قضايا

ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد

محمود محمد علي: ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد

في موسوعة "الوراقة والوراقين"

منذ عدة أسابيع أطل علينا الأستاذ الدكتور خير الله سعيد بمحاضرة شيقة بعنوان منهج الكتابة والبحث في أمور الكتابة التراثية، وذلك تاريخ 03/26/2023 على منصة الصالون الثقافي بلوس أنجلوس والتي يشرف عليها مجموعة كوكبة من العراقيين الشرفاء والمحبين للعراق، أمثال الأستاذ نزار حنظل، والدكتور كاظم الموسوي، والأستاذ الكرعاوي، والأستاذ رحمن عباس ولفيف من العلماء العراقيين في جميع التخصصات .

وقد قدمت مداخلة عقب المحاضرة، انتقدت فيها منهجية الدكتور خير الله سعيد، فجاءت المداخلة كالتالي:

أستاذنا الحبيب الدكتور خير الله سعيد أشهد أنك نجحت في موسوعتك الرائعة عن الوراقة والوارقين في أن تكشف لنا بشفافية تفوق الخيال في أن الوراقين البغـداديين في العصر العباسي اهـتدوا إلى "منهـج الحاشية" في فـن التوريق والكتـابة وهم بذلك سبقوا كل كُـتّاب العـالم في هذا المنهـج الكتابي، وقـد رسـمتُ هذا المنهج وفق السـياق التالي كما قلتم:

1- الانطلاق من البُعـد التاريخي لأي ظـاهرة أو حالة ثقافية أو تاريخية أو سياسية أو فولكلورية، هـذا أولا، وثانيـا، أن تـأصيل البُعـد التاريخي للظاهرة المدروسة يمنع تفكُـكهـا البُنـيوي ولا يسمح للاختراقات الأيديولوجية أن تَـمُـسّـهـا، لأن التـاريخ عصيٌّ بأحـداثه وشخصيّـاته ووقائعه على أن تلوي الأيديولوجيات المختلفة عُـنقـه.

2-: تلعب القراءة التحليلية للنص دورا مهـمـا في مسألة "تفكيك النص المقروء" كي نقِـفَ على بواطن النص ومحمولاته المُضمّـرة واتجاهاتهِ الفكرية، حيث أن هذه القراءة التحليلية تجعلنـا نـدرك المخـبـوء في عقلية الكـاتب، صاحب النص المقروء، ومن ثم نستطيع الحُـكمَ سَـلبـا أو إيجـابا على النص أولا، وعلى الكاتب ثـانيـا، وثالثـا نستطيع قراءة "الميول الفكرية" لصاحب النص، لاسيمـا إذا اعـتمدنـا "بعض مفـارقات التـأويل" لهذا النص.

3- الوصف التحليلي للنص المقـروء. وهـذه الفقرة مرتبطة بالنقطة السابقة، لكـنهـا مُعاضدة لهـا، حيث أن "مفـردات النص الوصفية" توضح بجلاء حـالة النص قبل قـراءتـه تحـليـليا، وبالتـالي هي تـفرد مساحة أكبر للقــارئ بأن يُعدد وجـوه القـراءة، اعـتمادا على هذا الوصف والذي قـد يغفـل عـنه صاحب النص الأصلي..

4-: فهم اللّـغة المكـتوب فيهـا النص، لاسيما اللغـة العربية، حيث يتوجّـب بقارئ النص المنقـود أن يكون على دراية واسعة باللّـغة التي يقـرأُ فيهـا من كافة الوجوه اللّـغوية والنحوية والأُسلوبية والشعرية، ومعرفة معـانيهـا الواردة في النص وفق دلالاتهـا المُعجـمية أولا، وثانيـا، معرفة أبعـادهـا وظيفيّا.

5- مُـقـارنـة النص مع النصوص الأخرى الموازية لـه في الموضوع، أو وفق النسق الأدبي في الرؤية المعرفية، شعرية كانت أو نثرية، ومعرفة مـدارسهـا النقدية والفكرية بغـية إيجـاد مقـارنة تُـبيحُ لنا كشف بواطن النص ومـكامن الجمـال فيه، ليعطينـا القُـدرة على "إصدار حُـكم نقـدي عليه" من خلال هذه المقارنة.

6- معرفة أسلوب كـتابة النص، وهذه المسـألة تكشفُ عـن قرب مـدى إمكانية الكـاتب في معـالجة موضوعـه.

7- التضـمين والاقـتباس والتـنـاص: تفرض طبيعة الأعمـال التراثية والدراسات التـاريخية والفـولكلورية، التي نقوم بـدراستهـا، والبحثُ فيهـا إلى "تضمين" بعض النصوص المقروءة في داخل النص المكتوب، بغية تـمتين نص المـتن المكتوب وزيادة صحّـتهِ ووثوقه.

8- فـكرة البحث: وتتـأسّس هذه الفكرة، لموضوعٍ محـدّد، من خلال تراكم مجموعـة رؤى وأفـكار تنصهـر بفكرة واحـدة وتَـلـح على الكاتب أو المفكّـر لأن يعالجهـا كـموضوعٍ مركزي، من عِـدّة زوايا واتجـاهـات.

9- المَـتِـن والحـاشية: وهما الأساس في كل الكتابات النثريـة في النقـد والتــاريخ والتراث واللّـغة وبقية الميـادين الفكرية والثقافية الأخرى.

10- المُـقدمـة والنهـاية، في أسلوب الكتابةِ والبحث.

وأشهد أن هذا كلام عظيم من الناحية السوسيولوجية، ولكن كنت أتمني أن تتبني مبدًا أبستمولوجيًا يضاف لهذا المبادئ السوسيولوجية العشرة التي شرحتها، وهذا المبدأ ينص على "أن المقال في المنهج لا ينفصل عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم نفسه ؛ ومعني هذا المبدأ ببساطة أن الحديث عن المنهج في أي علم من العلوم بمعزل عن المسار الذي يسلكه العلم في تطوره هو ضرب من التبسيط المخل "بالتجربة العلمية"، والتزييف المتعمد للروح التي ينبغي أن تقود العلم وتوجهه .

فالمراحل الأساسية التي يمر بها العلم، والتي سبق أن أوضحناها في نهاية الفصل السابق، وهي المرحلة الوصفية، ثم المرحلة التجريبية، ثم المرحلة الاستنباطية، ترتبط ارتباطًا عضويًا بمراحل تطورية تناظرها في المنهج، أو المناهج المستخدمة في العلم نفسه .

ويترتب على هذا المبدأ الأبستمولوجي أننا لا نستطيع أن نحدد – كما يحلو لبعض العلماء وفلاسفة العلم – منهجاً بعينه لعلم بعينه – حتي ولو كان ذلك في مرحلة بعينها من مراحل تطور العلم، اللهم إلا إذا كنا بصدد التأريخ للعلم الذي نتحدث عنه . والسبب في ذلك أن أهم عنصر يتدخل في تشكيل هيكل أو بنية العلم هو المنهج المستخدم في بناء العلم نفسه .

المنهج الذي يعمل علي إضفاء بنية جديدة للعلم هو بالضرورة غير المنهج الذي تعارف جمهرة العلماء على استخدامه . ويترتب علي ذلك أن فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم هو قفل باب الاجتهاد في العلم، ودعوة إلى تعطيل البحث العلمي، وباختصار فإن هذا يعني وضع العلم داخل "سجن" الهيكل أو البنية التي اكتسبها في المرحلة التي تم فيها عزل المنهج عن السياق التاريخي التطوري للعلم.

وإذا ما طبقنا ذلك على الوراقة والوارقين، نجد أن هناك فصل للمقال عن المنهج عن المقال عن العلم في بداية نشأة الوراقة والوارقين، فلم يكشف لنا رجال هذا العلم ومؤرخيه الظروف والدوافع التي أحاطت بنشأة الوراقة والوارقين؟ ولا الشخصيات التي تنسب إليها ريادة البحث المتعلق بالوراقة والوارقين، كما لم تتضح لنا بعد صورة الوراقة والوارقين في مرحلتها الوصفية سواء فيما يتعلق بفهم طبيعة المرحلة التي تنسب إليها نشأة الدراسات الوراقية، أو بفهم طبيعة الوراقة التي تتناول نشأة الوراقة والوارقين بالدرس؛ فالوراقة والوارقين بشهادة الكثير من الباحثين والدارسين كان في بداية منشئه " غامض كل الغموض، فأننا نرى فجأة كتابًا ضخمًا ناضجًا هو كتاب " الوراقة والوارقين" لخير الله سعيد ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء "، فإن هذا يعني العجز عن التفسير.

وهذا المبدأ الابستمولوجي قد طبقته في كثير من كتاباتي، وأفضل تطبيق له، كان في كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق "، حيث كشفت أن الانبثاق المفاجئ للنحو العربي، يعد في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شئ ؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

ومن ناحية أخرى، نود أن نشير بأن المكان الذي ظهرت فيه البدايات الأولى للنحو العربي علي يد أبي الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، هو ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين العرب، ومن سبقهم من النحو اليوناني والنحو السرياني، فلم تظهر البدايات الأولى للنحو العربي فى أرض العرب ذاتها، كالجزيرة العربية، وإنما ظهرت فى بلاد العراق .

أي في أقرب أرض ناطقة بالسريانية، واليونانية، والفارسية، ذوات اللغات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي لأنه من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من العرب إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين، كما أنه من المستحيل تجاهل شهادات المؤرخين العرب القدماء من أمثال "عبد الرحمن بن خلدون ( 784-808 هـ("وأبو الريحان البيروني (363-440هـ) أو المعاصرين من أمثال "جورجي زيدان (1861- 1914م)" و"أحمد أمين " (1886-1954م) ) و"فؤاد حنا ترزي، وحسن عون وغيرهم من الباحثين الأفاضل الذين أكدوا تأثر معظم نحاة العرب بالنحو والمنطق اليوناني والسرياني .

لذلك فأنني اعتقد أنه لم تكن نشأة النحو العربي نشأة عربية خالصة، ولم يبدأ العرب في اكتشاف ميادين اللغة والنحو من فراغ كامل؛ بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد العراق التي عاصرت النحو اليوناني والمنطق اليوناني والنحو السرياني، وبالتالي يتضح لنا أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد للمعرفة العلمية، وتصور واحد يرجع إليها الفضل في نشأة النحو العربي، ربما كان ذلك عادة سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور الذي أسهمت به اللغات السابقة في نشأة اللغة العربية والنحو العربي، لا يعنى أبدًا أننا من الذين ينكرون على العرب أصالتهم اللغوية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة ومتميزة في اللغة والنحو، ولكننا لا نوافق على ادعاء أن تلك الأصالة، وهذا التمايز قد أتيا من فراغ كامل ؛ فلقد كانت عظمة العرب أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغف كل ما وقعت علية أعينهم وعقولهم من التراث اللغوي السابق عليهم، وأن يهضموه هضماً يتلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات إلى شئ شبيه بتراثهم،،وأن ينتقدوا هذا وذاك شيئًا فشيئًا، حتى استطاعوا في النهاية أن يتجاوزوا المرحلة السابقة في اللغة، وأن يبدأوا مرحلة جديدة متميزة .

وعلى ذلك فنحن ننكر ما يسمى بـ " المعجزة اللغوية العربية "، فالنحاة العرب في أول عهدهم قد استلهموا التراث اللغوي اليوناني والسرياني السابق عليهم، واستحوذوا عليه بروحهم الفتية، وحاولوا تجاوزه حينما صبغوه بصبغته النظرية النقدية، وقد فعل ذلك نحاة العرب والمسلمين؛ أمثال "أبو الأسود الدؤلي " و" الخليل بن أحمد " ومن بعدهما أنصار مدرستي البصرة والكوفة، من أمثال "الفراء "، و"المبرد"، وكذلك نحاة القرن الرابع الهجري وما بعده، حينما نقلوا التراث اللغوي اليوناني – السرياني وحاولوا تطويعه، مع مبادئ دينهم الحنيف في شتى الميادين، ثم تجاوزوه بما قدموا من أفكار نحوية جديدة في مختلف قضايا اللغة العربية.

