أقلام ثقافية

سلام من صبا بردى ارق.. في معرض دمشق للكتاب

كاظم الموسويزيارة دمشق هذه الايام بعد غياب، تعني ان الزيارة ليست مقبولة وحسب، ليست عودة وحنين وفرصة استعادة وحسب، ليست تجديد الذاكرة والتمتع بياسمين الشام وحسب، ليست تحية وسلاما وحسب، ليست المرور بالروضة والربوة، أو الشيخ سعد وبرزة البلد، أو الشام الجديدة وباب توما، أو ساحات المرجة والأمويين والعباسيين والمالكي وركن الدين والميسات، أو سوق الحميدية والجامع الاموي، او جرمانا والمزرعة، او.. أو .. انها كل ذلك في آن. دمشق الشام.. دمشق العروبة.. دمشق المجد. دمشق الزمن العربي الجديد.. دمشق السبابة المرفوعة الصامدة والاصبعين الإشارة في المنعطفات الطويلة.. واللسان يلهج بما قاله ابنها نزار قباني في مثل هذه الحال:

فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهرِ الهدبا   فيا دمشقُ... لماذا نبدأ العتبا؟

حبيبتي أنتِ..فاستلقي كأغنيةٍ على ذراعي، ولا تستوضحي السببا

حتى ختام قصيدته:

إن كانَ من ذبحوا التاريخَ هم نسبي على العصورِ.. فإنّي أرفضُ النسبا

يا شامُ، يا شامُ، ما في جعبتي طربٌ أستغفرُ الشعرَ أن يستجديَ الطربا

ماذا سأقرأُ من شعري ومن أدبي؟ حوافرُ الخيلِ داست عندنا الأدبا

(***)

الشعرُ ليسَ حماماتٍ نطيّرها نحوَ السماءِ، ولا ناياً.. وريحَ صَبا

لكنّهُ غضبٌ طالت أظافرهُ ما أجبنَ الشعرَ إن لم يركبِ الغضبا

ما ان تثريك كلمات القباني وحزنه وغضبه عند ابواب دمشق، الا وتتذكر الشاعر المعروف احمد شوقي وقصيدته العصماء عنها من جديد، وهو يعبر صفحات التاريخ كطائر ملون يقفز من المحروسة، من شواطيء النيل، الى مزارع الشام، ووادي بردى، وكانه يرد اليوم ايضا بما يتناسب مع مرور الزمن، حيث سجل وأضاء واعيد..

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرق ّ   ودَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي جلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ

وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ

وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ

دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ

(***)

لَحاها الله أَنباءً تَوالَتْ عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ

يُفَصِّلُها إِلى الدُنيا بَريدٌ وَيُجمِلُها إِلى الآفاقِ بَرقُ

تَكادُ لِرَوعَةِ الأحداثِ فيها تُخالُ مِنَ الخُرافَةِ وَهيَ صِدقُ

وَقيلَ مَعالِمُ التاريخِ دُكَّتْ وَقيلَ أَصابَها تَلَفٌ وَحَرقُ

أَلَستِ دِمَشقُ للإسلامِ ظِئرًا وَمُرضِعَةُ الأبُوَّةِ لا تُعَقُّ

(***)

الى أن يخاطب بحب وعشق وعز:

بَني سورِيَّةَ اطَّرِحوا الأماني وَأَلقوا عَنكُمُ الأحلامَ أَلقوا

فَمِن خِدَعِ السِياسَةِ أَن تُغَرّوا بِأَلقابِ الإمارَةِ وَهيَ رِقُّ

وَكَمْ صَيَدٍ بَدا لَكَ مِن ذَليلٍ كَما مالَتْ مِنَ المَصلوبِ عُنقُ

فُتوقُ المُلكِ تَحدُثُ ثُمَّ تَمضي وَلا يَمضي لِمُختَلِفينَ فَتقُ

نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ

وَيَجمَعُنا إِذا اختَلَفَت بِلادٌ   بَيانٌ غَيرُ مُختَلِفٍ وَنُطقُ

وَقَفتُمْ بَينَ مَوتٍ أَو حَياةٍ فَإِن رُمتُمْ نَعيمَ الدَهرِ فَاشْقَوا

وَلِلأوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ

وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بالمَنايا إِذا الأحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا؟

وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ

فَفي القَتلى لأجيالٍ حَياةٌ وَفي الأسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ

وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ باب بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَق

جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشق ٍ وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ

وبين حضرتي نزار قباني وأحمد شوقي تصدف الزيارة لدمشق موعد افتتاح معرضها الدولي للكتاب في دورته الثلاثين، ( من 31 تموز/ يوليو إلى 11 آب/ أغسطس 2018) واقرا في العناوين، أكثر من 200 دار نشر تشارك في المعرض، في مكتبة الاسد، وسط دمشق، تحت عنوان «مجتمع يقرأ مجتمع يبني». وحسب سانا «تتمثل المشاركة المحلية في المعرض ب 120 دار نشر سورية، لتشكل أكثر من ضعف الدور المشاركة العام الماضي» فضلا عن الفاعليات المرافقة داخل قاعات ومساحات المعرض، بمختلف صنوف الفنون والآداب وفاعليات مخصصة للأطفال والشباب، بهدف استقطاب أكبر مجموعات ممكنة من كل شرائح الزوار، مع اغراءات نسبة الحسم على الكتب في المعرض من دور النشر السورية الخاصة تتراوح بين 20 و40 في المئة، ومن بين الدول المشاركة; لبنان والمغرب وإيران والعراق وروسيا والدنمارك. كما برزت في برنامج المعرض ندوات ولقاءات فكرية وأمسيات شعرية إضافة إلى 55 حفل توقيع كتاب لدور نشر سورية وعربية.

زرت المعرض مرتين وكل مرة التقي أصدقاء اعزاء واخوة كراما، من باحثين وأدباء وشعراء وناشرين، مبدعين من أجيال وانواع ثقافية متعددة. وكل ما شاهدت أو حصل في زيارتي المعرض تختصر ما له من دلالة ومعنى. لاسيما وأن المعرض توقف سنوات، والان يعاد قيامه في مكانه وزمانه ومشاركاته وتنوعه وفعالياته، ليعكس من خلال الحضور الكبير الذي ملأ قاعات الندوات وممرات المعرض واجنحة دور النشر أجواء الفرح والابتهاج واللقاءات والحماسة في الوجوه الباسمة، ويعطي فرصة أخرى لعنوان دمشق في زمنها الجديد، زمن النصر واعادة البناء والعمران. وبالتأكيد شكل المعرض حالة ثقافية بكل المعاني وإعادة تطوير الادوات المحفزة للابداع والإنتاج الثقافي على مختلف الصعد، والابرز فيها ما تم في معرض الكتاب والزوار والنشطاء والفاعلين في مجالاته. وفي كل الاحوال يقدم المعرض حالة ابداع مضافة لحالات المقاومة والمواجهة للحرب والموت والخراب. وهو أيضا انتصار اخر على الإرهاب والدم والعنف، وشراع انطلاق في فسحة الأمل التي لولاها لما بقيت دمشق كما أرادت، سائرة بين الخيارات وقوة الموقف، بين شدة العزم والإصرار على النهج الذي شيّدها..

يثبت كل معرض وفعالية ثقافية اليوم في دمشق خصوصا، وفي أنحاء سوريا عموما، صورة أو تعبيرا عن وقوف البلد من جديد وعودة أو استمرار الدور والوجود والتشديد على الهوية والثوابت الوطنية والقومية التي كانت ومازالت شاخصة وشاهدة على صدق الموقف والاخلاص على طريق التقدم والبناء. وبشكل عام ما عرضه وإنجزه برنامج المعرض هذا وما سبقه وما رافقه من نشاطات وأعمال ابداعية اخرى، هو دليل انتصار الانسان لتراثه وتاريخه وصموده ومستقبله، وإشارة من اشارات التغيير والتحديث ورسم الخطى للبدايات المنشودة والامال المنتظرة.

سلام لبردى وللسيدة والمخيم، وشوق لقاسيون واطلالته وتغريدات البلابل في بساتين الشام، وحنين للتين والزيتون من حقلة عمي، وسؤال عظمة المجد والاخطاء، وعز الشرق أوله دمشق، والغد لناظره قريب.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم