أقلام ثقافية

حيدر الزبيدي: لهجتنا هويتنا

يؤثر عن طه حسين عميد الادب العربي، انه وعند سماعه لهجة أهل بغداد،  فرح كثيراً ودهش وقال انها اقرب لهجة الى اللغة العربية الفصحى...

يعرف علم اللغة واللسانيات اللهجة، بأنها (مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة) وهذه البيئة تحددها الجغرافية، وبمرور الزمن وكر الايام اصبحت هذه اللجات هويات، وأنتماءات، ولها أبعاد ثقافية واجتماعية وحضارية...

واسباب ظهور اللهجات هي العزلة التاريخية وعدم التواصل مع الاخر، فاصبح لكل اقليم لهجة خاصة به فهناك لهجة خليجية ولهجة سورية وعراقية ومصرية ومغربية والخ فكل اقليم منعزل بنفسه له لهجة خاصة به، ولاعلاقة لهذه اللهجات باللغة العربية الام، وعندما يلتقي الجزائري والعراقي في عصور العزلة فان المترجم للهجتيهما هو اللغة الام العربية التي هي اللغة الاساس واللهجات هي تفرعات ...

وربما من هنا جاء الخلاف حول شعر العرب في الجاهلية، حيث ذهب المستشرق مرجليوث وتبعه طه حسين الى ان الشعر العربي منحول لان الشعراء يتحدرون من مشارب واقاليم شتى لكن شعرهم جاء باللغة العربية، والذي يبدو ولسنا متخصصين بذلك ان اللغة العربية الفصحى التي كتب بها جميع الشعر الجاهلي كانت لاتعبر عن لهجات اقوام الشعراء التي هي بطبيعة الحال تمثل (الاقليم المنعزل) وخصوصيته اللغوية وتعبيراته، فكانت لهجة الشاعر يستخدمها للتواصل مع محيطه وقبيلته، اما شعره فيكتبه بالعربية الفصحى التي هي لغة شعر جميع الشعراء ...

وفي العراق تبرز عندنا لهجات واضحة كالبغدادية والبصرية والموصلية والبعض يضيف الانبارية ...

وان توسعنا اكثر سنجد ان هناك توغل اكبر كلما حثثنا المسير منحدرين صوب القرية التي هي الحلقة الاولى في تشكيل اللهجة، واذكر انني وجدت في ناحية الموفقية(وتسمى محيرجة، واصلها محيرقة، وسميت موفقية نسبة للموفق طلحة شقيق المعتضد بالله الذي جهز جيشاً كبيراً لاخماد ثورة الزنج انذاك) ان لهم لهجة خاصة وغريبة حيث انهم يختمون كل كلمة بحوف  (م) مثل گالو من قالوا، وهم يلفظونها (گالم) وهكذا راحم من راحوا

في لقاء مع راديو (BBC ) اجرته الاعلامية اللبنانية جيزيل خوري، مع السياسي العراقي عزت الشابندر، الغريب ان الشابندر كان يتحدث باللهجة اللبنانية، وهكذا تجد الحال عند كثير من العراقيين ككاظم الساهر الذي هوبطبيعة الحال يحاول جاهداً ان يسكب مشاعره العراقية بلباس لبناني او مصري وهو امر كثيراً مايخفق فيه، ويكون ثقيلاً على مسامعنا نحن ابناء جلدته ..

حقيقة اكثر ما يزعج في العراقي عندما يتحدث بلهجة غير عراقية مع عرب يتحدثون بلهجتهم، والغريب انها سمة سيئة طُبع عليها البعض من العراقيين، وما أكثرهم، ولاأريد ان اخوض باسبابها التي قد تتعدد من سياسية الى اجتماعية الى موروثات نفسية وتراكمات اضطهاد، بل وللاسف ربما هي وسيلة من وسائل جلد الذات وتحقيرها والذي يؤدي بدوره الى احساس فضيع بالدونية،  ولنا ان نسأل : أين الانصاف لنفسك وهويتك عندما تحاور الآخر بلغته الا يعني انك تعطيه زمام نفسك وانتمائك وهو يتطلع اليك وشعوره كله فخر واعتزاز بلهجته التي يحاول محاوره أن يقلدها سواء أأجاد ام هو يخفق دائماً...

في ثمانينات الحرب العراقية الايرانية، تم إستقدام العمالة العربية من مصريين وسودانيين واعداد قليلة من سوريين ومغاربة وفلسطينيين، سكنوا العراق كأجراء وأيدي عاملة ومكثوا في العراق طيلة عقد كامل او اكثر ولكنهم ظلوا يتحدثون معنا بلهجتهم، والحق نقوله ان هؤلاء العرب بلهجاتهم المختلفة لو وجدوا أمامهم شعب يحب ويحترم لهجته لتكلموا بها، فهم يفهمون مانقول بلهجتنا ولكنهم يتحدثون معنا بلهجتهم، في حين تجد ان غيرهم من العمالة في الخليج يتحدثون بلهجة اهل الخليج، والكل يدرك وإنصاً ان لهجة العراق اكثر جمالاً ورشاقةً من لهجة الخليج العربي ...

قد يكون للسياسة واثرها دوراً في ذلك، ففي السابق ايام العصر العراقي الجميل، لم يكن الجواهري الكبير ليتحدث الا بلهجته النجفية المحببة، ويقول شاعر زاره في داره في دمشق ان الجواهري سأله هل الطريق من دمشق الى بغداد بعيدة بالسيارة، قال له : حوالي عشر ساعات .. فاطرق الجواهري واجاب: اسا عبالي گريبة . بلهجة نجفية معروفة ..

ويبدأ النفور ومحاولة الانسلاخ من الانتماء عند العراقيين من القرية قياساً بالمدينة الصغيرة، ومن المدينة قياساً بالعاصمة بغداد، ان اللهجة في العراق قد أدلجت وأخذت أبعاداً تفصيلية وهذا ليس بعيب فالانتماء معيار يرافقك مدى الحياة وأي محاولة للتخلص من جذورك يجعلك معرضاً لأي هزة قد تودي بك الى الضياع، وهذا مايحصل ...

- [ ] النفور من لهجتنا يبدأمن القرية ويصعد الى القضاء والمحافظة حتى بغداد التي هي القمة التي لاتجارى والتي تمتحن بها الثقافة والتحضر

 

في المثقف اليوم