قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في قصة (الحيوان الغريب) للكاتب إدغار ألن بو

مستحدثات فنتازيا الموضوعة ونوعية الأسطرة المتعدية

توطئة: لعل الكتابة القصصية في عوالم تجربة الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، يمكننا وصفها بكونها مجموعة معادلات نفسانية معبئة في شحنة حوافز مركبة من صنيع لغة الذات الفردية ونزوعاتها السلوكية والاجتماعية والعاطفية التي راحت تغالب قهرية معايير (العقل- الممكن- التخييل) إذ أن المتحكم الرئيسي لدوافعية تلك النصوص التي قام بو في كتابها، لا تتخلى عن سيرورة طابعية (النشأة- الممارسة-الذئقة) وصولا الى دقائق ثمينة من عاملية التخييل وحنكة تصيير المكونات نحو ذلك المنحى المخصوص من ناحية العلامات وزمن ومكان الذات التي تفاعلت فيه لتقدم لنا صورية الأشياء بفطرة السارد العليم أم المشارك في عملية تمثيلات دلالات الحكاية ونواة خطابها المتقهقر بثوابت أصول كتابة الفن القصصي القصيرة، لتتاح لنا إستجابات القراءة والتلقي لتلك الهيئات الفنية، ضمن ذائقة تستشعر ذلك الوجود الحكائي في حدود مواضع معقولة أو غير معقولة في جملة ممارساتها الموضوعية:فهل ياترى أن حكايا هذا القاص الرائد تصب في وجودها ضمن حقائق صورية لها إستجابة وانعكاس خطابها وحكيها في زمنه تحديدا؟أم انها تواجدات لمتواليات خلقت فينا جملة التفاتات تتعلق بهوية هذا النص ومؤولاته الفرضية الخاصة؟ لذا نقول ليس غريبا أن يكتب القاص نصوصه القصصية في هيئة لحالات معادلة في الثيمة والموضوعة والمعالجة وفداحة التجريب، ولكن من الصعب ان نتلقى هذه الحكايات ضمن قواسم ذوقية عشوائية، تواجه صعوبات ما في عملية الاستقصاء والتمحور في محمولات تلك النصوص ومواضعها الكيفية من ناحيتي البناء والأسلوب.في الواقع ماجعلني التفت ألتفاتة معمقة لمشروع بو القصصي الكبير، وإختياري لعوالمه نموذجا للدراسة المستقلة في شكلها العضوي والمقدماتي والمدخلي، ليس لما كان تسجيلا من عدة انطباعات وفراسات لبعض من النقاد والأدباء، ممن زامنوا عصره وأعتاشوا مع طبيعة نصوصه، لا طبعا فالأمر ليس بهذه الصورة إطلاقا، فقط أقول أن سلسلة قراءاتي المبكرة لهذا الكاتب، هي من جعلت لدي ولع التقديم لهذه النصوص، حقيقة تقويمها من جهتي المنظورية الخاصة، وليس تقيدا بما اضفى عليه بعض من النقاد من توصيفات في أغلبها الأعم لا تتناسب مدلوليلا ولو للحظة مع شكل وبنية قصص عوالم بو.إذن الرغبة لدي كما قلت سابقا منذ قراءتي لأول قصة في مختارات كانت تجتمع فيه ثريا نصوص بو الساحرة. لذا فأقول في كل مرة من كتابتي عن قصة جديدة لهذا الفذ، أن كل ما كتبه النقاد في زمنه وحتى يومنا هذا، لا تتعدى حساسية القراءة المحاكاتية السائلة في وجهة نظرها، في حين كان بعضها لا يتجاوز كتابة السيرذاتية للمؤلف نفسه، أما ما الشكل النقدي الذي آثاره النقاد في بعض وقفاتهم شبه الجادة، فلا يتعدى هو الأخر حدود وصف عرضي يتلخص في كون قصص بو عبارة عن لوحات تثير الرعب والسخرية والعدمية لدى البعض منهم. بهذا وذاك تم وسم أدب بو القصصي ضمن عضوية آداب الناشئة قسرا وقهرا، ولو كان هناك فعلا علاقة نقدية وبحثوية ناضجة في مقارية أدب بو القصصي، لما استطاعت كل مناهج النقد التوقف عن مقاربة كل قصة من قصص الكاتب بموجب مواضعة وممارسة منهجية فعالة وجادة. في الواقع كنت لا أحبذ لنفسي مثل هذه الاطالة المدخلية من القراءة، خصوصا وإن ما ذكرته قد تحدثت عنه في قراءات سابقة لقصص بو، ولكن من الممكن أن تكون طبيعة دراستي القصيرة لقصة (الحيوان الغريب) هي ما أثارني في طرح هذه المدخلية الخارجة عن نوعية المقاربة للقصة موضع بحثنا.

