أقلام ثقافية

حول صحيفة (كولوكل) الروسية في لندن

ضياء نافعهاجرت المعارضة الروسية في اواسط القرن التاسع عشر الى لندن واصدرت هناك – لاول مرّة في التاريخ الروسي – صحيفة ثورية معارضة للنظام القيصري الروسي، وكان اسمها (كولوكل – تكتب كولوكول وتلفظ حسب قواعد التلفظ الروسية كولوكل)، ومعنى هذه الكلمة بالروسية – (الناقوس)، واستمرت بالصدور في لندن – وباللغة الروسية طبعا - على مدى عدة سنوات، منذ العام 1857 الى العام1867، وكانت تصدر باشراف غيرتسن وأغاريوف تمويلا وتحريرا، ومقالتنا هذه – تعريف ليس الا  بهذه الصحيفة الفريدة في مسيرة الصحافة الروسية، رغم انها صدرت خارج روسيا، وبهذا الثنائي الابداعي (غيرتسن وأغاريوف)، الذي لم يتكرر في تاريخ الفكر الروسي، والذي يذكرنا بتلازم اسمي (ماركس وانجلز) في تاريخ الفكر الماركسي، ودورهما معا في مسيرة تلك النظرية، رغم كل الاختلافات الجذرية العميقة والفوارق طبعا من حيث الاهمية والافكار والعصر والمواقع ...الخ بين (ماركس وانجلز) من جهة، وبين (غيرتسن وأغاريوف) من جهة اخرى .

الخطوة الاولى التي بدأت في هذا المجال، هو ما قام به غيرتسن (انظر مقالتنا بعنوان - غيرتسن الاديب والصحفي الروسي المهاجر)، اذ انه اشترى مطبعة روسيّة في لندن، واطلق عليها تسمية رمزية واضحة المعنى، وهي – (المطبعة الروسية الحرة)، ومن هذه المطبعة بدأت تصدر مجلة (النجم القطبي) من قبل غيرتسن نفسه العام 1855، وهذه التسمية ترتبط بحركة الديسمبريين، التي حدثت العام 1825 في بطرسبورغ، وقمعتها الحكومة القيصرية رأسا وبشكل حازم وصارم وشديد، والمجلة تلك كانت تدعو الى (تحرير الكلمة من الرقابة، وتحرير الفلاح من حق الرق والعبودية ..)، اذ ان اثنان من الديسمبريين كانا يصدران مجلة بهذا الاسم بين عامي 1823 و1825، وأضاف غيرتسن على غلافها صورة تخطيطية للخمسة من الديسمبريين الذين أعدمتهم السلطة القيصرية، وبعد صدور العدد الاول من هذه المجلة السنوية من قبل غيرتسن بمفرده، وصل أغاريوف الى لندن، والتحق بغيرتسن، وهكذا بدأ هذا الثنائي الابداعي بالعمل معا طوال حياتهما، وقد توفي غيرتسن عام 1870، فحاول أغاريوف ان يستمر بمفرده بالعمل الصحفي هذا، ولكنه لم يستطع سوى اصدار ستة اعداد ليس الا من تلك الصحيفة. ومن الطريف ان نشير هنا، الى ان تمثالي غيرتسن وأغاريوف يقفان في مدخل البناية القديمة لجامعة موسكو لحد الان (والبناية هذه تقع في مركز موسكو، ويشغلها الان معهد شعوب آسيا وافريقيا)، واحد بالجهة اليسرى والاخر بالجهة اليمنى، اي انهما ظلا متلازمين معا الى الابد.

أثار صدور العدد الاول من مجلة النجم القطبي ردود فعل هائلة في روسيا وخارجها (ومن جملة الذين كتبوا تحية لها الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هيغو)، وهكذا انهالت الرسائل على هذه المجلة، والتي تحمل موادا متنوعة صالحة للنشر فيها، وتنسجم مع توجهها الفكري، وبعد عددها السنوي الثالث، اقترح أغاريوف اصدار جريدة تتابع الاحداث اليومية، والتي لا يمكن للمجلة السنوية ان تتابعها وتشارك في التأثير بمسيرة تلك الاحداث، وهكذا ولدت فكرة اصدار ملحق لمجلة (النجم القطبي)، وأطلقوا على هذا الملحق اسم (كولوكل)، وهي تسمية رمزية دقيقة، اذ ان (الناقوس) وهذا هو معنى الكلمة بالروسية كما أشرنا اعلاه، يعني، انهم يريدون ايقاظ الشعب . الصحيفة كانت شهرية في بدايتها، وتحولت العام 1858 الى الصدور مرة كل اسبوعين، او حتى، ثلاث مراّت بالشهر، وذلك حسب المراسلات واهمية الاحداث داخل روسيا، وكانت عدد صفحات هذا الملحق تتراوح بين (8) الى (10)  صفحة .

