قراءات نقدية

نزار حنا الديراني: التشكيل الجمالي للطبيعة وانعكاساتها في شعر محمد رشيد نسري

محمد رشيد نسري شاعر كوردي يزاوج الطبيعة دوما في قصائده، فكل جزيئة من جزيئات المناظر الخلابة في بلدته لها انعكاساتها ووقعها الخاص في أناه، فهي مرآة عاكسة لِما في روحه الشاعرة، وكاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري الحركي التي تجذبه إليها .

إنها مرآة واقعه، للماضي التالد، والحاضر الراهن الحالي، واستشراف الغد المستقبلي الآتي. وتحاول مخيلته أن تصنع منها صور شعرية بانورامية جميلة تدغدغ مشاعر المتلقي، لأن الطبيعة لديه ليست صورة صامتة بل هي حركة تفاعلية مع نظرته تجاه نفسه والآخر . لذا تراه دوما يستدعي الآخر من خلال ما تعكسه الطبيعة في أناه وتصنع منها خطابه المستقبلي .

والمتخيل الشعري لديه ليس وليد تبئير الرؤى في الطبيعة الصامتة فحسب، بل هو إنتاج لانعكاسات هذه الرؤية في جهازه المتخيلي كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل كي يكتسب دلالات جديدة .

في قصيدته المنشورة في صفحته يوم 23/10/2023 (هلو ڕابە  - أستفق) يخاطب الشاعر أبناء شعبه كي يستفيقوا من كسلهم وحيث العالم المتحضر غزا الفضاء وهم لا يزالوا أسير فراشهم:

خەلک فـڕی چو عەســمانی

هێشتا تو یێ دناڤ گالێ ڕا

دێ هلو زی ژخــەوێ ڕابــە

ســەحکە کـــریـار وحـنـێـرا

الآخرون طاروا وغزوا الفضاء

وأنت لا زلت تتقمط فراشك

انهض واستفق من نومك

وانظر الى الأعمال الجادة والبطولات

وفي قصيدته الجميلة (دیــکـلــو ڕابـــە ســـحــارە – أيها الديك أستفق إنه الصباح) يستدعي تراث قريته المرتبط بصياح الديك والذي يعني بزوغ الفجر ليحث الآخر الذي هو أبناء شعبه كي يستفيق من سباته العميق ويجعل من أحلامه حقيقة، فمثلما يدغدغ صياح الديك في الفجر، فلاح قريته كي يذهب الى الحقل هكذا يستدعي الشاعر أبناء شعبه للعمل من أجل خلاص نفسه . نص كهذا يحمل مفهومه النصي من إيحاءات نفسية مُثيرة وطاقات إيجابية تعبيرية تترك صداها على نفسية المتلقِّي  فيقول:

دیــکـلــو ڕابـــە ســـحــارە

ڕاکــە خــەلکــێ نـڤســـتی

بو یێ بێ پێژنە ئەڤ شارە

ئەگەر چیە خاڤی وسستی

بیانـی بــو خــو هشـــیارە

هێشتا مە ڕیس نەڕســتی

تـــو گازی بـکە جــــوتـیـارا

سپێدەیە وەختێ جــوتـــی

أيها الديك استفق لقد حان الصباح

نادي للنيامى أن يستفبقوا

فالمدينة قد أكتنفها السكوت

ما الذي دفعك تتقمط الضعف

والاجنبي يعي مصالحه

ونحن لا زلنا ننتظر الغزل والنسج

نادي للفلاح أن يستفيق

إنه الصباح وقت الفلاحة

تراه في قصيدته هذه يجعلك تعيش القرية لتستأصل منها العبر، فإذا لا تزاوج الديك الذي هو صورة معكوسة لضميرك لا يمكنك بناء وطنك، ثم يعود وينادي الراعي (القائد) ليستفيق هو الآخر من سباته العميق، والامام لينادي من أعلى المنابر ... الشاعر لا يزال في مرحلة النظال ولا يزال يرى الأمل في كل مظاهر الطبيعة لذا علينا عدم الاستسلام لما قال وقيل فتراه يخاطب الديك ليفق الراعي هو الآخر من نومه  :

