قضايا

فؤاد لوطة: العنف بين التلاميذ والأساتذة

يعتبر التعليم مهنة من أشرف المهن التي يقوم بها الإنسان كما يعتبر رسالة مقدسة بقدسية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو القائل :”العلماء ورثة الأنبياء”، وما أشدّ ما يتعرّض له صاحب رسالة التعليم اليوم “المدرّس” من السخرية والاستحقار والتنكيل على يد القاصي والداني في كل ربوع الوطن العربي وهي وضعية مشكلة – بلغة فقهاء التربية – متداخلة العناصر والأركان منها ما صنعه ونسجه المدرّس لنفسه إما لأخطاء ارتكبها، أو تقصير اعتراه، أو جهل مارسه، أو انحراف طاله ….، ومنها ما هو مفترى عليه لا يعدو أن يكون من باب تصيّد الأخطاء ووضع الفخاخ وجهل بمكانة العلم والعلماء…، والمدرّس في الحالتين معا في قفص الاتهام لذا وجب عليه أن ينتبه إلى رسالته النبيلة وينقيها من شوائب نزواته وعثراته والارتقاء بها من الدركات السافلة إلى درجات عليا لا يرضى إلا بها.

قبل الغوص في الموضوع لابدّ أن أشير إلى أنّ عالمنا تغيّر بسرعة، فالتعليم التقليدي متجاوز في معظم مناهجه ومحتوياته. لهذا يجب على الأطر التربوية والإدارية أن تكون متمكّنة من مهامّها، والسياسة التعليمية يجب أن تعيد النظر في استراتيجياتها، فمصادر المعرفة أصبحت متعدّدة خلخلت كل ما هو تقليدي بما في ذلك المفهوم والممارسة للعلاقة البينية (مدرّس/متعلّم). الكل يجب أن يراجع معطياته، ويحين ويتعلّم الجديد أكثر بروح مرحة لتجاوز ضغوطات تدفّق المعطيات وكثرة المطالب التي يجب أن تضبط بالعقل.

نلاحظ أنّ ظاهرة العنف بين التلاميذ والأساتذة أصبحت منتشرة وبقوّة في المدارس، وهذا راجع لمجموعة أسباب منها:

1- سوء تربية الوالدين:

أكيد أنّ التربية لا تكتمل إلا بمؤسسة مدرسية، لكن أصل التربية هو الوالدين، فالأسرة هي القدوة الأولى للطفل، إن الطفل ومنذ ولادته يعتبر والديه القدوة الأولى له، والقدوة الصالحة من أهم الوسائل الفعالة في التربية الخلقية والدينية، ولها التأثير الكبير على الطفل، سواء في محيط عائلته أو في المدرسة وغير ذلك، والطفل يبحث دائمًا عن قدوة؛ ليتمثل بأخلاقه وصفاته. خصوصاً في مرحله الأولى يبحث عمّن يقلد أعماله وتصرفاته، فلا بد في هذه المرحلة من الحرص على الأخلاق، والتربية الدينية السوية في الطفل، وذلك بتقديم القدوات الصالحة للطفل.

2- المحيط الاجتماعي:

التحصيل الجيد لما يتلقونه المتعلمين من معارف واقفٌ على شروط عدّة تتعلق بالمحيط أيضا، سواء المحيط الذي يعيش فيه أو المحيط المدرسي، فعندما يتعرّض الطفل للعنف ويمارس عليه في الشارع، أكيد عندما يكبر سيقوم بنفس الشيء، لهذا فاستقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهمّ الأسباب الوثيقة في تماسك شخصية الطفل وازدهار حياته.

3- الدولة:

ينبغي الإشارة إلى أنّ الدولة مسؤولة بجميع مؤسساتها العامة والخاصة وجميع ممثليها، لذلك مهمة الدولة يجب أن تنطبق على جميع مراحل التعليم والتربية، فالدولة قادرة على إصلاح التعليم والرقي به ولها الإمكانيات والقدرات والشرعية لتحديد المشروع المجتمعي الذي تنبني عليه استراتيجية العمل في كل المجالات وخاصة في مجال التربية. فساد المنظومة التربوية والتنشئة الاجتماعية لأبنائنا عامل محدّد في تفشي ظاهرة العنف المضاد داخل المؤسسات التعليمية، وهذا لا يختلف في شيء عن العنف اللفظي والجسدي الذي أصبحنا نشاهده داخل مؤسسات الدولة كالبرلمان والأحزاب السياسية، فالتعليم مرآة تعكس واقع المجتمع من جهة، والمجتمع نتاج لما أفرزه تراكم التجارب الفاشلة في حقل التربية والتعليم. أؤكدّ على أنّ فساد أجهزة الدولة من الأسباب الرئيسية فيما وصلنا إليه الآن.

4- تعاطي المخذّرات:

تعاطي التلميذ للمخدرات زاد من إمكانية تعرّض أستاذه للعنف، يعتقد الكثير من الشباب أن تعاطي المخدرات يساهم في نسيان مشاكلهم وظروفهم أو في تنشيط الذاكرة ومساعدتهم على التحصيل الدراسي، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ، لأن الاستمرار في تعاطي المخدرات يؤثر على التحصيل الدراسي ويسبب عدم القدرة على التركيز والإدراك، فيتولّد الشعور بالامبالاة  وعدم الاهتمام بالدراسة، مما يؤدي إلى تراجع المستوى الدراسي وخلق صراعات بين التلميذ والأستاذ.

5- وسائل الاتصال والتواصل:

بما أنّ التكنولوجيا الحديثة تعدّ من أهم العوامل المؤثرة على حياة الإنسان في عصرنا الحالي ، فقد أثّرت على  التحصيل الدراسي للتلاميذ كما أثّرت على سلوكاتهم وأخلاقهم وتربيتهم، ، لقد شغلت أكبر مساحة من الوقت في حياة التلميذ ، وزاحمت محيطه الأسري والمدرسي، ولازمت تفاصيل حياته الخاصة والعامة، ونحن نعلم بمحتوى ما يبث في قنواتنا التلفزيونية، ونعلم بمحتوى الفيديوهات المتصدر لعدد المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي، أليس هذا سببا من أسباب تغيّر شخصية التلميذ من شخصية سلمية إلى شخصية عنيفة؟ !

6- المدرّس (الأستاذ):

من الأخطاء القاتلة التي قد يرتكبها المدرس اليوم (المدرس هنا ليس في عموميته) التكبر والتعالي على تلاميذه إذ يصنع لنفسه هالة تحيط به لا يفارقها ولا يغادرها ولو فكر قليلا لوجدها هي سبب جل مشاكله مع تلاميذه إن لم يكن كلها، فالنفس الإنسانية عامة ترفض المتكبر فبالأحرى المتكبر العالم، والمتعلم في هذا الوضع ينفر نفورا شديدا من هذا النوع من المدرسين ولا يتحمس للأخذ عنهم والاستماع إليهم والاستمتاع بما لديهم .

ومن أمثلة هذا التكبر نذكر طرق التعامل مع جماعة الفصل حيث يمارس المدرس أولى درجات وعلامات التكبر دون وعي منه أحيانا وذلك بعدم الاستئذان وقول السلام أثناء الدخول إلى الفصل ، والأمر على بساطته إلا أنه يكون مدعاة للانتباه والتساؤل من مجموعة من المتعلمين ،وقوله السلام من عدمها لا يمكن أن تحدد قيمة المدرس في عين التلميذ أبدا ولا تشكل أي نقص. يليها تكبر المعرفة المقترن بطرح المتعلمين لبعض الأسئلة التي أشكلت عليهم على المدرس الذي قد تعوزه الإجابة فيحول المتعلم إلى متهم لا سائل عن المعرفة، لتخرج إجابات على لسان المدرّس دون تخطيط مسبق أو وعي بها (أنت فقط الزم الصمت، ابحث أنت ،الالتفاف والهروب إلى موضوع أخر.. وزد عليها من أشكال التكبر).

والمدرّس الناجح هو الذي يسلك طريق الحلم والصبر في معاملته لمتعلميه، فيعترف بنقصهم ويفهم أنهم على أمزجة مختلفة ،ومستوياتهم في الفهم والإدراك متفاوتة وهم على كيانات مستقلة واستعداداتهم تتراوح بين الهمة تارة والخمول أخرى، وما ينتابه هو كانسان بين الفينة والأخرى يصيب هؤلاء التلاميذ، فلا داعي للوقوف عند كل كبيرة وصغيرة، والعيش في تفاصيل الأحداث الهامشية والجانبية .

المدرّس الذي يقدّر علاقته بتلاميذه ويبني معهم علاقة محبّة ويحسن التواصل مع جميع أصناف التلاميذ ويتجنّب العنف ويقدّر ظروفهم، لن يتعرّض للعنف أبدا سواء الجسدي أو اللفظي، ولن يرى منهم حتى ذاك الشغب والضجيج داخل الفصل.

إذن يبقى سرّ نجاح قيادة الفصل هو اعتماد المدرس على التواصل وطرائقه المختلفة والتقدير والاحترام وتجاوز قصور المتعلمين الأخلاقي وإدارة الفصل إدارة حكيمة فيها من التوازن النفسي ما يخدم المدرس والمتعلم معا. فمهارة التواصل من المهارات التي تحقق فيها إجماع كل الفاعلين في الحقل التربوي.  فمن الصفات التي تجعل الأستاذ عظيما في فصله هي التواصل ومهاراته، والاستماع الجيد للمتعلمين، وعمق المعرفة لدى المدرس والقدرة على تطوير العلاقات مع المتعلمين والقرب منهم والإعداد والتنظيم وحسن المظهر…وغيرها.

ونخلص أخيرا إلى أن مهنة التدريس مهنة راقية برقي أصحابها وسامية بسمو أخلاقهم. بها تبنى المجتمعات وعلى أساسها نعد الأفراد لتحمل المسؤوليات، ولا يمكن حصرها في صفتين أو ثلاثة صفات وانتهى الأمر، بل العكس فهي جامعة لكل صفة جميلة خيرة ودافعة لكل صفة ذميمة شريرة. تكتمل مهنة المدرس والتدريس باكتمال المحاسن والأخلاق، فالتدريس لا يستقيم دون إخلاص وتقوى لله عز وجل وتجنب النفاق والرياء، واعتماد الوضوح والتعاون وحب الخير لكل متعلم ساع إلى طلب العلم وتحقيق العدل بين المتعلمين وإنصافهم بغض النظر عن سلوكياتهم وتصرفاتهم.

***

بقلم: ذ. فؤاد لوطة

في المثقف اليوم