اصبحت هذه الصحيفة معروفة جدا داخل روسيا، وقد منعتها الحكومة القيصرية الروسية طبعا، بل انها استخدمت حتى نفوذها لمنعها في روما ونابولي وبعض المدن الاوربية، اما بالنسبة لروسيا، فقد اخترقت هذه الصحيفة الاجواء هناك، وأخذت ترسل نسخا حتى الى الوزراء والموظفين الكبار، لدرجة، ان القيصر نفسه أصدر أمرا تحذيريا لهم يقول فيه – (في حالة استلامكم الجريدة، يجب عدم اعلام الآخرين بذلك، والاقتصار على القراءة الشخصية فقط ..)، ويرى بعض المحللين، ان هذا الامر القيصري دليل قسوة وتعسف، بينما يرى البعض الآخر انه دليل تسامح وتعامل مرن مع الوقائع، وتوجد في الوثائق الروسية اشارة، الى ان القيصر نفسه كان يطلع على هذه الصحيفة ايضا.

  بدأ نجم صحيفة (كولوكل) بالافول منذ عام 1860، اذ أصدر القيصر الروسي في هذا العام قانون تحرير الفلاحين من الرق (ولهذا يسمون القيصر الكساندر الثاني القيصر المحرر)، ثم حدثت انتفاضة الفلاحين البولونيين العام 1862، والتي أيّدتها الصحيفة، بينما كان الراي العام الروسي ضدّها، وهكذا قرر غيرتسن وأغاريوف الانتقال من لندن الى جنيف، حيث تم نقل المطبعة الى سويسرا، وظهر العدد رقم 196 في لندن، ثم ظهر العدد رقم 197 في جنيف العام 1867، وعادت تصدر مرة كل شهر، ثم أعلنوا انها ستتوقف مؤقتا . وفي العام 1858 حاولوا اصدارها بالفرنسية، حيث أعلن غيرتسن، انه (من الافضل الكلام عن روسيا مع الاوربيين، من الكلام مع روسيا)، لكنهم لم ينجحوا، وهكذا توقفت نهائيا العام 1868، وقد حاول أغاريوف  بمفرده اصدارها بعد موت غيرتسن كما مرّ ذكره، ولكنها توقفت بعد (6) اعداد . وفي الذكرى الخمسين على وفاة غيرتسن أعادوا طبعها في الاتحاد السوفيتي (1920)، ثم أعادوا نشرها مستنسخة مع هوامش وتعليقات بين 1962 – 1964، ثم أعادوا نشر الطبعة الفرنسية عام 1978 – 1979، وتساعد هذه الطبعات طبعا دراسة هذا التراث الصحفي الروسي، وتحليل وقائع التاريخ الروسي بلا شك .

ختاما، أود أن أشير، الى ان أ.د. كفاح الجواهري، ابن الشاعر العراقي الكبير، قد أصدر في بغداد العام 2015 كتابا موسوعيا ضخما  بثلاثة أجزاء بعنوان – الجواهري صحفيا، يضم مقاطع مهمة من مقالات الجواهري في صحفه العديدة مع تعليقات حولها، التي أصدرها الجواهري منذ ثلاثينات القرن العشرين، وعلى الرغم من أهمية هذا الاصدار التاريخي، الا انني لم أجد انعكاسا له في وسائل الاعلام العراقية، وقد تذكرت هذا العمل التوثيقي العلمي الكبير، الذي قام به أ.د. كفاح، وانا أكتب مقالتي هذه عن صحيفة (كولوكل) الروسية .

تحية لذكرى غيرتسن وأغاريوف والجواهري، الذين تركوا لنا بصماتهم الوطنية والابداعية في مسيرة الصحافة الروسية والعراقية .  

 

 أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم