قراءات نقدية

نبيه القاسم: "راكبُ الرّيح" والتّألّق في إبداع الكاتب يحيى يخلف

عرفنا الرواية الفلسطينيّة على مَدار النّصف الثاني من القرن الماضي، القرن العشرين، رافعةً مشعلَ المعرفة، ومُنبّهةً الذاكرة، ومُستنهضةً الهمم، وباعثة الأمل، وراسمة دربَ المستقبل الواضحَ الطّريق. ولم تكن صرخةُ سائق الشاحنة في رواية "رجال تحت الشمس": لماذا لم تدقّوا الخزّان!؟ إلّا الصّرخةَ المدوّية التي أرادها غسان كنفاني: أنْ كفانا اتّكاليّةٌ على الغير، وانتظارُ رحمةِ الرّب، وأنّ علينا أنْ نأخذَ أمورَنا بأيدينا لتحقيقِ أهدافِنا التي نعمل لأجلها.

بهذا الاتّجاه الذي رسمه غسان كنفاني انطلقت معظمُ الرواياتِ الفلسطينيّة ترسمُ خطى الحاضرِ لتنطلقَ نحو المستقبل، عازفةً عن العودة للماضي الموجعِ للقلوب لتكونَ الاندفاعةَ لمستقبلٍ أقوى وأجْدى.

وكان اتّفاقُ أوسلو، وسقط الحلمُ على أرض الواقع، وتعثّرت خطواتُ المقاتل على أرض المعركة، وتراجعت الآمالُ لتتَقزّمَ في واقع لا يرحم. وكانت الصّرخاتُ المتألّمةُ التي أطلقتها شخصيّاتٌ صدمها تكسيرُ الحلم الكبير على أرض الواقع في الوطن الغريب كصرخة بطل رواية "نهر يستحمّ في بحيرة" ليحيى يخلف "أنا العائدُ أقفُ ضائعا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعرُ بالرّغبة في البكاء" (ص26).

وصوّرت الروايةُ الفلسطينيّة نكسةَ الفلسطيني واختزالَ حلمه الكبيرِ في وطن يتكوّنُ من بَلداتٍ مُتقَطّعة تحرسُها حرابُ جندِ الاحتلال، وليس للفلسطيني إلّا أنْ يقبلَ بالواقع ويرضى بما يمُنُّ عليه المحتلُّ الغريب.

فراح الفلسطينيّ يهربُ من واقعه ليعودَ ليبحثَ في الذّاكرة، ويسردَ سيرَ الآباء والأجدادِ لعلّ في استحضارهم تعزيةً للحاضرين، وتعويضا لكلّ ما فقده من حلم ٍكبيرٍ أمِلَ أن يكونَ الذي يُجَسّده على أرض الوطن. مثل: ("فرَس العائلة" و "مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير، و"ترانيم الغواية" لليلى الأطرش، و "سيرة بني بلوط" لمحمد علي طه، و"زمن وضحة" لجميل السحلوت.)

يحيى يخلف خلال حياته اليوميّة والأدبيّة عاش هذه المراحلَ المتغيّرةَ، عايش حلمَ الشابّ العربي المتوقّدِ ثورةً وعطاء وتضحية في "نجران تحت الصّفر" ورافق الفدائيّ المندفع نحو تنفيذ المهمّاتِ الكبيرة دون وَجَل في "تفّاح المجانين" وشارك المقاتلين الواثقين بانتصار قضيّتهم وتحقيقِ أهدافهم في "نشيد الحياة". ولكنّه عاد وعايشَ صدمةَ انكسار الحلم الكبير وتقزيمه في "نهر يستحمُّ في بحيرة" وبكى وخافَ فقدانَ البطلِ الأب في "تلك الليلة الطويلة" وظلّ يرصدُ التّحوّلاتِ والتّقلبّاتِ، ويكتبُ ويستفيد من الأحداث وتراكماتها، ويتمزّقُ لحالة العرب التي وصلوا إليها بعد تمزّقِ ما اعتقدوه ربيعا عربيّا فكان خريفا قاتلا.

يحيى يخلف ليس الكاتبَ والمفكّرَ الذي يتجمّد أمام النّظريّات والمقولاتِ والمواقف. بل هو صاحبُ الفكر الثوري النيّر الذي يستوعبُ ويستفيدُ ويتعلّمُ ويخرجُ بنتائجَ قَيّمةٍ. يحيى يخلف عرف أنّ الواقعَ المعيشَ لا أملَ لنا فيه، وأنْ نبني مستقبَلَنا على ما هو قائم من ضروب المستحيلات. لهذا وجد أنّ البناءَ يجب أن يكونَ من الأساس، من البدايات، طوبة فوق طوبة كما نقول. وأنّ الحياةَ والصّراعاتِ والانكساراتِ والنّكَساتِ والأحلامَ الكبيرةَ المتكسّرةَ عَلّمَتْنا كيف نُعمِلُ العقلَ ونُهدّئُ الطاقةَ المشتعلةَ فينا لنعرفَ كيف نرى طريقَنا وكيف نتعاملُ مع مَنْ حولنا لنبنيَ لنا الحياةَ الجديدةَ التي قد تكونُ التي نريدُ أو قريبةً منها.

وكانت رواية يحيى يخلف الجديدة "راكبُ الرّيح". واعتقدتُ لأوّلِ وَهْلةٍ أنني سأقرأ روايةً بطلُها مَسْحوبٌ من عالمِ ألفِ ليلةٍ وليلة وأساطيرَ بعيدةٍ في الأزمنة، أو من أجواءِ دون كيخوت أو حتى رامبو زماننا.

ووجدتُني أنسابُ مع اللغة الجميلة الموقّعة، وأقلّبُ الصفحاتِ الواحدةَ تلو الأخرى، وأختار رِفْقةَ يوسفَ في قَفْزه  فوق السّور والغَوْص العميق في البحر، وفي مواجهةِ الحوت وملاحقةِ الفتياتِ واللهو مَعَهن، واسْتراقِ القُبَلِ من أجملهِنَّ حتى وجدتُ نفسي ويوسف تأخذنا سِنَةٌ من النوم، ولم نستقيظْ إلّا وطابورٌ من الجواري الحسانِ تُحِطْنَ بنا.

يوسف الشخصيّة التي رسمها الكاتب بدقّة

يوسف هو الشخصيةُ الرئيسيّةُ ومركزُ أحداث الرواية. شخصيّةٌ اختارها الكاتب بدقّة وحساسيّةٍ لتكونَ كاملةَ الأوصاف. فمولده كان في مدينة يافا يومَ احتلّها القائدُ المصري محمد بك أبو الذهب من يد ظاهر العمر وأعادَها لحظيرة الخليفة العثماني(ص5). ويومها كانت مدينة يافا تمتاز بالحركة النشطة في مختلف مجالات الحياة، وكانت معروفة بتنوّع أهلها، ففيها تجد العربي والتركي والألباني والشّركسي والأوروبي، المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، وتسمع تخالطَ اللغات وتَداخلها، وتلمس بسهولة مَحبّة الناس وتعاونهم، ولكن تشهد أيضا تعدّيات جند الأنكشارية على السكان ومحاولة فرض رغباتهم وأوامرهم، وضعف حكم الوالي العثماني أمام جبروتهم.

والدُ يوسف عمل في التجارة، وأمُّه بهنانة اعتنت بولدها وربّته أحسنَ تربية. تعلّم في حلقات الدّراسة في الجامعِ الكبير على يد كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقهَ واللغةَ والعلوم. وأرسله والده أيضا إلى مدرسة الراهبات فتعلّم اللغةَ الفرنسية. عشق الخطَّ العربي فتعلمَ خطَّ الثلث وخطَّ النّسخ وباقي الخطوط العربية، وتعلّم الرسمَ وأتقنَ الرسم بالفحم وبألوان الشّمع وألوانِ الزّيت، واشتهرت رسوماته، وزار مرسمَه أبناء الطبقات الغنيّة ومحبو الفنون. كما أحبَّ يوسف البحرَ وأحبّ القفزَ من الأعالي إلى البحر.

كان يوسف وسيما، جميلَ الطلعة، يمتلك عيني صقر، وحاجبين مرسومين كأنهما خُطّا بقلم، وجبينا كالفضّة، وشعرا كستنائيّا، وأنفا مستقيما. وفَمًا دقيقَ الشّفتين. ويبدو بقفطانه الأبيض والطّاقيّةِ الحمراء المشغولة بصِنّارة بهنانة، والشّالِ الأخضر الذي يُزنّر وسطه، مثلَ أمير من أمراء الأستانة، بل إنّ النساءَ من أحباب بهنانة كنّ يُشبّهنَ جمالَ خلقته بجمال النبي يوسف، الذي عشقته النساءُ حتى الذّهول(ص7). وما أنْ وصل إلى مرحلة الشباب المبكّر، حتى اكتسبَ لياقة وجسما مفتولَ العضلات، وبنيةً متينة، وجرأةً تفوّق فيها على أقرانه، خصوصا في رياضة القَفز من أعلى أسوار يافا إلى المياه العميقة. (ص8) وبهر الجميعَ بقَفزه ، وذات مرّة وجد نفسَه بعد أنْ أتمّ قفزتَه وغطس، وسبح نحو عُمق البحر وجها لوجه أمام حوت انشقّت الأمواج عنه وصعد إلى السطح ، ظهر رأسُه الرماديّ وزعانفُ ظهره المنقطة وكان يفتح فكيه. داهم يوسفَ خوفٌ ورعبٌ، وارتبك. وبعد مواجهة صامتة بين يوسف والحوت، أغلق الحوتُ فكيه وتوقّفَ عن نَفْث الماء وسَكنتْ حركتُه ثم انسحبَ واختفى كأنّه لم يكن. انتشرت قصةُ الحوت في المدينة وردّدتها المجالسُ في كلّ مكان.

إضافة إلى كلّ ما ذُكر سكنَ جسمُ يوسف القَرينُ الذي أعطاه القوّةَ الخارقةَ التي كانت تظهر في حالات الحبّ أو الحرب الشديدة. وقد بهرَ بهذه القوّةِ كلَّ مَن عرَفه، وجذبت إليه كلَّ الناس، خاصّة الفتيات وجواري وسيّدات القصور.

يوسف اتّسم بمسحة إلهية، فهو شبيهٌ بالنبي يوسف بجماله وفتنته وعِشْقِ الفتياتِ له، وهو كالنبي يونس قابَلَ الحوتَ، لكنّ الحوتَ بُهِتَ وصمت وتراجعَ ولم يحاولْ إيذاءَ يوسف. وهو البطلُ المغوار حامي المدينة وأهلِها، مَنْ قتلَ جندَ الانكشارية عندما اعتدَوْا على السكان، وقتلَ جُنْدَ نابليون الذين عملوا على تدمير يافا وقَتْلِ أهلها، وانتقم للغزال بقتل الفَهد الذي تعرّضَ له.

وهنا يدخلنا الكاتب في عالم الخيال السّحري اللامعقول وعالم رامبو حيث نرى يوسف في مواجهته لجند الانكشاريّة، يجمع نفسه وطار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر. وأعمل فيهم، أوسعهم ضربا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرّحى حبّات القمح، ومَن ابتعدَ ولّى هاربا، ونجا تاركا طبنجتَه وسلاحَه الأبيض."(ص131) كذلك قصّة قتل يوسف للفَهد الذي أراد قتلَ الغزال، كيف التقط السوطَ الذي يحمله سائقُ العربة وقفز إلى الأرض العشبية التي تجاور النّبع . وإذا شعر بقرب الفهد من الغزال وأنّ الخطر داهم، داهمت السخونة جسد يوسف، اشتعلت نيران بداخله، داهمته عاصفة وأثارت حوله زوبعة، نشطت حوله الريح، فقفز عاليا واعتلى الريح، وطار في الهواء عاليا، وحطّ على الأرض على بُعد خطوة من الفهد الذي كان قد قبض على الغزال وأوشك أنْ ينشبَ أنيابَه في حنجرته. رفع السّوطَ الذي داخله شواظٌ من نار عاليا، وبيد من حديد، ضرب الفهدَ الذي يوشك على الفَتك بالفريسة. ضربة على رأسه وطرَحَه أرضا وصار يتفعفل بدمائه. (ص230).

وقصّة يوسف مع جند نابليون حيث وصل بقَفزة واحدة، وتحكّم في طاقته، وتحوّلت أصابعه إلى صلابة الحديد، وأعمل فيهم ضربا بحركات خاطفة، فشَلّ قدراتهم، وأفقدهم توازنهم، وضغط على نقاط ضعفهم. وبسماع يوسف لطلقات المدفعيّة في النّطاق العالي من المعسكر اندفع يوسف. ركّز وشحن جسده بطاقة مغناطيسيّة تُعادل القوّة المغناطيسيّة للأرض، فانفلت من الجاذبيّة، وبقفزة واحدة كان في أعلى الجبل، وأعمل بأصابع يده الحديديّة توجيه الطعنات إلى الجنود الذين يتهيَأون لتلقيم المدفع، وبقفزة أخرى، أجهز على آخرين، وولّى مِنْ تبقّى الأدبار. (ص293).

وهو الإنسانُ النبيلُ الطاهرُ الذي رفض إيذاءَ الفتيات اللاتي أحبّهن وعرفَهن تماما كفعل النبي يوسف الطاهر الأمين الذي رفض ملاحقة الفتيات وحتى زوجة فرعون مصر له: فماري التي أظهرتْ عشقَها له ساعةَ جاءت لوداعه اكتفى بتمَنّي النجاح والتوفيق لها. وفيديا اكتفى بالإعجاب والفرحِ برؤيتها ولم يتعدَ ذلك. حتى العيطموس التي كانتْ أمنيةَ حياته وحُلمِه الكبيرِ وسعادتَه، اكتفى بتَقْبيل شفتيها في الصورة ليُظهرَ طهارةَ حبّه لها رغم أنّها كانت على استعداد لتُعطيه خدَّها ليُقبّلَه. حتى ذات السنّ الذهبيةِ التي عمِلتْ على إذلاله لم يقُمْ بالانتقامِ منها واجبارِها على ممارسةِ الحبّ معه، وانّما اكتفى بالحُلم ليُحقّقَ ذلك.

ويوسف كان رجل العلم والثقافة، فقد اهتم من صغره بإتقان لغات عديدة، وبرّز في الرسم وكذلك في السّباحة والغَوص، كذلك لم يكتف بما اكتسب من علم، واستغل مدّة الحكم التي صدرت ضده بإبعاده عن يافا، عقابا له على قتله لجند الانكشاريّة، بالتوجّه نحو مدينة دمشق حيث التحق بمدارسها وتابع دراسته. كما أنه استغل تنقّلاته للاطّلاع على الفلسفات المختلفة وخاصّة الهندية منها، وتعرّف على الحكيم الهندي وتلقى العلوم عنه التي أفادته في فَهم نفسه والتّحكّم بقُدراته وتصرّفاته.

مركزيّة المرأة في الرواية

تستحوذُ المرأةُ على القسم الأكبر من الرواية، وما يجمعُ بين كل النساء اللاتي كنّ في قلب الأحداث: الجمالُ والفتنةُ وحلوُ الكلام وجرأةُ الفعل وعُلُوُّ المكانة وغنى المال واستقلاليةُ التصرّف. وينقلنا الكاتب إلى هذا الجوّ الجميل لمجالس النساء الذي يُبعدنا عن هموم الحياة اليومية، ويطلعنا على حياة القصور وأصحابها وأبناء الطبقات الغنيّة والحاكمة التي لا علاقة لها بما يجري في واقع الحياة للناس العاديين.

ويُدخلُنا عوالمَ ألفِ ليلة وليلة ومخادعَ حريمِ السّلطان العثماني وهو يصوّرُ مشهدَ اللهو في المتنزه الطبيعي بين المياه والينابيع وحدائقِ الورد، حيث كان يوسف يلهو مع الفتيات ويمسك بأيديهن، ويمسّدُ شعورَهنّ، ويُداعبُ خدودَهنّ، وتلك الفتاةُ الحسناء بعينيها الواسعتين ونظراتِها التي تشبهُ المخالبَ، التي أغوته فرافقَها بالدخول إلى الغابة وانتهى اللقاءُ بينهما بقبلته الحارقة لأسفلِ رقبتها عند نحرها بجَمر شفتيه. ويصفُ كيف وجد يوسف نفسَه عندما استيقظ بعد تقبيل الفتاة ومُداعبتها محاطا بكوكبة من جواري القصر، ينظرن إليه بشغَف وانبهار، وقد أماطت كلٌّ منهن الخمارَ، فظهرت له وجوهٌ تركية وشركسيّة وقوقازية وألبانية. ألقت إحداهن عليه غصنا من شجرة ليمون تفتّحتْ عليه زهورٌ بيضاء. وألقت أخرى بعِرْق من الريحان، وثالثة بباقة من النّرجس البريّ(ص 13-14).

ورغم كثرة المعجبات بيوسف والمطاردات له من الحسان إلّا أنّه اهتمّ، وبدرجات متفاوتة بـــــ:

ماري: الفتاة الشقراء، بيضاء البشرة ذاتُ العينين الزّرقاوين. هي ابنةُ قنصل الدولة العليّة العثمانية في مدينة باردو بفرنسا، أمّها طبيبة فرنسية، وعائلتها تقضي عطلتَها الصيفيّة في منزلها الفاخر في البيوت المتدرّجة على التلّة. زارته ماري في مرسَمه مَع أمّها ثلاث مرات. في المرّة الأخيرة جاءت وحدَها. طرقت البابَ ودخلت بوجهها الطفولي، وعينيها الزرقاوين، وشعرها الأصفر، وأنفها الدّقيق، وفمها رقيق الشّفتين، وثوبها الفضفاض. وقالت إنّها جاءت لتودّعه لأنّها عائدة مع العائلة إلى فرنسا، واغرورقت عيناها وألقت بنفسها على صدره، فربّت يوسف على كتفها ومسح دمعَها وتمنّى لها رحلة سعيدة.(24)

العَيطموس: هي المرأة الأولى التي دخلت حياة يوسف، وقد عرفها عندما زارته مع ماري وأمّها فشدّت اهتمامه وشغلت تفكيره. امرأة كاملة الأنوثة(ص27)، كاملة الأوصاف، مانحة ومانعة، مقبلة ومدبرة معا. محافظة ومتحرّرة، ذاتُ عزّة وذاتُ بساطة معا. عينان يرفرفُ فيهما طائرُ عناق وطائرُ فراق. ملامحُ مظلّلةٌ بالقداسة ومظلّلة بالغواية. (ص65) مليحةٌ مثلُ تمايل غصن، مهفهفةُ الخصر، مصقولةُ الترائب، ضحكتُها مجلجلةٌ. إطلالتُها مُفْعمةٌ بنسيم الصبا. خفيفةٌ، رشيقةٌ. تسحرك ببسمة ثغرها، وتَلويحة ٍمن يدها، ورنّة من خلخالها، وهفهفةٍ من ردائها، وتأوّدٍ وتثنّ من قامتها. (ص67)

قالوا إنها يهوديّة، وقالوا إنها مسيحيّة، وقالوا إنها تعتنقُ البوذيّة. ولكنها شوهدت تمارسُ العبادةَ في مصلّى النساء الملحق بالمسجد الكبير في حيّ العجمي، وأسست تكيةً بجانب مسجد حسن بيك في المنشيّة.

ولا يعرفُ أحدٌ إنْ كانت تركيةً أم شركسيّة أم من أصول إغريقيّة. وهي ثريّةٌ تملكُ عقارات وأموالا وأسطولا من السّفن التّجاريّة، تحظى بحماية أمير البحر جركس باشا. (ص26)

أحبَّها الناسُ الفقراء والبسطاءُ لتواضعِها، كانت تتصدّق على المحتاجين، وتزورُ المرضى في البيمارستان، وتوزّعُ لحمَ الأضاحي في الأعياد. (ص28).

أعجبت برسومات يوسف، وطلبت منه أنْ يرسمها مقابل قبلة تمنحه إيّاها. استقبلته في قصرها، وجالسته العديد من المرّات، شجّعته على الصّبر وتحمّل صعوبة الابتعاد عن يافا وأهلها بعد صدور حكم الإبعاد ضده. أحبّت يوسف بصدق، ولكنها رفضت أيّة علاقة جسديّة معه.

المرأة ذات السّنّ الذهبيّة: وهي الجارة في دمشق: التي عاكسَته وتحدّته ودَعَتْه: اعتلِ السورَ وتعال إلى مخدعي عندما ينتصف الليل.(178).وبالفعل غامر وجاءها منتصفَ الليل فاكتشفَ خديعتَها له، ووقع في أيدي الحرس فسلّموه للجند ووُضع في المخفر.

لكنها عادت للتّحرّش به وطلبت منه أنْ يتبعها فتبعها دون تلكؤ. (ص189) ووصل معها إلى بيتها الفَخم، وإذ طلبت منه الجلوس سألها: مَنْ أنت، أنسيّة أم جنيّة؟ فأجابته: الاثنان معا، في النهار إنسيّة، وفي الليل جنيّة. وتابعت وهي تُنْشبُ مخالبَ عينيها في عينيه: أنا قاتلةُ الرجال، لا أذبحهُم بالسّكين، إنّما أذبحهُم بسلاح المتعة واللذة وطاقةِ الجماع. أذبحهم بناري وشبَقي. أمتصّ كلّ الطاقة الكامنة في أجسادهم. أنهكهم، فأنا بقوّة عَشر نساء. فهل أنتَ مستعدّ للموت اللذيذ؟ إنّني مزيجٌ من الإنس والجان. أنا مِنَ اختلاط نار البراكين بسواد الدخان. أنا في النهار (أندروميدا)، وفي الليل (ميدوسا). أندروميدا التي تَسقيك من عينيها خمرا، وفي الليل، ميدوسا التي تحوّلك إلى حجر. أنا ساحرةٌ ومشعوذة أعلمُ ما في الغيب وأكون قبيحةً وشريرة أحيانا، وفي أحيان أخرى، أكون مثلَ قطعة نقود ذهبية، سَكّها الحاكمُ الإغريقي سكاريوس الذي حكم بلدَكم يافا. أمّا أنتَ، فإنّك في مَنزلة بين منزلتين، من جهة جميلٌ ومُذهل، ومن جهة ثانية قبيحٌ وكاذب. يتعيّنُ أنْ تكونَ غامضا ومختلفا مثلي، نهارُك أسود، ومساؤُك أبيض."

وبعد الجلسة الحواريّة السّاحرة صدّته بعيدا، وطلبت منه أن يغادرَ بيتَها دون إبطاء، ودفعته بعصبيّة إلى الخارج. (ص194-196) لم يستطع التّسليم بهزيمته، فحلم بها، وأنّه قام باغتصابها بقوّة أفقدتها وعيَها وتوازنها. وعوّضَ بحلمه ما فاته في الواقع.

فيديا التي كانت في خدمة الحكيم الهنديّ، لفتت اهتمامَ يوسف بجمالها ولطفها، وأحسّ بحنين قويّ لها وهي تمسك بيده وتُعلّمه الرّقص، أحسّ وهو ممسك بكفّها والدّماء الحارّة تسري في عروقها، كأنّه يمسك عصفورا ينبض في يده. أحسّ بها. أحسّ برسائلِ الودّ التي تُرسلها إليه، باللمساتِ الرقيقة، والنّظراتِ العميقة. كان يخشى من هذه المغامرة. كان عليه أنْ يفكّرَ أكثر، وأنْ يتصرّفَ بحكمة، فلماذا تُلاحقُه نزوةُ المغامرة أينما ذهب، وحيثما حَلّ. (ص266)

المُميّز في رواية "راكب الرّيح"

"راكبُ الريح" روايةٌ تبدأ مرحلةً جديدة في إبْداع يحيى يخلف، وتختلفُ عن رواياته السّابقة بالكثير، وتتفرّدُ بــــ:

اللغة الممَيّزة، الجديدة، السّلسة المنسابة بإيقاعيّةِ الحروف والمقاطعِ ومَخارجها "غابتْ عنك. غابَ عطر. وغابت هالةُ غواية. وغاب سوادُ كُحْل، وكَرَزُ شَفَةٍ، وعقيقُ قرط، ولؤلؤٌ يُحيط بجيدِها النّبيل."(ص67). و"تدور وتدور معها عيناه، تدور لهفتُه. تتوقّفُ فجأة. تتوقّف عيناه على انفعالات وجهها، طائرُ الشباب يرفرفُ في عينيها، هالة سرور تُكَلّلُ قامتَها، فجأة، تُطلق هتافَ فرح وتكادُ تقفز وتطير، تهتف مثلَ صَهيلِ فرس، مثلَ حنينِ ناقة، مثلَ سَليلِ غزالة، مثلَ تغريدِ بُلبُلة"(ص98)، وباللغةِ الجميلة المتداوَلةِ المطعّمةِ بالتعابيرِ الشعبية (فَرْكة كعب)(ص52)

وبالتّعابير القديمة التي تزيدُ العبارة جمالا والمعاني عُمقا (مانحةٌ ومانعةٌ هي، مُقبِلةٌ مُدبرةٌ معا. محافظةٌ ومُتحرّرةٌ معا. ذاتُ عزّة وذاتُ بساط معا. عينان يرفرفُ فيهما طائر عناق وطائر فراق) (ص65).

ومزيّنةٍ باقتباسات (مشت أمامه خطوةً خطوة، كمَشْي قَطاة إلى غدير)(ص66) " ولعلّها بعيدةُ مَهوى القِرط"(ص175) " كأنّما الموتُ طحنَ المدينة بكَلْكله" "وعلى ليلٍ شديدِ السّواد يُرخي سُدولَه على خَوْف  ، ويُغْلقُ رتاجَه على فَزَع"(ص304)

وببعضِ التّعابير التي تجعل القارئ يعيشُ لحظةَ ذهول وسُكْرٍ وتَجَلّ. "بينهما كان يمتدّ حبلُ شوق ورذاذ أحاسيسَ ومشاعرَ"(ص97) "همسَتْ ووصلته أنفاسُها، رائحةَ سِواك وأراك ومسك، لأنفاسِها رائحةُ حديقة"(ص84)

وبألفاظٍ ترسمُ الحركاتِ والمشاهدَ وتبعثُ الحركةَ في كلّ شيء، "سَحرَها كلامُه، وسَحَرتها إطلالتُه، وحرّكَ شهوةً في أعماقها، وأذْهلتْها جرأةُ عينيه اللتين تطلّ منهما مخالبُ."(ص106). "فصرختْ وهي جذلى: هيّا نأكلُ، نأكلُ بأصابعنا وبأَكفّنا وبأيدينا وبرموشنا، إلى الجحيم ذلك الإتيكيت. لا نريد وساطةً بين الزّادِ وأفواهنا"(ص89). وأخيرا، اكتملَ استواءُ السّيّدةِ على أريكتها، وبدتْ كأنّها خارجةٌ من وراء المجرّاتِ ونجومِها وأقمارِها، من وراء الرّياح والبرق والرّعد والمطر"(ص93).

وتألّقت اللغة في رثاء يوسف لأمّه: "اغفري لي إنْ كنتُ نسيتُ أو أخطأت. لا ظلّ إلّا ظلّك يا أمّاه. انهضي يا سيّدةَ الرّوح. انهضي يا سيّدةَ الدّفء والطيبة. انهضي يا مَنْ قلبُك مَعبدٌ للمحبّة. انهضي يا سيّدةَ الأيائل وحوريّات النجوم. انهضي لتنهض يافا من جديد."(ص317)

وفي كلمات العيطموس ليوسف في اللقاء الأخير قبل الوداع:"أمّا أنتَ يا يوسف، فإنّك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مُدَجّن يرمح ويعدو على طريق البّحث عن الحقيقة والمعرفة من خلال الرّقش والتّزيين والتّوريق والتّوشيح والتذهيب والتّرصيع والتّزجيج والتّشجير والتّزهير، وفي طريقه البكر، يتعرّفُ على لذّة المغامرة، وحسن الغواية، ويركب الريحَ، ويعلو.. ويعلو".

"أنتَ خُلقتَ من ضلع هذه المدينة، وأنتَ عنوانُ جمالها وأساطيرها ومخزونُ ذاكرتها وتراثها، ولا عشقَ لك بعد الآن سوى عشقِ بحرِها، ومآذنها، ومعمارها، ومنارتها، وأسواقها، وأسوارها، وأبراجها، وأروقةِ مساجدها".

"عِشْ كمهر غير مُدَجّن، فأنا أيضا أرغبُ في أنْ أكونَ مهرةً متحرّرةً من العبوديّة، مهرةً خارجة إلى الأبدِ من أسواق الرّقيق، ومن عبوديّة الحَرَملك، ومن أقفاص القصور." (ص341).

الزّمن

اعتدنا في قراءتنا لرواياتِ يحيى يخلف أنْ يُعيّشَنا الزّمنَ المعيشَ في رواياته، ويصرُّ على مُرافقة الأحداثِ وتسجيلِ نَبَضاتِ الزّمن والنّاس والمواقعِ التي تطؤها الأقدامُ، لكنّنا نجده في روايته هذه "راكب الرّيح" يسرقنا ويسحبُ بنا على صَهوة الرّيح إلى زمن بعيد في التاريخ، يعود إلى القرن الثامن عشر، فترةِ الحكم العثماني وغزوِ نابليون بونابرت للبلاد. وقد يكون الكاتبُ أراد أنْ يؤكدَ حقيقةً تاريخيةً أنّ البلادَ التي تشهدُ احتلالَ الغرباءِ لها قد عرفت الكثيرَ من الغازين والمحتلين، ولكنهم هُزموا ورَحلوا، وهذا هو مصيرُ كلِّ محتلّ ظالم غريب. وكما حدث في الماضي، هكذا سيكونُ في أيامنا، وفي كلّ زمان، مصيرُ المعتدي إلى الهزيمة، والمحتلِ إلى الرّحيل.

المكانُ بطل الرّواية

تساءل الشاعرُ أدونيس: هل المكانُ يموت هو أيضا؟ هل تموتُ الأمكنةُ حقّا، كما يموتُ البشر؟ علما أنّ المكانَ ليس مجرّدَ مساحةٍ جغرافيّةٍ. إنّه بالأَحْرى مساحةٌ إنسانيّةٌ – حضاريّةٌ. أنْ يموتَ المكانُ يعني أنّ البشرَ الذين يُقيمون في هذا المكان يموتون هم أيضا أو يُميتُهم بشرٌ آخرون. ربّما يستمرُ المكانُ ظاهريّا: سطحيّا ماديّا. لكنّه يستمرُ كمِثْلِ هيْكلٍ خاوٍ، لا جوهرَ له. المكانُ مسكونٌ بموته مثل الإنسان. مسكونٌ ببُعْدٍ استئصالي يُفْرغُه ممّا هو، ويملؤه بشيء آخر. إماتَةُ المكان تعني خَلقَه من جديد، على صورة الذين أماتوه. يُخرجونه من صورته القديمة، ويمنحونه صورةً جديدةً. مُحاكاةً لانبعاث الإنسان بعد الموت."(القدس العربي 18.8.2016)

وصدمةُ المكان هذه عاشَها يحيى يخلف يوم زارَ أطلالَ بلدته سمخ بعد اتّفاقِ أوسلو وعودتِهِ للوطن. "سمخ وردة كالدّهان، سدوم أكلتها الأمواج.. بل أكلتها أسنانُ الجرّافات، سمخ بلدةٌ غيرُ مَرئيّةٍ، وهذا الذي أراه على أنقاضها تلالٌ من بيوتِ الإسمنت، تلالٌ من الأسوار التي تحجبُ البحيرة، مدينةٌ على النّمط الأوروبي. مكانُ سمخ صارتْ مدينةٌ يهوديّةٌ جديدةٌ فوق ترابها، على أنقاض بيوتها. سمخ مدينةٌ تمّ ترويضُها وتهويدُها "(نهر يستحم في بحيرة ص77/80)

وكما الأزمنةُ هكذا الأمكنةُ، تُبَدّلُ شكلَها الخارجيَ وتتآلفُ مع مُغتصبها الجديد، وتتعايشُ معه، ولكنّها تُخفي حنينا قويّا إلى صاحبها الأوّل ولا تنساه أبدا.

وإذ يرى يحيى يخلف كيف تُنتَهكُ الأمكنةَ يوميّا على طول وعرض الأراضي المحتلة، ويعملُ المحتَلُّ على مَحو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان، ويعملُ بكلّ جدّ لتغييرِ شَكلِ وصورةِ الأمكنةِ وتَبْديلِ أسمائها لتُصبحَ غريبةً على أهلها الأصليين، فتنتهي العلاقاتُ وتتقطّعُ الوشائجُ. يركبُ الريحَ ويأخذُنا إلى يافا التي عرفَتْ جريمةَ الغزو الفرنسي لها وفضيحةَ نابليون بونابرت الذي أمرَ بقتل الآلافِ من أهل يافا وتدميرِ المدينة. أخَذَنا يحيى يخلف إلى يافا ليقولَ لنا: قد ينجحُ الغزاةُ الأقوياءُ في انتهاك الأرضِ وتدميرِها وقَتلِ الناسِ وتشريدِهم. لكنّ نهايةَ كلّ محتَلٍّ مهما عظمتْ قوّتُه وسَطْوتُه إلى الزّوالِ ومَزْبلةِ التاريخ، هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في الحاضر وفي المستقبل، فلا يأسَ مع الحياة ومع الثّقةِ بالنّفس.

المكانُ في "راكب الريح" هو البطلُ الوحيدُ المستحوذُ على كلّ جوانبِ الأحداثِ والشّخصيّاتِ، فالتّوقّفُ عند العديدِ من الأماكن يتكرّرُ ويكونُ الوصفُ الرّائعُ للمشاهدِ المختلفةِ مثل:" أطَلّ السّهلُ من وراء دَغلِ الأشجار، سهلٌ تكسوه الخضرةُ والعشبُ وزهورٌ تطرّز المشهدَ كلّه، وصخورٌ وأحجار ٌكبيرةٌ نحتَتْها الرياحُ وشذّبتها، فامتلأ السهلُ بمزيدٍ من السّحر. مشت ومشى إلى جانبها، وكلما تقدّما، ينفتحُ المشهدُ على مَزيد من بساتينِ الألوان: هذا أقحوانٌ، وهذا الزعمطوط أو عصاةُ الراعي، وهذه خزامى، وتلك سَوْسنةٌ، ومن بين الأشواك، تتفتّحُ زهرةُ الخرفيش بلون زهري ساحر، وإلى جانبها زهرةُ التّرمس تُشكّلُ زهورَها تدرّجا، وتبدو مثلَ مَنارة البحر. وراء الحجارةِ زهرةُ زعفران، وخلفَ نبات الخرفيش زنبقة بريّة. وزهور الحمّيض والخبيزى والمصيص والمرّار والسنّاريّة وأوراق السرخس. زهور وألوان وشموخ، فلسيقان بعضِ الأزهار عنقُ زرافة، وعرفُ ديك، وعَيْنُ غزالة، تشرئبُّ تيجانُه ومَيْسمُها وأوراقُها، كأنها تُطلُّ من شرفة. وتزهو بجمالها مثلَ صبيّة تستغرقُ في أحلامِها. وتضربُ جذورَها الطريّةَ في التربة. وتحيطُ بها الأعشابُ النديّة"(ص57).

"القَرين" حيلة لبَلوَرة شخصيّة الفلسطيني الجديد

آمن العربي منذ الجاهلية أنّ لكلّ شاعر شيطانا يوحي له بما يقول من شعر. وفي الإسلام آمن المسلم بوجود الشيطان وأنّه عدوه المبين، كما ورد في سورة يوسف آية (5)"إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين"، وآمن بملازمة القَرين له، وقد يكون قرين خير أو قرين شرّ. وفي سورة الصافات، الآية (51) ورد ذكر القَرين "قال قائل منهم إنّي كان لي قرين". وورد في حديث للرسول قوله: "ما من أحد إلّا وُكّل به قرينُه من الجنّ وقرينُه من الملائكة".

ويوسف يعترف بملازمة قرينه له بقوله: هناك قرين يسكنني. سألتُ شيخَ المسجد الكبير، فقال إنّ لكل مسلم عفريتا من الجن يُصاحبُه، ويحلّ في بدنه، ويغويه، والجنُ الذي يسكن جسدي لا يستيقظُ إلّا في وقت الحبّ ووقتِ الحرب. والشيخُ يقول إنّ ذلك ذُكرَ في القرآن والسنّة، وإنّ القرينَ يمكنُ أنْ يكونَ من الملائكة فيدفع صاحبَه لفعل الخير فيتجنّبَ أفعالَ الشرّ، ويمكن أنْ يكونَ من الشياطين فيدفعه لعمل الشرّ" (ص163-164)

والقَرين هو الصاحبُ أو الرّفيق بل هو الذي يتطابق في الصّفات مع قرينه. وكان دوستويفسكي (1821-1881) في روايته "القرين" قد رسم هذه الشخصيةَ الملازمةَ لغوليادكين بطلِ الروايةِ، والدّافعةَ لها للقيام بأعمالٍ مختلفة.

ويحيى يخلف استخدم هذا الإيمان بوجود القرين ليكون مُنْطلقَه في خلخَلة المسلّمات التي آمنّا بها وكبّلتنا عشرات السنين، وأبعدتنا عن إمكانية الشكّ بمصداقيّة ما نحن عليه، أو لنُعْطي أنفسَنا إمكانيّة التجريب لسُبُل جديدة لتحقيق أهدافنا وبناء مستقبلنا. يحيى يخلف يريد أنْ يقول إنّنا تصرّفنا وعملنا في الماضي منقادين بإرادتنا المشلولة وعقلنا المعطّل ورؤيتنا المحدودة، وكان قرين يقودنا ويُحدّد لنا مَسيرَنا. وآن لنا الآن، بعد كلّ ما أصابنا أنْ نتخلّص من قريننا ونملك مصيرَنا وقدرتَنا ونعملَ بإرادتنا الحرّة.

وكما رأينا في الرّواية لازَم القَرينُ يوسف، وكان مَصْدرَ القوّةِ الهائلة التي عُرف بها، وسببَ تميّزهِ وتفوّقه على كلّ زملائه في القفز للماء وغير ذلك. كذلك كان القرينُ وراء انتصارِ يوسفَ على جند الانكشاريّة بقَتلهم جميعا. وكذلك كان وراء القُبلةِ الحارقةِ خدّ الجارية الجميلة، ومن ثم مُلاحقةِ الفَهد وصَرعه، ومقارعةِ جندِ نابليون والتّنكيلِ بهم.

لكنّ استعمالَ القوّةِ المفرطة بغير تَفكير وتقديرِ العواقبِ أدّى إلى الحُكمِ على يوسفَ بمغادرة يافا والابتعادِ عن بلدته وأهله وأحبّائه. ممّا جعله يقف على خطإ تصرّفه واستخدامه القوّة، فقرّر التّخلصَ من هذا القرينِ الذي في داخله ليكونَ الإنسانَ العاديَّ البسيطَ الذي يفكّر برويّة، ويتّخذ قراره بعيدا عن تأثيرات غير محسوبة وقد تعود عليه بالضّرر. وبالفعل اهتمّ بالوصول إلى الحكيم الهندي الذي ساعده في ذلك، وجعله يفكرُ أنّ طريقَ استعمالِ القوةِ غير المحدودة المتهوّرةِ توصلُ للدمار، ولا خيرَ من طريق اتّباع السلام ونشرِ المحبّة وروحِ التّعاون بين الجميع. وقد أسهب الحكيم ساعة لقائه بيوسف في شرح رسالتَه في "دفاعه عن الشرق وحكمتِه وقيَمِه وعلومِه وثقافته في مواجهة التوحّش الغربي"(ص234) قائلا "نحن لدينا رسالةٌ، رسالةُ محبّة ومساواة وسلام. نحن نُبشّرُ بالأخوّة والمحبّة بين بني البشر، فالناس في دينِكم هم عيالُ الله. وهذه الأرضُ التي يتقاتلون عليها هي أرضُ الله، والبلادُ في الشرق والغرب هي ملكُ الخالق، وهو الذي يرثُ الأرض وما عليها يوم القيامة. رسالتنا للغرب الذي يغزو الشرقَ ويأتي إلينا ليستعبدَنا وينهبَ خيراتنا ويذلَّ حضارتنا وأدياننا ومعتقداتنا، رسالتنا بمثابة اليد الممدودةِ له للسلام والأخوّةِ من موقع الندّ والتّكافؤ"(ص241)

صعُبَ على يوسف بعد أن رأى ما فعل جندُ نابليون بيافا وأهلِها وباقي البلاد أنْ يتسامحَ مع عدوه، ورفضَ دعوةَ الحكيم للمصالحة قائلا:

- لا كلامَ ولا صلح مع مَن ذبحوا والدي وأهلَ مدينتي.

فجاء جوابُ الحكيم هادئا مقنعا: هذه البلاد تدفعُ ثمنَ موقعها في قَلبِ العالم. وتدفع ثمنَ قداستِها، فمنها انطلقت الرّسالاتُ السّماويّة، ولقد عبَرها حكماءُ وحاملو قناديلَ معرفة، وعبرتها رماحٌ وسيوفٌ ومنجنيقات. لكنّ غُزاتها مضَوْا وعبرُوا تاركينَ عمائرهم أطلالا. وهذه المدينةُ يافا تعرّضت لغزوات على مدى القرون، ومذابحَ لا تُحصى، وستتعرّض لغزوات أخرى في القرون القادمة، طالما أنّ الظلمَ قائمٌ، والقلوبَ سوداء" وختم كلامَه متوجّها إلى يوسف: "يا بنيّ، علينا أنْ نُخاطبَهم ونتحاورَ معهم بلغة الحكمة، لعلّنا نلتقي معهم عند منتصف الطريٌق" (ص331-332).

التّناغم التّاريخي بين الحاضر والماضي

مَن مثلُ يحيى يخلف يعرفُ مأساويّة الرّاهن العربي الذي نعيشُه؟

ومَن مثله يُدرك أثرَ هذا الواقع على إفْقاد الفلسطينيّ كلّ أمل له في تحقيق حلمه وأمله بدَحْر الاحتلال وقيامِ الدولة الفلسطينيّة العَتيدة التي قاتل لأجلها؟

لكنّ جذوةَ المبدع، ورُؤيا الثوريّ، وثقةَ المقاتل بعَدالة قضيّته، وقدرتَه على تحقيق الهدف، تدفع ُكلّها بيحيى يخلف نحو التّفكير الهادئ الرّزين، والتّبصّرِ بواقع الحالِ وصيرورةِ المستقبل، ومِن ثم الاندفاع نحو الماضي البعيد والقريب لاستخلاصِ التّجارب والعبر.

"التاريخُ يُعيد نفسَه" جملةٌ يتيمةٌ تتكرّرُ وتُستعادُ كبدهيّة مقبولة. ومثلها: "لا ظالمَ باقٍ" و "لا دولةً خالدة" و "الزمن دوّار يوم إلك ويوم عليك".

تعابير نُكرّرها ونستشهدُ بها، وكثيرا ما نسخرُ منها. ولكنّها في المحصّلة بنتَ تجاربِ الشعوب، استخلصتها وصاغتها بالكلمات الموجزة الرّصينة.

ويحيى يخلف وصل إلى القناعة الثّوريّة الواعية: أنّ الحقَّ لا يموت، لكنْ حتى تصلَ إليه وتنالَه عليك أنْ تكونَ حكيما، وإن لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإن واجهتَ المستحيلَ فلا تيأسْ، وغيّر من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوة تهوّرا يوصلُ للدمار، ففكرْ بإعمالِ فكرك في اتّباع الحكمة والتّروي.

هكذا ركبَ يحيى يخلف الريحَ، وحلّقَ بعيدا في الزّمان والمكان، يرصدُ أرضَ الوطن ويتابعُ حركاتِ الجيوش الزّاحفة والأخرى المنهزمة، وقَتْلَ وتشريدَ الناس، وتدميرَ بيوتهم وبلادِهم. فنزل في مدينة يافا، وكانت ككلّ البلاد يومها، أواخر القرن الثامن عشر، تدينُ للحكم العثماني وتخضعُ لظُلم جُندِ الانكشاريّة. وشهد الجريمةَ التي اقترفها نابليون بونابرت بحقّ أهلها حيث قتل الآلافَ ودمّرَ البيوتَ وحرق الزّرع .

وعاد راكب الريح بعد طوافه لواقع الحاضر، ووجدَ أنّ الامبراطوريةَ العثمانية انهزمت، و جُندَ الانكشاريّةِ اختفَوْا منَ الوجود، وغيّبتِ الأيامُ والسّنونُ والتاريخُ نابليون، وظلّت يافا قائمةً، وعادت لتكونَ عروسَ حوضِ البحر الأبيض المتوسط ودرّةَ فلسطين، وعاد أهلُ يافا ليزاولوا حياتَهم ويُقيموا الأفراحَ ويرقصوا ويغنّوا ويحلموا بمستقبلٍ أجمل.

"لا ظالمَ باق" و "التاريخُ يكرّر نفسَه" ولا دولةً خالدة". والتاريخُ عِبرٌ ودروس.

ويحيى المبدع الثوري المتفائل يستخلصُ العبرَ، يركبُ الريحَ ويعودُ من الزمن البّعيد ليحطّ في رام الله وهو أكثرُ ثقةٍ بالآتي.

الاستفادة من الآداب العالميّة والأساطير

الجوُّ السّحريُّ الخيالي المأخوذُ من أجواء "ألف ليلة وليلة"، واللغةُ السّلسةُ الجميلةُ المشحونةُ بالعواطف والحنين والحبّ، والحسانُ اللاتي التقينا بهنّ كالعيطموس الفاتنةِ الجمال المُستعارةِ من حوريّات الجنّة التي تقودنا إلى "أندروميدا" الجميلة ابنة كيفاوس ملك مدينة يافا وكاسيوبيا. وكيف أدّى تكبّر كاسيوبيا إلى أن تتباهى بأنّ ابنتها أندروميدا أجمل بكثير من حوريات البحر، أرسل بوسيدون إله البحر وحشَ البحار لتدمير المدينة كنوع من العقاب الإلهي. وفي محاولة لاستلطاف الوحش، قيّدَ الملك كيفاوس ابنتَه أندروميدا على الصخور كقربان، وقبيل أن يتمكن الوحش من اختطاف الأميرة، نزل البطل بيرسيوس من السماء على حصانه المجنّح وأنقذها من الموت وتزوّجها. (ويكيبيديا) وذات السنّ الذّهبيّة المتحديّةُ الرجالِ وقاتلتهم، تأخذنا مباشرة إلى أسطورة "ميدوسا" الجميلة التي مارست الجنس في معبد اثينا فأغضبتها وحولتها إلى امرأة بشعة المظهر كما حوّلت شعرَها إلى ثعابين، وكلّ مَن ينظر إلى عينيها يتحوّل إلى حجر. (ويكيبيديا).

وبتلك الجلسات العاطفيّة التي أقامتها العيطموس بحضور يوسف حيث تختار في كل جلسة مَن تروي حكاية رجل عشقَ امرأةً، وكاد يفقدُ حياته بسبب هذا العشق. (ص103-115) تأخذنا إلى قصص "الديكاميرون" المشهورة.

كما أنه اعتمد على الفلسفة القديمة والهنديّة خاصة كما وردت على لسان العيطموس حول القبلة التي تعتبر عند الهندوس مَدخلا إلى اللقاء الحميم الذي يمثّل نقاء للروح، وصفاء للذهن. وتعني السموّ الروحي ولها أنواع مختلفة. (ص165) وفي حديث الحكيم الهندي الذي علّمَ يوسف كيف يتخلّصُ من قرينه، الذي هو الطاقةُ الكامنة في الإنسان، باعتماده على الحكمة والعقل والتّمارين (ص269-271).

ورغم كلّ ما قلنا يظلّ الكثير

رواية "راكب الريح" جاءت بأسلوبها الجديد، وبنائها، رغم كلاسيكيّته، يوهمُنا بجديد لم يُطرَق بخَلط الأجواء والتّلاعب باللغة والزّمان والمكان وتقابل الشخصيّات. وفي "راكب الريح" نُحلّق بعيدا في الأعالي لنراقب كلّ ما كان وقائم ونفكّر بكل ما يجب أن يكون. نستذكر الماضي ونستشرف الآتي.

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

في المثقف اليوم