شڤانی ژ خــەو هشیارکـە

دا پـەزی بـەردەت چـــەرێ

مەخەل و هەوشـیا دیارکـە

فـەرە ســـپێدێ بـــدەیە ڕێ

بەربەســــتا ژ ڕێـکـێ ڕاکـە

أفق الراعي من نومه

ليدع خرافه تمرح في الحقول

دع وسعة الصباح  يفرش على الطريق

وأزح الحجارة والصخور من الطريق

يحاول الشاعر في ترانيم هذه المُدوِّنة الشعرية الجميلة الغور جليَّاً في طيَّات تمظهراتها الشعرية البارزة واستنطاق صورها في شعر نحاول في قراءتنا هذه إبراز الرؤية الذهنية للشاعر داخل التعالق الذي رسمته القرية في ذاكرته من خلال البناء المشهدي وقصدية التعبير على  المستويين التاريخي والحاضر، النضالي والجمالي من خلال سرده لمشاهد صياح الديك وأرتباطه بالنضال وبأفعال من أجل تحقيق الذات، متكئاً على ثلاثة مكونات تتشكل من خلالها الأحداث وهي "الشخوص (الديك، الفلاح، الراعي، إمام المسجد )، والفضاء الزمكاني (القرية في الماضي) والحوار.

وفي قصيدته (ئوبونتو) المنشورة في صفحته يوم 11/2/2023  يستنبط العبر من توظيفه لتراث فلسفي أفريقي مستخلصا أن الخلاص لا يكون إلا من خلال التكاتف وبذل المزيد بدلا من أن يعاتب حظه كونه وحبيبته لم يحققا ما يرومون الوصول اليه . ومع هذا نجده في قصيدته (ژدەنگێ تە  - من وقع صوتك) يحقن شعبه بالامل فبصرخه واحدة بين جباله الشاهقة ترى العشرات من أعداءه تسقط من شدة صداها، فالحزن الذي يتراءى في أعين شعبه يتراءى له بارقة النجاح:

ژ دەنگێ تە هەسار کەفتن

پێر و ترازی بشەڕکەفتن

ڕوندک ژ چاڤا هاتنە خارێ

ئاخینگ ژ ناخێ من دەرکەفتن

من صدى صوتك سقطت المجرات من السماء

ومجاميعها تتصارعان

وعيناي تذرفان دمعاً

وأنفي يخر دما

تُشكّل الذَّات عصبَ الغنائية في محور قصائده لذا تراه ينصهر وذاته في معالم الطبيعة وانعكاساتها فتتحول الى الأثر الأدبي الذي يتكلم فيه الشاعر بمفرده، ولذلك فإنّ الذي يتكلم في شعره الغنائي إنّما هي ذاته الّتي ترتبط بـمفردات واقعية ملموسة لذا ترى واقعه الملفوظ ينشدّك إلى تلفُّظ موسيقى أنينه وشجاه.

وفي قصيدته (هندەکێت هەیــن – بعضهم) يستخدم التكرار للمفردة (هندەکێت هەیــن – بعضهم) كي يصف أبناء شعبه ما لهم وما عليهم لذا تره يستخدمها في بداية كل بيت كي يزاوج أيقاعها مع انعكاس مضمونها من خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري فهو يُضفي على هذه التَّكرارات الشعرية المتناوبة شيئاً خاصَّاً من روحه الذاتية للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي ومن آثار جيشانِ إرهاصاته النفسيَّة التي يعيشها الشاعر ويواجهها في حياته الشخصية  سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعه الذاتي الاجتماعي أم بواقعه السياسي الراهن الحاضر.

إلا أن الشاعر من فرط حبه للطبيعة يزاوج بينها وبين جمال الأنثى فحين تطل ينشرح الربيع ويمد يديه ليعانق الكون وكأن تموز قد عاد وعاد معه الخصب (في اسطورة نزول عشتار الى العالم السفلي) .

فالإحساس بالجمال، والوعي الجمالي بالأشياء هو ما يمنح الشعرية خصوصيتها الفنية ومداركها الشعورية العميقة فكل شئ فى اللوحة الشعرية يخضع لمعايير التناغم واللحن والإيقاع لمعنى حب الحياة المفعمة بالتناغم وبالأحاسيس المشرقة، الخالية من التوتر والقلق حين يخاطب أناه والتي هي بحد ذاتها الأنا الجمعية فلا ينفصل الانفعال الذى يحدث عن طريق البصر عن ردة فعله الحسي، بل هما يتداخلان بفضل ميل الإحساس للامتداد والامتزاج بأشياء أخرى . فيقول في قصيدته (ژدوریا تە – من فراقك):

ژدوریــا تە دلــێ نــازک نــــا دەبــری

ژ جوانیـا تــە گـــولا بهـارێ کر گـــری

تو چوی و تــە ئەڤ ژیانا تاری کــــری

وەرە توی خــەمل و ڕوشــا ڤێ دنیاێ

تو زی وەرە دا گەش ببیـت ڕەنگێ بهار

دا نە مینن ل ناڤ دلادا گــری و زێمـار

من فراقك تقطعت أوصال القلب

ومن جمالك تفتحت أزهار الربيع

ذهبت وجعلت هذه الحياة مظلمة.

