أقلام ثقافية

عولمة ومَأثمة!!

العولمة فكرة إنطلقت مع بدايات القرن الحادي والعشرين لتعصف في أرجاء الدنيا، وهي في إتساع مضطرد، وتأثيرات خطيرة على الحياة البشرية بكافة تفرعاتها ومستوياتها، فجميع المخلوقات الموجودة فوق التراب أصابتها العولمة وفعلت فيها ما فعلت.

والعولمة في جوهرها أن يكون الدماغ عضوا في المجتمع العالمي، أي أن يتحرر من الإنضغاط والإنغلاق ويشارك الدنيا بمسيرة الحياة، لأنه قد صار يمتلك تأثيرا خارج حدود مكانه وزمانه، وهذا يعني أن الدماغ عليه أن يمتلك مهارات التواصل مع أدمغة الدنيا.

وهذه تجربة جديدة ومفاجئة أصابت الوجود البشري بمقتل، خصوصا في مجتمعات الأدمغة المغلقة ، والمبرمجة وفقا لآليات متكررة، تحرمها من التطور والتفاعل مع عصرها، فالعديد من المجتمعات كانت صاحبة أدمغة تعيش في العتمة، وفجأة وجدت نفسها في نور ساطع شديد، فأصابها العمى والتشوش والإنبهار والإنصداع بالأنوار، ويمكن تشبيهها بالخفاش الذي داهمت كهفه الأظلم عواصف شديدة أرغمته على الخروج في وضح النهار، فراح يتخبط في طيرانه ولا يعرف إلى أين يهتدي.

والمشكلة أن المجتمعات التي رفعت رايات العولمة قد وردتها تدريجيا، بينما المجتمعات الأخرى سقطت فيها بغتة، مما تسبب في تفاعلات سلبية وعجز فاضح على التكيف والتآلف والتواصل مع معطياتها، وما تفرضه من قوانين سلوكية وآليات نفسية وإدراكات جديدة، لنقل الوعي إلى درجة المعرفة الإنسانية المعبّر عنها بالعمل العولمي.

وهكذا ترانا اليوم في مجتمعات بعض أبنائها قد جاهدوا في عولمة أنفسهم، وآخرين إندحروا في خنادق أدمغتهم المبرمجة على مدى قرون، فتجدهم مكبلين بالأفكار الكارهة للنور، ومندحرين برؤى وتصورات تتحكم في سلوكهم ومواقفهم ووعيهم لما حولهم.

ويبدو أن الإندحار الدماغي نوع من الوسائل الدفاعية اللازمة، للحفاظ على كيان الذين لا يمتلكون قدرات التواصل مع العولمة، بكل ما تقتضيه من طاقات وقدرات نفسية وفطرية وعقلية وروحية وسلوكية ومهارات تفاعلية.

وما يحصل في المجتمعات التي عجزت عن المواكبة والوصول إلى مدارات العولمة، أنها إنغلقت وإزدادت تخندقا في آلياتها البالية، والتي توارثتها عبر القرون بذات الرتابة والمفردات، المقرونة بأحداث وقصص وروايات ذات طاقات إنفعالية شديدة، وشحنات عاطفية متأججة ومتقدة دوما، حتى صار من الصعب عليهم الخروج من معتقلات أدمغتهم الحندسية، مما تسبب في تداعيات مريرة وتواصلات إنتحارية مروعة ، وكأنها في مسيرة إنقراضية ذات طبائع ديناصورية.

ولهذا تبدو المجتمعات المقفولة دماغيا، قد ترجمت مفاهيم العولمة وآلياتها، بأساليب عدوانية دفاعية، وأمعنت إغراقا في ظلماتها، حتى لتجدها وقد إزدحمت بالوحوش البشرية المدججة بالعواطف السلبية الخانقة، التي طلقت العقل بالثلاث منذ عشرات القرون!!

ولابد لهذه المجتمعات أن تستيقظ، وتتمكن من ولادة نفسها وترى عصرها، وتتعلم مبادئ وقيم ومعايير العيش المشترك مع بني الإنسان، في عصر إندلع ما فيه، فانتصر على المكان والزمان، وألغى المسافات!!!

 

د-صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم