أقلام ثقافية

الوسطية والإعتقاد!!

وسط الشيئ: ما بين طرَفَيه.

"وجعلناكم أمة وسطا" أي عدلا وبعضهم قال خيارا، "وكان من أوسط قومه أي خيارهم"

ولا توسط في الإعتقاد مهما كان نوعه وطبيعته، علمية إجتماعية دينية وسياسية وغيرها الكثير من المعتقدات المنتشرة عند البشر.

فالإعتقاد بشيئ لا يمكن التحرر منه أو التحلل، وإنما تتحقق الحياة وفقا لمعطياته وإملاءاته ومناهجه، وما ينجم عنه من تفاعلات متوارثة وراسخة في الأعماق، ومؤهلة لبرمجة السلوك البشري المتصل بها أو به.

وفي الأديان والمذاهب والمدارس الإعتقادية لا يوجد ما يسمى وسطا، بمعنى الوقوف في الوسط، وعدم الميل لناحية أخرى أو ما نسميه بالتطرف، ذلك أن واقع أي إعتقاد إنما يتأكد بالتمسك بما يشير إليه ويميزه عن غيره، ويمنحه صفاته وملامحه وعناصره، التي يوظفها لديمومته وتواصل صيروراته المتنامية عبر الأجيال.

وكل فكرة لابد لها من قوة تؤكدها لكي تكون، فالعالم بجوهره وجود متطرف، والأرض موجود متطرف في بقعة كونية نائية مجهولة المصير، وما يدور فيها ينعكس فينا ونترجمه بسلوكنا اليومي المتوافق مع نبضات سلوكها ودواعيه المتنوعة.

والمجموعات الشمسية والكيانات الكونية المطلقة إنما هي كينونان متطرفة، ومنغلقة في آليات دورانية إنجذابية محكمة، لا تسمح بأي خلل في موازينها وتواصلاتها الممعنة بالإنعزال المطبق.

فلا وجود ما هو وسطي في جوهر الصيرورات القائمة في أي جرم كوني مهما صغر أو كبر، فالميل لفكرة يصنع الحياة ويمنحها طاقات التفاعل المتجدد، والتوسط يوقفها عند حالات لا تعرف التفاعل الشديد اللازم لولادات أخرى ضرورية للتطور والرقاء.

والمجتمعات التي أدركت جوهر القوانين الكونية ومعادلات الصيرورات الحية وحقائق الدوران والتطور والرقاء، تعرف جيدا بأن التوسط لا يتفق مع إيقاع إرادات الأكوان، وأن لا بد من تحقيق صياغات الدوران في أفلاك ومجموعات متوافقة، تساهم في الحفاظ على كياناتها الحية، وتشارك في بناء الوجود الأفضل لها ولغيرها من الكيانات.

وقد سعت في هذا الإتجاه اليابان منذ بدايات القرن العشرين، وأدركت حقيقة أن يكون الإنسان كما هو، وعليه واجب أن يقدم للحياة ما يحمله من قدرات إيجابية وطاقات بنّاءة، ولا قيمة لما يراه ويعتقده إلا بقدر ما يمكّنه من التعبير عن الدور الإيجابي في الحياة.

وعلى هذا المنهاج مضت الدول المتقدمة كافة في الأرض، وأقامت عقدها الإجتماعي الذي لا علاقة له بأي معتقد أو دين، وإنما هو عقد لبناء وطن وصناعة حياة تحقق المصالح المشتركة، وتحافظ على سيادة وعزة الوعاء الذي تتفاعل فيه جميع المعتقدات، لأنها لا قيمة لها إذا تحطم وعاؤها وإنسكب ما فيه من مكونات.

وهذا يعني أن دعوات الوسطية لا قيمة لها ولا معنى، وتناهض الطبيعة السلوكية وتتعارض مع إيقاع الصيرورات الكونية الدائبة، وعليه فأن من الواجب إسقاطها، والتحول إلى تفكير آخر، أساسه التعايش والمشاركة في صيانة الوعاء الوطني وتعزيزه وتقويته، وليعتقد كل مواطن بما يعتقد ويرى، بشرط أن لا يضر بمصالح الوطن في حاضره ومستقبله، وأن يكون طاقة بناء وإعمار وعطاء وإبداع وإجتهاد، لتحقيق أعلى درجات الإنتاج المعرفي الإنساني، بما يترتب عليه من عطاءات مادية وفكرية وثقافية وإجتماعية وإقتصادية وزراعية وعمرانية.

وبعد أن يدرك جميع المواطنين ما عليهم من واجبات وعندهم من حقوق، ويساهمون في البناء والإعمار والإزدهار، ويضبطهم دستور وقوانين، عندها ستجدهم قد تفاعلوا بقوة الإنسجام والمصالح المشتركة، حتى تأتي أجيال لا ناقة لها ولا جمل بما كان يعتقده آباؤهم وغيرهم من الذين سبقوهم.

أما توجهات الإنغلاق على الأفكار والمعتقدات، ومحاولة تغيير رؤية أصحابها، والتي ربما تعني محاربتهم أو معارضتهم، فأنها تزيدهم إصرارا على التمسك بها، والتحول إلى موجودات سلبية تستنزف طاقات الأجيال.

فلا توسط في الإعتقاد، وليعتقد بما يعتقد مَن يعتقد، وليكن لكل إعتقاده ويكون للجميع وطن يحافظون عليه وعلى مصالحهم فيه، وبهذا يتحقق بناء الحياة المعاصرة، لأن المجتمعات القوية هي التي تبتكر آليات إستيعاب الأفكار.

فأنت أنت، وأنا أنا، وطننا واحد ومصيرنا مشترك!!

 

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم