قضايا

ثامر عباس: النظام التعليمي كبنية تحتية للوعي الاجتماعي

لقد تضاربت آراء الكتاب والباحثين حول أسباب ديمومة تخلف منظومة الوعي الاجتماعي في المجتمع العراقي، كما لو أن هناك لعنة ميتافيزيقية أو تعويذة سحرية تطارده كظله عبر الأيام والسنين، دون أن يكون – على ما يبدو – أن هناك أمل بالخلاص من آثارها والنجاة من عواقبها، وهو الأمر أشاع بين الأفراد والجماعات حالة من البلادة الذهنية والنكوصية النفسية واللا - أوبالية الأخلاقية.

والغريب في الأمر إنه كلما ازدادت وطأة المعاناة التي يكابدها العراقيون ويرزحون تحتها، كلما كانوا أقرب إلى الاستكانة وأميل إلى الخنوع وأسرع إلى الطاعة، بحيث مكنوا كل من ساسهم وامتلك زمام أمورهم وتمكن من أعنة قيادهم، من إلباسهم رداء الفقر والجوع وسامهم صنوف الحرمان والهوان، فضلا"عن جعلهم (أكباش محارق) مجانية جاهزين للذبح فداء"لطيش سلوكه المتهور ونزوة قرارته المهلكة. 

والحقيقة أنه لو أمعنا النظر بأسباب هذه الحالة الارتدادية ومحصّنا جيدا"بمصادر صيرورتها، سنفاجئ ان الأمر لا يتعلق بأي غموض ولا يرتبط بأية غرابة في هذه القضية المحيّرة، بقدر ما هي حصيلة تراكم انحرافات وإخفاقات وتشوهات (النظم التعليمية) التي أخضع لها عقل الإنسان العراقي وتماها مع قيمها، عبر سلسلة متواصلة من مراحل (التدجين) البدياغوجي و(التنميط) الإيديولوجي الممنهج ؛ ابتداء بالمرحلة الابتدائية الأولية وصولا"الى المرحلة الجامعية النهائية، مرورا"بالمراحل الانتقالية المتوسطة والثانوية. بحيث ان هذا الإنسان المستباح لايكاد يخرج من هذه الدوامة إلاّ وقد اكتملت عمليات (تعليب) وعيه و(نمذجة) سلوكه و(تأطير) مخياله.

وإذا ما كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) قد أشاح الستار عن الدور الخطير الذي تلعبه أنظمة التربية والتعليم في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، من حيث تكريس التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والفكري بين طبقات المجتمع، ومن ثم خلق حالة من الشرعية الزائفة بين الحاكم والمحكوم تتمخض عنها وتترتب عليها، ليس فقط حالة من القبول والرضا السيكولوجي بين الفئات والشرائح الفقيرة إزاء (الهيمنة السياسية) المبطنة التي تمارس ضدها من لدن رموز السلطة فحسب، بل وكذلك حملها على الرضوخ والامتثال لشتى ضروب (العنف الرمزي) الذي تبرع في توظيفه واستثماره وسائل الميديا العملاقة. 

نقول إذا كان هكذا هو الحال في المجتمعات الغربية التي بلغ فيها وعي الإنسان بمواطنيته الحضارية شأوا متقدما"من النضج والاكتمال، كيف ينبغي لنا أن ننظر الى دور ووظيفة أنظمة التربية والتعليم في المجتمعات العربية بصورة عامة والمجتمع العراقي بشكل خاص، لاسيما وأن مناهجها وأساليبها مصممة لانتهاج سبل ملتوية تسعى من خلالها خلق أجيال من الكائنات (المحنطة) ذهنيا"و(المنمطة) سلوكيا"؟!. وعلى ضوء هذه الحقيقة البينة، لن يتأتى لكل من يعتلي صهوة السلطة في العراق ويروم إصلاح أوضاع شعبه ويضمن مستقبل أجياله، دون مراعاة تسلسل الأولويات التي من ِشأنها النهوض بواقع هذا المجتمع الذي لم تفتأ مكوناته المتشظية تندفع  صوب الحضيض الحضاري والإنساني على نحو متسارع.

ولعلنا لا نخطئ الحقيقة ولا نجانب الصواب إذا ما أجزمنا بواقعة أن سلامة (النظام التعليمي) لأي دولة، من حيث المحتوى العلمي والمعرفي الذي يشتمل عليه، ومن حيث طبيعة المناهج التحليلية والأساليب الإدارية التي يعتمدها، هي من يقرر – في المحصلة النهائية - مصير المجتمع ويحدد مسار تطوره الحضاري ايجابيا"أم سلبيا". ذلك لأن هذا النظام - المهمل عادة في البلدان الضعيفة والمتخلفة - أضحى يشكل في الوقت الحاضر (البنية التحتية) التي يقام عليها مدماك (الوعي الاجتماعي) برمته. وبعبارة موجزة، حيثما يكون عليه النظام التعليمي والتربوي في المجتمع المعني، سيكون عليه (وعي) مكوناته وجماعاته التي يتشكل منها نسيجه السوسيولوجي ومعماره الثقافي.  

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم