينتي المنسيّة بين تواريخ تسكن هامش التاريخ، أمشي نائمًا في بخار مليئ بأجساد المحتجين والراقصين على إيقاع الطبول، وأتعثّر بالجماجم والجثث، يمدّ الوقت مبضعه كجرّاح مخبول، ويعلّمني أن لا أنخدع بوهم البقاء.ثم أرجع للساحة لمرّةٍ أخيرة، وأعرف بعد عودتي إلى البيت مختبئًا من رصاص السلطة وقنابلها الدخانيّة أنّها خسارة أخرى سيعتاد عليها القلب مع الوقت.

١١

كنت أنحت الصّخر بحروف قديمة، وأعرف أنّ الوقت مفترس، وأنا طريدة كسلى، لكنّني رغم كسح أطرافي وعند الفجر سبقت الشمس بالشروق لأكتشف حزن العالم الذائب. وجاءني بعد الغروب خبرٌ تغيب عن دلالته الشمس، شاحب كوجهي الذي أخفيته، مثل الحياة وخيوط الانتظار مبذولٌ لأسمّن كتب التاريخ بسيرة الوجع، وأقبر أقنعتي كي تتوالد السير. قيامي بعد سقوطي قيامة، وأعرف أنّ اسمي يرادف الضياع وفنّي يرادف الألم والفقدان (اذكروني لو حرّكت الرّياح غصنًا وصاح عصفور بريءٌ

سأكون محتاجًا لأن تذكروني).

رغم بصيرته لم ير القارئ أنني كشفت عن قناعي الأخير ذلك الذي عندما أزيله أستطيع أن أتنفّس مع الصبح الذي لا يشبه سواه ذلك الذي أُزهر فيه مرّة أخرى.

ماء اسمي الذائب في جمرة النسيان، أشربه قبل نومي كلّ ليلة، أمدّ من خيالي الجامح أبوابًا خفيّة بين الأكوان، ومن صوتي ضياعًا يولد منه العالم من جديد.

***

أمين صباح كُبّة

 

 

امرأةٌ غريبةُ الأطوارِ

والأسرارِ والأقدارِ

والهيئةِ والأحلامِ والمزاجْ

لا أعرفُ تاريخاً لها

وما استطعتُ أنْ افكَّ

شفرةَ قلبِها وروحِها الغامضةْ

*

كُلَّما ألتقيها …

ذاتَ مقهىً شرقي

او ذاتَ نزهةٍ

على ضفافِ بحرٍ صاخبٍ

وربَّما في أحدى الحدائقِ الفردوسية

او في احدِ "الباركات" الباذخةِ بالخضرة والعشّاق

وأراها احياناً في  "الكافيهات" الدافئة، وفي الغاباتِ الغامضةْ .

قلتُ: كُلَّما التقيها او اراها

بمحضِ مصادفةٍ،

أتعمَّدُ أنْ أَتحدّثُ

معَها عن اشراقاتِ الأملِ

وهالاتِ النورِ التي حتماً

ستسطعُ في صباحاتِ الوجودِ

وفي آخرةِ الأنفاقِ

وفي متاهاتِ النفاقِ

والشقاقِ والشقاء .

وسيجيءُ الزمنُ وكائناتُهُ النبيلةُ

وسيطردونَ كل َّ هذا الظلامِ والسخامِ والأسى

من قلوبِ البشرِ المصابةِ

بالسوادِ والأمراضِ والضغائنِ والكراهياتِ والسمومِ

والفراغِ الذي ليسَ لهُ

نهايةٌ ولا مدى

*

اقولُ لها: الحياةُ لمْ تزلْ

قابلةً للحياة

والحبُّ يُمكنُ ان يكونَ

خلاصَنا الأخيرْ

ولكنَّها فجأةً تصرخُ في وجهي

وفي " الكافيهِ "

التي أُجالسُها فيهْ

وفي الشارعِ الذي نمشيهْ

وفي المدينةِ التي نقطنُها

حيثُ كلانا وحيد ومُغترب

في آخرِ بحارِ ومحيطاتِ

وأرضِ اللهْ

*

واقولُ لها: العالمُ رُبما الآنَ

او غداً سيتغيّرُ نحو الافضلْ

او نحوَ الأرذلْ

فتقولُ لي: انتَ لستَ

سوى طفلٍ حالمْ

وشاعرٍ واهمْ

فدَعْكَ باحلامِكَ

واوهامِك البسيطة

وأتركني وحيدةً

قبلَ ان انادي عليكَ شياطيني

ووحوشَ جنوني

وجنيّاتي الاسطوريات

كي يرموكَ في غيابةِ البحرِ

أو في متاهةِ الجنون

*

اقولُ لها: أهدأي ارجوكِ

عن ايِّ شياطينْ

ووحوشٍ ومجانينْ

وجنّياتٍ وخرافاتٍ وأساطيرَ

انتِ تحكينَ وتهذينْ

فتصيحُ بي هادرةً:

على طريقةِ ساحراتِ " ماكبث "

ومحظياتِ " جلجامش"

وعواصفِ " الملك لير "

- اخرسْ يااااااانتَ

وأغرب عني

فأنا (عشتارُ) العالمِ السفلي و(إلكترا) الزمنِ الرملي

و(فاطمةُ) القهر العربي

و(خنساءُ) الغدرِ البدوي

و(زينبُ) الظلمِ الدموي

والسبايا والضحايا

وخياناتِ العُتاةِ والطُغاةِ

والجُناةِ والزناةِ

في هذا الكونِ المجنونْ

وانا عرّافةُ العالمِ الآيلِ

للسقوطِ والخرابِ والفناء .

ولا أُريدُ أنْ أُضيّعُ نفسي ووقتي

ولا ارتضي لكَ أَن تُعكِّرَ مزاجي

بأوهامكَ وأحلامِكَ الطفولية

فأذهبْ بعيداً يافتى

قبلَ أن أُفْني وجودَكَ

وأُخْفي خبرَكَ وذِكْرَكَ

في متاهةِ الغيابِ

أَو:

في هاويةِ العدمْ

***

سعد جاسم

كندا في تموز - 2022

في نصوص اليوم