خلاصة القول إن لغتنا العربية ليس بدعًا بين نحو اللغات الأخرى، فلم يكن أصحابها معزولين عن الاختلاط بالأقوام المجاورة لهم، ولا كانت هي بريئة من التأثير في اللغات أو نقية من الـتأثر به . لقد أخذت من اليونان بقدر ما أعطت اللاتين فيما بعد، وأخذت من الأنباط والسريان ثم أعطتهم حتي اضمحلت لغتهم أمامها تدريجيًا، وأخذت من الفرس قبل زمن الأكاسرة، وقبل أن تكون (الحيرة) – مملكة المناذرة – حلقة الاتصال بين العرب والعجم . ووصلها اليمن القديم السعيد بلغات الأحباش، والهنود، والصينيين، بفضل الموقع الجغرافي التجاري الذي كان صلة الوصل بين العرب والأمم القديمة، وبين الشرق والغرب في ميادين السياسة، والحرب، والاقتصاد، والاحتكاك الاجتماعي . ولقد أثبت البحث العلمي الحديث أن العربية أعطت هذه الأمم – وخاصة بعد الإسلام – أكثر مما أخذت منهم بكثير، بل إن بعضها قد اتخذ من الحروف العربية رموزًا للكتابة في لغته، وما زال يستخدمها إلى اليوم، فضلًا عما أخذ من العربية .

وما من لغة ذات شأن ومكانة في تاريخ الحضارة الإنسانية، إلا كانت عرضًة لمثل هذا التبادل اللغوي، فالإنجليزية على قدمها وعراقتها وشيوعها قد استوردت الآلاف المؤلفة من الكلمات كما يقول واحد من علمائها، واقتبست الحديثة منها ما بين " 55%" و "75 %" من مجموع مفرداتها من اللغتين الفرنسية واللاتينية وغيرهما من اللغات الرومانية، كما اقتبست الكورية ما يقرب من " 75%" من مفرداتها من اللغة الصينية، حتي ليمكن القول إن عملية التبادل اللغوي أصبحت من الحقائق المألوفة الآخذة في الاتساع والازدياد بفعل انتقال الأفكار والنظم والعلوم، يواكبها الميل المتنامي إلى البحث العلمي الرصين في هذه الظاهرة التي أصبحت حقيقة لا يمكن إغفالها أو تفاديها، إذ من يمنع المصطلحات العلمية المتصلة بعالم الفضاء وعلومه الحديثة اليوم من الانتشار والذيوع بالألفاظ ذاتها من اللغة الأولى إلى لغات العالم كلها؟!

إن اختلاط الأمم والتبادل اللغوي الآن يفوق ما كان عليه في الماضي، ومشاكل الترجمة أو اقتباس الأجنبي مشاكل عصرية سائدة في معظم المجتمعات، والحلول الكثيرة المقترحة لمعالجتها لا تلقي ارتجالًا، ولا تبني من فراغ، بل لا معدي لها عن النظر إلى الأعراض الأولي والظروف المختلفة التي رافقت أصول هذه الظاهرة في ماضي اللغات والشعوب .

وبعد هذه الإطلالة، يمكننا القول بأن المنطق اليوناني قد أثر بلا شك في النحو العربي، وأما بالنسبة لتحديد الفترة الزمنية لدخول المنطق اليوناني في النحو العربي فيمكننا القول بأنها تجسدت من خلال المراحل الارتقائية لنشأة وتطور النحو العربي والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتي اكتملت:

1- المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن أو بالأحرى أكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هذه المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا، مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد .

كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته "ديونيسيوس ثراكس "، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر " أبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه )، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان ؛ خاصة بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس بين سنتي ( 14" هـ" و" 21هـ، 635م- 641م" فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه لافتة بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

2- المرحلة التجريبية: وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن أنهى كتابة مؤلَّفه "الكتاب " الذي يعد مرحلة متطورة، وناضجة، من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي علي المنهج التمثيلي. والسبب طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي للغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة .

ومن هذا المنطلق سنكشف لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية ؛ خاصة بعد أن رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملًة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق ارسطو .

3- المرحلة الاستنباطية: وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية، والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلي تغير كيفي علي ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر . أما المستوى الثالث فهو مستوي نظرية العلم، التي تحدد البينة أو الشكل الذي سيجئ عليه العلم في هذه المرحلة . وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلي مبدأ جديدًا، كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً – بحسب مبدأ عام مستقر – كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون .

وهذه المرحلة حين نطبقها علي النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم، والخصوص الوجهي، والموضوع، والمحمول، واللازم، والملزوم، إلى أخر هذه المباحث المنطقية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

في المثقف اليوم