قراءات نقدية

شمس الدين العوني: ذهاب في "قلق حامض" للشاعر جلال باباي

مرح شعري بين الأشياء والتفاصيل بالحنين والذكرى حيث الطفل بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

الشعر هذا الآخذ بناصية الأشياء والعناصر والتفاصيل حيث الذات (في حلها وترحالها) تلك الاقامة التامة بنبضها تشوفا ونشدانا وحلما... وقلقا تجاه الآخر.. العالم.. هذا القلق المولد بما يحدثه وينتجه من تجارب ونصوص وابداع اذا رمنا الخوض في هذا الجانب المتصل خاصة بحالات القلق قبل وأثناء وبعد الكتابة الشعرية بالنظر لطبيعتها المتصلة بالمبتكر والمختلف والجديد وهو الأمر المتطلب لعدم الطمأنينة والبحث الدائم والاجهاد.. انها لعبة الكتابة الشعرية في تجليات عناصرها ولحظاتها بل أزمنتها باعتبار معايشات الشاعر الممتدة والمفتوحة والتي منها تنطلق الخلاصات الباعثة على الكتابة وحتى التفكير فيها وملابسات كل ذلك.. وهكذا..

يقول سيجموند فرويد " لست في حاجة إلى تقديم القلق لكم، فكل منا قد ابتلي بهذا الشعور، والحق أقول لكم إنه حالة وجدانية نشعر بها بأنفسنا وتعاودنا مرة تلو الأخرى".

لقد تعددت الرؤى والأفكار بشأن القلق تعاطيا وبحثا وفق الأبعاد العلمية والطبية والنفسية والسوسيولوجية باعتبار التعقيدات المتصلة وبخصوص القلق قي صلته بالشعر فقد رأى الباحثون والنقاد في دراساتهم لنماذج من هذا الشعر أن القلق عادة ما يمثل المحرك الأبرز للكتابة الشعرية فهو الباعث على الاتيان بالجميل والمبتكر وما هو خصوصي وبالتالي فان القلق المبثوث في قصائد الشعراء منذ العصور القديمة ومنها العهد الجاهلي والى اليوم هو قلق عضوي في الذات القلقة وفي القصيائد الناجمة عن الحالة فالقلق وعدم القرار والحيرة وما الى ذلك هي من الطواهر التي برزت وشهدها الشعر العربي قديمه وحديثه وهي نتاج توق وحلم بين الخيالي والواقعي نشدانا للأجمل ولما هو بديعي.. وهنا نذكر بيت المتنبي الشهير (على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا) انه يعيش قلقه يمتطيه يجعل له رياحا لا قرار لها... والشابي الذي ذهبت به حيرته وقلقه الى آفاق من الشعورالقاتم ليجعل من وجدانه وغربته حالة شعرية مخصوصة من عناوينها الأسى ويبرز ذلك في شعره وفي مذكراته حيث يقول “أشعر الآن أنني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هذه الغربة الأليمة”.. انه الألم القادم من قلق الشاعر لفرط حساسيته.. وهذا القلق نجده عند بدر شاكر السياب الذي يعيش حيرة وغربة الواقع والمنشود والحلم والمثال..

هذا هو القلق الذي تخيره الشاعر الذي نحن بصدد ديوانه الشعري بل جعل منه قلقا مخصوصا عايشه ومضى به الى حالات من الكتابة لديه مشيرا الى حموضته فهو ليس بالقلق العادي والمألوف انه " قلق حامض " وهو العنوان.. عنوان هذه المجموعة الشعرية للشاعر جلال باباي التي تنوعت مناخات قصائدها بين اليومي والحنين وذاكرة الأشياء والتفاصيل فضلا عن حميمية التعاطي تجاه الأصدقاء لتتعدد الاهداءات وهو ما يحيل الى رؤية الشاعر بشأن الكتابة باعتبارها حاضنة شجن بحميمة فارقة ومن ذلك ما يرد في قصيدة " بعيد مطر البارحة " ص21:

على سطح بيتنا العتيق

صمت يراودنا

و مشهد أترتحنا وأفراحنا يلملم باقيات الذاكرة

ألمح الصديق يقتات من وقفته على طلل لذيذ

عنب الدالية... سفرا بلا بوابات

و فتات قصائدي المجلجلة

حل الخريف بغتة

وانتبذ الرفيق

مساءه اليتيم خرائط خلجاته

وصدى الخطاطيف في الأروقة

يقتفي وجهه في الغمام... ".

ثمة شجن في القصائد يفصح عنه الشاعر عبر تعدد الاهداءات في هذه المجموعة لشخصيات ثقافية وأسماء وشعراء وأصدقاء وما الى ذلك من مكونات المحيط الثقافي للشاعر الذي يرى في القصائد حالات وجد يغذيها القلق المقيم في الذات الشاعرة وفي النصوص ومن ذلك نقرأ مما يرد في قصيدة " قلق حامض... ومواسم غائرة بالسحب " ص71:

ما أكثر الظمأ

ينهمر واقفا في دمي

ما أمر شفتي عمياء فوق مراتيج من صخب

بددتني عاريا كثرة الخسارات ورأيت الأم ثكلى في الطريق

تحت مطر هشة ترثي كبدها

لذت من فقر الصباح

بفجر يشتعل بالشهب

أتوكأ بحبوب منع الأرق والاحتراق

و خطوط صوتي الى هبوط

تلك حماقاتي المتشنجة شردتني زهاء حبل غسيل... "

مجموعة " قلق حامض " كون قصائد متعددة يجمع بينها وجدان الشاعر القلق المتقلب والمسكون بجميمية العناصر والأشياء كل ذلك في بوح شعري تقول عنه الشاعرة أمال موسى في تقديمها لهذا الديوان في نص بعنوان " شعرية القلق الحامض " ولعل هذا البوح والقدرة على تعرية الوجدان بصور شعرية بسيطة غير متمنعة هو نتاج تراكم تجربة جلال باباي الشعرية وتقدمها النوعي حفرا في مكاشفات جديدة وراهنة تتفاعل مع الحاضر وحها لوجه فينحت الشاعر معناه الخاص ومعه السياق المنتج لقلقه والمحدد لطعم هذا القلق... ".

في قصيدة " تستند الى البحر ضاحكة... أو.. فوق تفاحة قلبي الجريح " ص 25 يقول الشاعر:

" مثل كمان الليل تغرد فتنتي

خارج سرب النائمين

تلقي بفوضاها اللذيذة على مياه متحركة

و تنبس في آذاننا...

سأتنحى بلا ضوضاء

من سماء ناعمة بالماء... ".

هكذا هي هذه المجموعة فسحة للشاعر مع الشعر بقصائد طافحة بما يشبهه من قلق حيث اللغة تدعو عباراتها قي كثير من الانتباه والانكسار والحلم أيضا ففي طيات قلق الشاعر أمل هو عين القصيدة وترجمانها..

"قلق حامض" قصائد يمرح فيها الشاعر بين الأشياء وتفاصيل الحياة متأنقا بالحنين وبالذكرى يعلي من شأن الطفل الكامن فيه بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

***

شمس الدين العوني

 

في المثقف اليوم