قراءات نقدية

محمد حسين الداغستاني: الشجن المسموع والرمز الخفي في (إمرأة من ذهب)

لم توفر لي الصدف فرصة اللقاء المباشر بالشاعرة والقاصة نرمين طاهر بابا رغم فيض كتاباتها واسهاماتها ودورها في إثراء المشهد الادبي والثقافي التي تضج باسماء لامعة للنخبة النسوية المبدعة في كركوك  كآيدان النقيب ورمزية مياس وامنة محمود وغيرهن كثير، ومع ذلك ازعم اني بتُ اعرفها جيدا بعد قراءة متأنية لنتاجاتها الادبية التي وردتني مؤخرا (قصص وقصائد) و(أدباء من مدينتي) و(إمرأة من لهب) .. دواخلها.. هواجسها.. الشجن الشفيف الذي يغزو روحها.. كبرياؤها الذي يطغي على مفرداتها والذي لا ينحني امام العواصف وعاديات الزمن، فوجدت من العسير تخطي تجربتها الشعرية التي استقطبت قبلي اهتمام ادباء وكتاب معروفين في الوسط الابداعي كالراحل وحيدالدين بهاءالدين والدكتور صباح عبدالله كركوكلي وعبدالجبار درويش رضا ونزار السلامي وغيرهم خاصة اني وجدت في نصوص مجموعتها الشعرية (إمرأة من لهب) دفقا موحيا وعاطفة شجية قد تكون انعكاسا لجزء كبيرمن سيرتها الحياتية الذاتية المفعمة بالمشاعرالمتضاربة والاعتداد بالنفس :

خلقت من وريقات الاقحوان المرنخة بالعسل،

أحترق كي أشبع نهم النار.

في عروقي أوعية للذكر..

تهديني الى النجدين..

كلاهما يقوداني الى الهلاك !

أنحني خجلا لزخات المطر،

وهزيم الرعد والحليم اذا غضب

لكني لا اقضم خبز الذل

في أفول الشمس، وغياب القمر.

وتستعين نرمين بتقنية الرمز في تعضيد بنية نصوصها الشعرية لذا فهي توظف بمهارة احداث ووقائع من الارث الفكري الديني في العديد من تلك النصوص لتستلهم منه قيما سامية ربطتها بسلاسة مع قضيتها التي تتبوأ اهتماماتها الشعرية الا وهي الوطن وكركوك، ولأنها تدرك الظلمة التي تغلف يومها فإنها تنادي بالصبر والتضامن من اجل غدها الأفضل، لذا فإنها وبحرفية مشهودة استلهمت واقعة (رحمة بنت ميشا) زوجة النبي أيوب الصابرة والَمخلصة التي وقفت الى جواره في محنته حين نزل به البلاء، واشتد عليه المرض الذي امتد لسنين عدة، ولم تظهر مللا أو ضجرا، بل كانت متماسكة طائعة وبادرت في اسمى صور الوفاء الى بيع ضفائر شعرها لتأمين قوت يومهما والايمان بما يمكن ان يؤدي الصبر الي الانفراج والرخاء :

يا أيوب حَسْبْكَ صبراً

فامرأتك وهبت ضفائرها

على رنين الحاجة في سوق عُكاظ

الدواءُ ليسَ في سُمّ الأفعى

ولا في مناقير السنونو

ولا في عظام الهُدهد الذي مات

قبلَ الطُوفان بستةٍ أعوام

الدواءُ أن ننهض الآن

ونُشبكَ أيدينا

على مدارج (القلعة)

والماء يفيضُ من حجارات (خاصة صو). 

وبذات السياق الرمزي تتناول نرمين قصة قتل قابيل لأخيه هابيل الذي سُرعانَ ما شعرَ بالنّدم على فِعلته، وعليها تبني الشاعرة بنية النص من خلال خلق علاقة تفاعلية بين الحدث المدوي المتمثل بأول جريمة في تاريخ البشرية وبين استحضار رمزية الذئب والتغافل عن الدلالات التقليدية له المبنية على القيم التي تمثلها هذا الكائن الذي رسمت الذاكرة الموروثة صورته النمطية في الحياة وهي دلالات تقترن دائماً بالغدر والخيانة، والافتراس، والاقتناص الشرير والخبث إلا أنها كالكثيرمن الشعراء المعاصرين قلبت تلك الدلالة فأصبح الرمز مبعث إثارة لكوامن الضمير وربما مجابهة المصير المحتوم:

ينتفضُ كطيرٍ ذبيح...

بين أقدام الغلمان وحور العين ...

والشمس على صهوة الغروب

وقابيل يمسك بغصن التوت

يكادُ يشفُ منه دم العروق

من صحوة الضمير ...

يتشبث بالوصل الى قمةٍ الشجرة

والذئبُ يلبس الثيابٌ البيضَ

يحوط نفْسَهُ بالتعاويذ

تمنع عنه الحسدً والعينَ

ينتظره عند جذع الشجرة.!

لا شك أن الحزن الآسر الذي غلف نصوص نرمين مردها وقائع حياتية موجعة ، عصفت بها ، وخلقت فيها جوا حادا من التوتر والوجل الناتجين عن الإحساس بعدم التوازن النفسي بين الذات والعالم الخارجي , ورغم ان الدافع الذاتي كان له أبلغ الأثر في جلً المجموعة ألا أنها تخطت مأساتها الشخصية الى آفاق واسعة . فتحول الأنين الى نداء صاخب لأنتشال الوطن من محنته وبث روح الرفض والإصرار والتجلد في الإنسان الجديد الذي عليه تولي مسؤولية الركون بقارب النجاة الى شاطئ الأمان:

تشربث عينايٌ بالدموع وقلت:

ملعونة هذه الايام من عمر الزمن

فمزقتَ هُويتي وأعطيث الطابع للسجان

واحتفظت ببطاقة التموين والسكن

فصرخت يا حمدانُ يا حمدانُ يا حمدان

إن جفتٌ البحور وغابث الشطآن

فخذ مني لقاربك الوريد والشريان. !!

من دفتر الحب

وكما في حضرة الوطن والمدينة المعشوقة تنهل نرمين من دفتر الحب صورا شعرية مبهرة وأخاذة ، بها تعصر المفردة بل وتقشر الكلمة لتسفر عن مكنونها السحري الفريد فترسم بجمال فائق لحظة لمس الحبيب لخصلة من جديلتها ليثور في داخلها بركان عصي عن الاخماد:

يختنق الكلام في حنجرته

عند السؤال عني ..

أعلم أنك تعيد الى أوردتي مرونتها.

اذا ما لمستْ أطراف أصابعك،

خصلة من جدائلي،

يثور دخان الحريق،

من جمرة كامنة في أعماقي،

وينبثق وهج الروح في اوصالي

ويستطيب ايلامي .

وتستعين الشاعرة بالومضة الشعرية في تحشيد مدلولات والرمز والاستعارة اللغوية فتوظف بمهارة واضحة الإيحاء لبلورة وإضاءة الفكرة من داخل النص عبر البنية الداخلية، فتثير المتلقي من زاوية التأزم بقصد الإدهاش، والمفارقة:

الموت والحب سيّان ..

اما ان تذوبي بين حبات التراب

واما ان تفنى

في اخاديد الشغاف !

***

مسكين هذا القمر

يَهَبُ كل يوم قطعةٌ من جسده

حتى يكتمل الشهر ‎!

قد أكون اوفيت المجموعة حقها في استجلاء الهواجس والمعطيات النفسية والمعنوية والدواقع التي رسمت الخط البياني لما ابدعه يراع نرمين طاهر بابا من نصوص رصينة وموحية . لكن يبقى الفيصل كامنا حتما في تفسيرها هي لذاتها وشخصيتها ونظرتها للحياة والحب ..

أنا امرأة من لهب،

عندما يجتاحني قرص الشتاء

لا أرتعدُ برداً أو جزعاً ..

كإرتعاد شراع في عرض البحر،

تصارعة أمواج المنايا متلاطمات..

في ليالٍ حالكات

وعين السفان تُرْقبُه

تخجل تارة.، تشفق تارة ، تحنو

ثم تصمت صمت قبورٍ هائمات.

يقول الكاتب الامريكي جون شتاينبيك (أعتقد أن المرأة المُحِبة لا يمكن هزيمتها) وارى أن شاعرتنا المبدعة نرمين طاهر بابا إستطاعت عبر نصوصها المتخمة بارادة الحب في مخاصمة واقع اليأس والحزن وإعادة أبتكاره وفق رؤية نافذة وقوية والتطلع الى الامام مستلهمة من حرفها توق الحياة.

***

محمد حسين الداغستاني

 

في المثقف اليوم