قضايا

محمد بنيعيش: الوعي الأسري والمراعاة الروحية والسلوكية للطفل

أولا: تبادل الأدوار الروحية بين الطفل والوالدين

إذا كان الأب محافظا على نسب ابنه الروحي فإن هذه العلاقة الروحية بين الأب والابن ستبقى مستمرة حتى بعد الوفاة، إذ الفائدة متبادلة بين الطرفين في تدعيم التواصل ونتائج النسب وتبعاته...

ويتجلى هذا الحكم من خلال نصوص قرآنية وحديثية مؤسسة لهذا المبدأ، أذكر من بينها قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ومسألة بناء الجدار والحكمة من ورائه كما في قوله تعالى: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزلهما فأراد ربك أن يستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا"1.

على عكس إفادة الأبوين الصالحين لولديهما فإن الولد الصالح هو بدوره قد يكون مضرا أو مفيدا لوالديه، كما نجد في نفس السورة صورة منه حيث يقول الله تعالى عن الغلام الذي قتله الخضر في حضرة موسى عليه السلام "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما "2. والأقرب رحما هو الذي يفيد والديه في الحياة وبعد الممات كما يدل عليه الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"3.

إذن، فالعلاقة بين الوالدية والمولودية مترابطة ومتواصلة إلى يوم القيامة، والمحدد لهذه الرابطة على الدوام هو النسب الذي كما سبق وبينا يتأسس على القاعدة الشرعية المحددة للزواج الصحيح وما في حكمه مما هو قابل شرعا لإعطاء النسب الشرعي للطفل.

ثانيا: الحقوق الروحية للطفل وضمان استرسالها

وإذا ما حوفظ على حقوق الطفل الروحية قبل ولادته فإنه سيحافظ عليه في الإسلام باستمرارية ذلك الرصيد عندها وبعدها، وذلك من باب ترسيخ الاسترسال الروحي التوحيدي في تكوين الطفل، كما تدل عليه الأحاديث المبينة لوعي الصحابة رضوان الله عليهم بهذا البعد الروحي في الحفاظ على هوية الطفل وارتباطه بأصوله الدينية ولاجتماعية الأسرية، أذكر بعض النماذج منها: ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت قباء فولدت بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغتها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بتمرة ثم دعا له فبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا له فرحا شديدا لأنهم قيل لهم إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم"وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليه وكان أكبر ولد أبي موسى"4.

فهذه الأحاديث وغيرها تبين لنا إجراءات جد مهمة في الحفاظ على صفاء نسب الطفل ونسبته الروحية وذلك للقيام بأعمال المباركة والدعاء والآذان والإقامة في أذنيه، وبالتالي اختيار الاسم المناسب له عند العقيقة على قاعدة روحية ومتناسبة مع طينته وفطرته، والتفاؤل به حتى تكون له آثار جيدة على سلوكه ومستقبله وارتباطه بأصالته.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يطبق هذا الحكم على الكبير وليس على الصغير فقط من باب اختيار الأسماء التي تمثل دعامة معنوية والتشبث بجذوره واستمراره وحسن تذكره كما يروي البخاري "باب اسم الحزن"عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما إسمك ؟قال: حزن. قال: فأنت سهل قال: لا أغير إسما سمانيه أبي. قال ابن المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعد"5. ويروي الإمام مالك بن أنس في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة عنده: من يحلب هذه؟فقام رجل فقال له: ما إسمك ؟فقال له: مرة. فقال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة؟ فقام رجل فقال له: ما اسمك؟قال: حرب، قال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة؟ فقام آخر فقال: ما اسمك ؟قال: يعيش، قال: احلب".

فاختيار الاسم عند المسلمين لم يكن عفويا أو اعتباطيا، وإنما هو مِؤسس على ضوابط روحية ومعنوية ذات بعد ديني عقدي، يؤسس للنسب في صورته الشرعية ويكفل الاستمرارية لتواصل الخلف مع السلف وتواصل الظاهر مع الباطن والعقيدة مع السلوك والجسد مع الروح والماضي مع الحاضر والتطلع للمستقبل، كما أن الاسم وحده لا يكفي لأن يطبع الشخص بمعناه، وإنما هناك التفاؤل بالمسمى ؛وهو الرجل الصالح الذي ينظر بنور الله تعالى المعبر عنه شرعا بالفراسة، فينطق بالاسم المناسب لواقع الطفل ومكانته الروحية والاجتماعية...

هذه كانت سنة الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم ورثها المسلمون في اختيار أسماء أبنائهم على يد صلحاء الأمة من أولياء وعلماء قد يكونون من الأقرباء وغيرهم، إذ المهم في مراعاة هذا الأمر يكون هو مستوى الصلح والتفاؤل به حتى يتحقق المراد.

من هنا يطرح على مستوى عصرنا ضرورة مراجعة هذا السجل من الأسماء الذي أصبح يتناسل في مجتمعنا مع تطور أجهزة التواصل السمعي والمرئي بغير ضوابط لغوية أو تاريخية وبالدرجة الأولى روحية، حتى إننا بدأنا نسمع تسميات فاحشة وخسيسة لغة ومعنى قد يخجل الإنسان من سماعها أمام الملأ وتؤثر على الطفل في معنوياته أو أنها قد تسلبه هويته لأنها مستوردة من الغرب أو الشرق على حد سواء وهي تحمل معاني غير سليمة عقديا وأخلاقيا! أو أنها غير ذات معنى أصلا وليست لها أية نسبة أو اشتقاق لغوي يبشر بالخير أو تحقيق العصبية الإيجابية والتكاتف الاجتماعي الذي يوحي به الاسم من وجه ما.

***

الدكتور محمد بنيعيش - الفكر والحضارة

المملكة المغربية

.....................

1- سورة الكهف آية 81

2- سورة الكهف آية 79-80

3- رواه سلم

4- رواه البخاري في كتاب العقيقة

5- رواه البخاري في كتاب الأدب

 

في المثقف اليوم