دراسات وبحوث

رجاء موليو: عقيدة الصلب والفداء

العنصر الثالث من عناصر العقيدة المسيحية هو صلب المسيح فداءً عن الخليقة. ويتساءل المرء كيف يمكن أن يكون المسيح إلهاً ويصلب؟ ولا شك أن جميع المصادر المسيحية ما عدا البروتستانت ترى في صلب المسيح مسألة من مسائل العقيدة المسيحية الأساسية.

وعند الرجوع للمصادر الأولى للمسيحية نرى أن بولس الرسول أتى بأمور لم يأت بها غيره. فقد جعل مسألة الإيمان ترتكز على صلب المسيح رباً وإلهاً فقال مثلا: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ»[1]، حيث يعتبر الرسول بولس أن الصليب جوهر المسيحية فيركز عليه قائلاً: «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا»[2] أي أن الأمر الوحيد الذي يريد معرفته هو الصليب[3].

«إن وفاة عيسى على الصليب هي عصب كل العقيدة المسيحية. إن كل النظريات المسيحية عن الله، وعن الخليقة، وعن الخطيئة، وعن الموت، تستمد محورها من المسيح المصلوب»[4].

وعليه فإن المسيحية التي تقول بصلب المسيح الإله، قد غالت كثيراً وخصوصاً أنها تصر أن الإله المسيح قد صلب. ولو أنها قالت بصلب المسيح النبي لكان أمرً مستساغا، باعتبار أن اليهود تاريخهم معروف بقتل الأنبياء والتنكيل بهم، فهذا أمر يتناقض مع إيمان المسيحية بقدرة المسيح الغير المحدودة؛ باعتباره أنه إله قوي وجبار. فالذي ترتكز عليه المسيحية هو الهدف من الصلب والغاية منه ألا وهو أمر مقدس في حد ذاته. ويمكن حصر هذا المعتقد المقدس لدى المسيحيين في كونه قد جاء ليصلب ويخلص البشرية من الخطيئة، أي ما يعرف باسم المخلص الذي يقدم نفسه فداءً ليحمي البشرية ويفديها ويمحو خطيئتها.

"إن الله من صفاته المحبة. ومحبة الله ظهرت في تدبيره طريق الخلاص للعالم؛ لأن العالم- من عهد سقوط آدم عليه السلام في الخطيئة وهبوطه هو وبنيه الدنيا – مبتعد عن الله بسبب تلك الخطيئة، ولكن الله من فرط محبته وفيض نعمته، رأى أن يقربه إليه بعد هذا الابتعاد، فأرسل لهذه الغاية ابنه الوحيد في العالم ليخلص العالم"[5].

وهكذا فإنهم يزعمون أن في صلب المسيح خلاص للعالم أجمع من خطيئة أبيهم آدم عليه السلام. "وصور لهم أن صلب المسيح كان فداءً للبشرية كافة وتكفيرا لخطاياهم، وأن هذا الصلب في نظره هو الهدف الحقيقي لرسالة المسيح (عليه السلام) التي جاء من أجلها إلى الأرض، فلم تخلو أي رسالة من رسائل بولس من ذكر هذه الحادثة المركزية وشرح تفاصيلها"[6] «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيبًا يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ»[7]

وهنا سنعرج لنرصد خبث المكيدة المدبرة للنبي عيسى عليه السلام والتي أشادت بتكون عقيدة الصلب.3779 الصلب في المسيحية

نفث الشيطان في صدور بني إسرائيل، فملأها حقدا وغلا وكرها لعيسى ابن مريم -عليه السلام-فقرروا ضرورة التخلص منه؛ فكان من أمرهم أن اجتمع كهنة إسرائيل وشيوخها لتدبير مؤامرة دنيئة؛ انتهت بقرار قتله لأن تعاليمه هزت عرش سلطانهم المبني على الغش والفسق، والفساد والرياء، والمكر والظلم. فكان التدبير للمؤامرة بالصلب حتى القتل هو أسهل وأبلغ مسلك للقضاء نهائياً على رسالته؛ مستعينين بأعدائه وأعداء تعاليمه فقاموا بالبحث عنه ووشوا به مقابل دنانير.

وقد استطاع اليهود أن يأثروا على بيلاطس فأمر بالقبض على عيسى: »وأحس عيسى بذلك فاختفى مع حوارييه في حديقة جثيماني Gethmane ، ولكن يهوذا الإسخريوطي أحد الحواريين تقدم للكهنة وساومهم على تسليمه للرومان نظير ثلاثين قطعة من الفضة، وقاد يهوذا جند الرومان حيث قبضوا على عيسى، ودفع اليهود بيلاطس[8] فحكم عليه بالموت صلباً، ونكل به الجنود الرومان ثم صلب حتى مات ودفن، وبعد ثلاثة أيام أمضاها في القبر قام في الفصح ومكث أربعين يوماً مع تلاميذه خاصة، ثم ارتفع إلى السماء أمامهم بعد أن أوصاهم بالجد في نشر دعوته باسم الأب والابن والروح القدس«.[9]

نفس الطرح ذهب إليه الكاتب "يوحنا لورنس فان موسهيم" في كتابه تاريخ الكنيسة المسيحية بقوله: "فلا تهمة من هذه التهم كافية لتقنع قضاة مستقيمين عادلين بأن يحكموا عليه لكن صياح الشعب المهيج بالكهنة المنافقين أجبر بيلاطيس على أن يحكم عليه بالموت"[10]

«وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ».[11]

لكن إرادة الله وعنايته برسله كانت مع المسيح عليه السلام، فقد ألقى الله الشبه على أحد الخونة الواشين به وهو يهوذا الإسخريوطي، وهو من أحد تلاميذ المسيح إلى الحاكم فألقى الجنود القبض عليه وحوكم وصلب؛ أما النبي فرفع إلى الله جل شأنه.