- الحيوان الغريب: المبنى القصصي وفرضية الاستيهام بالوقائعي.

1- الحكاية الفنتازية ووسائط السارد العليم وصوته وتحولاته:

ان العناية بخلفيات زمن الحكاية القصصية في المفهوم السردي، ماهي إلا من الفواعل والاواصر البالغة في أهميتها وتأثيراتها عبر ممارسة الافعال المحكية من ناحية كون منظورها السردي هو السبيل في تنام متبايناتها الرابطة والمتحولة في هيئة حالات خاصة من الديمومة والاستقراء والتدليل، لذا وجدنا بدايات قصة (الحيوان الغريب) تعكس لنا ذلك المستوى التأشيري من عوامل وعناصر وأسباب حقبة زمنية غاطسة في وباء الكوليرا في نيويورك، ذلك قبل أن تتم دعوة السارد المشارك من قبل احد أصدقائه في منزله المطل على ضفاف الهدسن. وبو في هذا الإجراء والتحديد الزمني لاعراض ذلك الوباء، يمهد للقراءة تجلبات حدوثات زمن حكايته بنظام العلامة الخطية التتابعية والاستطرادية في نمو الوحدات الخاصة بالمكان المنظور من حيز التجاوز والممارسة في وسائطية مادة الحكي: ( كان لدينا هناك مختلف وسائل التسلية العادية التي يمارسها المصطافون، وكم كانت أيامنا تغدو جميلة وممتعة بنزهاتنا في الغابات أو الرسم ورياضة التجديف والصيد والسباحة والموسيقى والكتب، لو أننا لم نكن نتلقى كل يوم الأنباء المرعبة عما كان يجري في المدينة الآهلة ./ص145 النص اقصصي) من عبر هذه المواطن العرضية- المحكية، تتشكل تتابعية الزمن القصصي من ناحية كونه (الماقبل نصي) وفي هذه الزمن الصفري تواجهنا أدوارا للشخصية كإمكانية محورية دالة على بث المسرود له-كمساهمة مفصلية- تربط المسرود بين زمنين (خارج الحكاية- داخل الحكاية- ساردا ومحورا) وتتوازى العلاقة المكانية بالشخصية ورفيقها الذي يحل في المسرود والسرد عاملا، أو كعنصرا جهاتيا أو هو بمثابة المسند إليه -اي للشخصية المحور- حيث لا نلمس منه سوى حضوره كمادة جانبية في صلة متممة للمحور الفاعل.

2- الزمن الماقبلي تصورا:

تجدر الإشارة الى أن هناك جملة نوازع خاصة لدى متعلقات المحور العاملي، جعل السارد يوظفها وينسبها الى علاقة تصاهرية بين (السارد- الشخصية) على اساس من كونها مجموعة الحدوس التي تسبق عملية وقوع الاحداث، فتتجلى هذه القابلية من الحدوس لدى مركبي (السارد+الشخصية) ذلك تبعا لمواثيق وراثية على حد قول السارد في حال لسان الشخصية ( وهو أعتقاد كنت في هذه المرحلة من حياتي مستعدا للدفاع عنه ./ص145, النص القصصي) الشخصية الساردة هنا تحيل معتقداتها بصورة تعتمد على مؤثرات من ظواهر ما قد حدثت في حيز من حاضرها المعيشي المفترض، وعلى هذا فهي ترسم وفقا لذلك جملة من تتاليات من النوع الذي يشبه أن يكون ضمن حقيقة كاملة في صلب تلك الاحداث السابقة والمنصرمة، اي انها إذا مرت بظروف قاهرة في مرحلة سابقة، فإنها تتخيل بروح تنبؤية بأن شأن القادم حتما سوف يكون جديدا لتلك الخصائص من الاحداث المنصرمة، وعلى هذا النحو رأينا ان الشخصية يعثر في منزل صديقه على مجموعة من الكتب التي تولد عند المرء حالات ذهنية تشيع لمن يقرؤها إحاسيس غرائبية في التعامل والاعتقاد بوجود تلك الميول في حقيقة الظواهر الخرافية التي غدت بدورها تفصيلا في مشاهدات تتم للشخصية نفسه من منطلق فرضية حقيقية قادمة من عين الواقع الاستيهامي: (كانت أفكاري تشرد منذ وقت غير قليل بين الكتاب الذي أقرؤه وحزن المدينة المجاورة وخرابها .. وحين رفعت عيني رأيت سفح الرابية العاري ولمحت شيئا - مسخا غريب الخلقة يهبط سرعة كبيرة من الذروة الى الأسفل ثم يغيب أخيرا في الغابة الكثيفة./ص164 النص القصصي) من الواضح أن الواقع الفعلي للمشاهدة لم يكن ملتبسا على الشخصية، خصوصا وأن شريط الوصف التفصيلي لذلك المسخ كان في وضح النهار: ولكن بأي حقيقة يمكننا تلخيص هوية ذلك الكائن !,أهو محض تصورات تركتها انطباعات القراءة لمادة ذلك الكتاب خصوصا وان الشخصية أصبح يمارس طقسا سريا في قراءة ذلك الكتاب دون علم ومراءى من صديقه به! أم أنها اشباح ميكروبات الكوليرا التي تجسدت للرائي بتلك الهيئات الأليغورية حيث بدت الاحداث القصصية وكأنها شجرة في غابة الحقبة الرومانسية، حبكتها مختزلة من رحيق شرارات المدرسة الطبيعية، ولكن مضمونها حمالا لمغزى حكاية طافحة بدلالات الوصف والتأمل في الافاق الأليغورية المتوجة بملامح حكايا الاسطرة وتمثيلات الفاعل المؤسطر من احياز الفضاءات القصصية المعادلة في الموضوعة والثيمة والدليل.

تعليق القراءة:

لعل آليات الكتابة القصصية لدى بو تتعامل مع ثيمات الواقع في حدود منظومة رمزية حسية تخييلية تتعدى هيئات الاوضاع النمطية من وظيفة الرموز وزمن العلامات، لتمنحنا ظواهر نصية تقترب من الفنتازيا، ولكنها ليست كفنتازيا كافكا أبدا، ذلك لكونها تنطلق من حقيقة مشخصة ومفترضة في الان نفسه، لذا فإن بو لا يغرق نصه داخل حدود من ذلك المعنى المضلل، بل هو يستأثر ممارسة تشترط تواجد الطرفين (الواقع-المفترض) في أوضاع تشغلها المرموزات وليس الفعل الرمزي بذاته الكمولية والمنجزه في حدود وظيفة محالة .لعل بو يصور حقيقة التوالدات للمادة الحكائية داخل وسائط وملمحات أكثر توغلا في حاصيلات المتعدي والمتعدد من المعنى الظاهر في متن ومبنى النص القصصي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

في المثقف اليوم