تجديد وتنوير

ماجد الغرباوي: جاهلية المجتمع .. جريمة الخطاب الديني المتطرف

ان تكفير المجتمعات المسلمة جريمة كبرى، لا ترتكز لأي أساس ديني، سوى رؤى واجتهادات شخصية مشحونة بخطاب عاطفي .. رؤى تخالف أبسط قيم الدين الحنيف

 طالما نظّر الاسلاميون لمفاهيم ورؤى تشبّعت بكراهية الآخر وتكفيره، والتخطيط للاطاحة بكل منجزاته. فسيد قطب، مثلا،نظّر بكثافة مروّعة، لمفاهيم خطيرة كانت وراء اقتحامالموت والاستهانة بالحياة، وعدم التفكير بتداعيات الفعل الارهابي على مستقبل المسلمين والعقيدة الدينية، كفهوم الحاكمية الالهية التي أدان بموجبها جميع الحكومات، وبرر اسقاطها بالعنف. وكذلك مفهوم جاهلية المجتمع، ذلك المفهوم الخطير الذي أدان به جميع الشعوب المسلمة، واعتبرها (جاهلية)، منبوذة، يجب تقويمها ولو بالقوة، من هنا تجد المتطرفين في ممارساتهم للقتل لا يكترثون لحيثية الانسان ولو كان مسلما. فسيد قطب إذاً لم يكتف بتكفير الحكومات والانظمة السياسية الحاكمة، وانما شملت ادانته كافة المجتمعات الاسلامية. يقول في كتابه معالم في الطريق: (نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الاسلام او أظلم. كل ما حولنا جاهلية. تصورات الناس وعقائدهم، عادتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم، وآدابهم، شرائهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة اسلامية، ومراجعة اسلامية، وفلسفة اسلامية، وتفكيرا اسلاميا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية)1. فهي مجتمعات مدانة (بنظر سيد قطب)، لا تتصف بصفات اسلامية، وعليها العودة الى الاسلام، والاقرار بعقيدة لا اله الا الله بمدلولها الحقيقي الذي يعني (لا حاكمية الا حاكمية الله) كشرط اساس لاسلامها، والا فتشملها أحكام الجاهلية، مما يبرر هجرتها وربما قتالها حتى تفيء لامر الحاكمية الالهية.

يقول سيد قطب: (كذلك ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة- حتى لو كانوا يدّعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون!- يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو "أولاً" إقرار عقيدة: "لا إله إلا الله" - بمدلولها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله). كما يجب عليهم تحمل مسؤولياتهم (وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحـق لأنفسهم، إقرارها فـي ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم)2.

ولا يخفى مدى خطورة مفهوم المجتمع الجاهلي كما ينظّر له سيد قطب في مؤلفاته التي تشكل رؤية دينية سياسية تنظيمية يعمل في اطارها "الاخوان المسلمين"3، التنظيم السياسي الذي كان ينظـّر له سيد قطب خاصة. فتصوّر هل يمكن قيام مجتمع متسامح في ظل خطاب تكفيري يعتبر المجتمع الاسلامي الراهن، مجتمعا جاهليا تجري عليه احكام الجاهلية ابان الدعوة الاسلامية؟ أي يجب التعامل معه على أساس انه مجتمع كافر معاد للاسلام والرسالة، سلوكا وعقيدة. فسيد قطب يرى: (إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة ، وفيما لم يأذن به الله .. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده وما مهانة الإنسان عامة في الأنظمة الجماعية، وما ظلم الأفراد والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم الرأسمالية إلا أثرا من آثار الاعتداء على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان)4.

لكن الأخطر – كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي- ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة (التكفير) والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من كتاب (في الظلال القرآن) ومما أفرغه في كتابه (معالم في الطريق) أن المجتمعات كلها قد أصبحت (جاهلية). وهو لا يقصد بـ (الجاهلية) جاهلية العمل والسلوك فقط، بل (جاهلية العقيدة). (إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترض بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم)5. ويضيف: (وهذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب، يمكن أن نسميها مرحلة الثورة الإسلامية، الثورة على كل الحكومات الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل المجتمعات الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية. فالحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية. تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة، لأنهم أسقطوا حاكمية الله تعالى ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج مجتمعات الإسلام، فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام؟!. بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن لا إله إلا الله منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة)6.

فهذا النمط من الخطاب لا يؤسس ولا يساعد على وجود مجتمع متسامح، بل ينتج حركات اسلامية متطرفة تستبيح قتل المسلم قبل غيره. وهذا ما نشاهده اليوم من تبنٍّ كامل لهذه الافكار من قبل الحركات الدينية الاسلامية المتطرفة (كداعش واخواتها). وبالتالي ما لم يتم نقد هذا الفكر وتفكيكه ومناقشته وبيان نقاط ضعفه وتحديد المرجعيات التي تمت وفقها هذه القراءة، ليس هناك تفاؤل بقيام مجتمع متسامح. بل يتفاقم هذا الفهم وتتطور هذه القراءة لتتجذر داخل الفكر الديني الى درجة يصبح الفكر المضاد، فكرا منحرفا ضالا كافرا. فكيف يمكن التعايش آنئذ بين الأفكار والعقائد والأديان المختلفة؟.

ان تكفير المجتمعات المسلمة جريمة كبرى، لا ترتكز لأي أساس ديني، سوى رؤى واجتهادات شخصية مشحونة بخطاب عاطفي .. رؤى تخالف أبسط قيم الدين الحنيف الذي ضمن لغير المسلم حرية العقيدة فكيف بالمسلمين، وكان رسول الله يكتفي بشهادة الشهادتين كي يُصان دم المرء، وعِرضه وماله. من هنا يبنغي الحذر في التعامل مع هذا اللون من الخطابات المضللة.

 ***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

.....................

 * - بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص 290- 293.

 1- معالم في الطريق، مصدر سابق، ص 19.

 2- المصدر نفسه، ص 35.

 3- وتمثلهم الان جميع الحركات الاسلامية المتطرفة، كداعش والقاعدة وغيرهما.

 3- معالم في الطريق: المقدمة.

 4 - شبكة اسلام أون لاين، مذكرات الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة الثانية: وقفة مع سيد قطب. وانما اخترنا القرضاوي، رغم وجود هذه الافكار في كتب سيد قطب واضحة وجلية، باعتباره شاهدا عليها، وقد ناقشها ورد عليها من داخل الوسط التنظيمي ذاته الذي ينتمي اليه سيد قطب. فهو شاهد غير منحاز ولا مشكوك في عدالته من هذه الجهة. وقد صنف كلام قطب على المرحلة الثورية..

 5- المصدر نفسه.

في المثقف اليوم