والذي أراه بصدق أن العقيدة المسيحية التي تقول بأن المسيح عليه السلام صلب من أجل الخليقة، فنجد أن مسألة الصلب كانت بيد الحاكم بعد المكر والخداع الذي افتعله اليهود للإطاحة به وقتله، والقضاء بذلك على تعاليمه. فلو كان الأمر كذلك لما صلب المسيح بسبب تعاليمه المناقضة لبني إسرائيل، والأحق أن صلبه وقتله جاءاً رداً على خروجه عن دينهم وتعنتهم وضرباً في غيهم وكفرهم الذي نهجوه بعد موسى عليه السلام، وأن عقيدة الصلب جاء بها المسيحيين بعد موت عيسى عليه السلام حتى يضفوا طابع القداسة ويبرروا قضية الصلب الذي تعرض له نبيهم، معلقين عليه جميع ذنوبهم وأنهم بفضله نالوا العفو من الرب والخلاص. وجاء في التوراة ما يؤكد إلغاء عقيدة الصلب من أجل غفران خطايا الآخرين: «لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ».[12]

فعقيدة الصلب المسيحية عقيدة بشرية من صنع فكر بشري، وليست عقيدة ربانية منزلة.

"نفى القرآن –بحق وصدق-القتل عن سيدنا عيسى يقول تعالى: ﴿وما قتلوه﴾[13]، ونفى القرآن الكريم- بحق وصدق- الصلب عن سيدنا عيسى، فما الصلب إلا بيان لكيفية القتل، وإذ لم يمت المسيح على الصليب يصح قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وما صلبوه﴾[14]، ولا يجدى في محاولة تكذيب المكذبين للقرآن الكريم شهادة شهود العيان أو وجود تواتر.[15]

وهكذا كانت نهاية عيسى عليه السلام، أن تولى الله رفعه وسلمه من كيد أعدائه حين قال:

﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيماَ﴾[16]

أما الرفع فكيف كان وبأية طريقة وقع، فلا فائدة للبحث فيه، لأن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، كما يدعي اليهود، فالأمر بيده تعالى، قادر على نجاته بأي شكل لا يعجزه ذلك، ولو وقع القتل والصلب لأخبر الحق بذلك، وقد ذكر أن بني إسرائيل قتلوا من قبله الرسل والأنبياء حين قال[17]:

﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون﴾[18].

وخلاصة القول فإن القرآن الكريم جاء بالحق والقول السديد في قضية الصلب، فالمسيح عليه السلام رفع بأمر رباني إلى السماء ولم يقتل كما يردد أعداء الله من اليهود والنصارى، ويبين كذلك أن عيسى عليه السلام لم يصلب كما جاء في الإنجيل من أجل التكفير عن خطايا الآخرين } عقيدة الفداء}، بل رفع لأمر رباني فيه حكمة نحن البشر لا دخل لنا في الخوض فيها، بل نتقبلها كما جاء بها القرآن الكريم بدون تأويلات أو زيادات تُدخل العقل البشري المحدود في متاهة الشك والضلال والتحريف.

***

رجاء موليو

طالبة بسلك الدكتوراه/تخصص التاريخ والتراث/ جامعة ابن طفيل-المغرب

......................

[1] - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية: 6/14.

[2] - رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: 2/2.

[3] - العقيدة النصرانية بين القرآن والأناجيل، حسن الباش، دار قتيبة، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1421ه-2001م، ص: 151.

[4] - مسالة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء، أحمد ديدات، دار الفضيلة، ص: 10.

[5] - العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى وموقف الإسلام منها، خالد الرحال محمد صلاح، دار العلوم العربية بيروت- لبنان، ص: 213. / العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى وموقف الإسلام منها، خالد الرحال محمد صلاح، دار العلوم العربية بيروت- لبنان، ص: 213.

[6] - المسيحية دين الله الذي أنزله على المسيح أم هي ديانة بولس؟، نبيل نيقولا جورج بوخاروف، الطبعة الثانية 2007، ص: 63.

[7] - العبرانيين: 9/22.

[8] - بيلاطيس: كان يلقب بالبنطي وهو وال من قبل الحكومة الرومانية على اليهود سنة 29م، واستمر حكمه بعد انتهاء دور المسيح بضع سنين، واختلفوا في موته فقيل: انتحر نفسه، وقيل: أقيل من منصبه ونفي إلى فرنسا ومات هنا. من كتاب دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند لمحمد ضياء ص: 299.

[9] - المسيحية، أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة العاشرة 1998، ص: 105-106.

[10] - تاريخ الكنيسة المسيحية القديمة والحديثة في ست كتب، يوحنا لورنس فان موسهيم، ص: 15.

[11] - إنجيل لوقا: 23/33.

[12] - سفر التثنية: 24/16.

[13] - سورة النساء، الآية :157.

[14] - سورة النساء، الآية :157.

[15] - أخطر المناظرات هل مات المسيح على الصليب، مناظرة بين الدكتور أحمد ديدات والبروفيسور فلويدكلارك، ترجمة علي الجوهري، دار البشير القاهرة، ص: 166.

[16] - سورة النساء، الآية :156-157-158.

[17] - أصول المسيحية كما يصورها القرآن الكريم، داوود علي الفاضلي، مكتبة المعارف للنشر، ص: 107.

[18] - سورة البقرة، الآية: 87.

 

في المثقف اليوم