تعالِ .. فأنت الجمال وأنت النهار لهذه الدنيا

أسرعي تعالي كي يتزين الجرح بلون الربيع

ولا يبقى في القلب وقتا للهموم

يمتاز شعره الغنائي بحرارته وتأثيره في المتلقي، ويشبع فيه التفجير الداخلي فوصفه لشيئًا معينًا لا يقتصر على الجانب المادي وحده؛ لأن عاطفته الجياشة وطموحه يتجاوزان الإحساس بالواقع، لذا يسعى لبلوغ شعره نوعًا من ارتياد إلى عوالم ما وراء الطبيعة، فهو يرسم ملامح وحدود الموصوف وهو يعيش عالمه .

ورغم كل هذا الجمال والصفاء في طبيعه وطنه نراه يتساءل من أين جاء الشر (مشيرا الى حرب الأنفال) وقلع الصفاء من سماءه ودب الخراب بأرضه حين قصفت إحدى مدنه بالكيمياوي فتراه يقول في قصيدته (ئەنفال – أنفال):

ژبیابانا توزەک ڕابو

ژ بەحران لافاوەک ڕابو

ژ عەسمانا عەورەک ڕابو

وەڵاتێ من کر کاڤلستان

کر تارستان

من الصحراء هبت عاصفة

ومن البحار فاض فيضان

و في السماء تراكمت غيمة

حولت وطني الى دمار

بل حولته الى ظلام

لذا في كل قصيدة من قصائده تتجسد ذاتيّته في الصوت الفردي الحميم، والذات الصغيرة في خوفها، وفي أحلامها الكسيرة وتشوُّفها لعالمٍ أكثر عذوبة ورأفة وأقلّ هدير .

ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على العلاقة القائمة بين محور الذات الشاعرة والمتأثرة، ومحور الموضوع الذي لازم ولا يزال يلازم هواجس شعبه، والتي إما أن تكون علاقة تنافر وخصام أو علاقة وئام ونضال . وهذا ما تجسده مقطع آخر من قصيدته (أنفال) بقوله:

وەڵاتێ من کر کاڤلستان

کر تارستان

کێلبێن دڕندەکێ دلڕەش

وەک سەیێ هار

پەنجێن وی ژەحر ژێ دباری

دناڤ وارێ من دا

چونە خار

جعلوا من وطني خراب

ودمار

أنياب وحش حاقد

كالكلب المسعور

مخالبه تمطر سماً

أوغل في دياري

أن الأفكار والصور الذهنية لاترد للشاعر بصورة عرضية، بل تتقادم على شكل ومضات، وهذه الصور لاتضىء إلا حينما يتحرر شعبه من المشاغل الجزئية التي لازمته من الماضي كي تخلق حلماً بلغة ألوان الطبيعة الخلابة والتي اتحدت مع ذات الشاعر، واندمجت مع خياله ونفسيته.

ومما يلاحظ في لغة الشاعر أحيانا تأتي انفعالية حين يتعلق الأمر بالوجود، أنها لغة انفعالية، تمتاز بنغمتها الصاعدة، التي تبرز أنماطا لغوية ذات طبيعة عتابية .

وختاما نقول:

إن المتخيل الشعري لدى الشاعر الكوردي محمد رشيد نسري يفتح مداليل الجملة الشعرية، ليرسم لنا لوحات فنية تعكس الطبيعة . وما يعزز شعرية متخيله هو بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية وكما هي في قصيدته التي يخاطب الديك ومن خلالها يخاطب أبناء شعبه أو شريكته في الحياة وحيث تنطلق القصيدة من لوحة فنية عادية مألوفة لمن عاش في القرية فتسارعت مخيلته بإعطائها طبقات من الدلالة كي تكشف لنا ذائقته الشعرية . وقد جاء استخدام الشاعر للمفردات ذات الايحاء الموحي من جهة، والتماهي بالجمال من جهة اخرى واضحا . متمنياً لصديقي الشاعر محمد رشيد أفقاً رحباً وعطاءً ثراَ .

من قصيدته (شین ژڤان):

ل بن وێ دارا

شین ژڤان

ژ ڕوژگارێن

پڕ ئێش و ژان

پەیڤ نڤێسین

گوتن هوزان

ژ پەیڤ و ڕستا

پیتێن ناڤێ تە

وەریان

تحت تلك الشجرة

التي كانت يوما محطة لقاء

من ذكرياتها الأليمة

تجسدت الكلمات

وكونت الأشعار

ومن الكلمات والجمل

تساقطت حروف اسمك

***

نزار حنا الديراني

في المثقف اليوم