أقلام ثقافية

بوشكين وغريبويديف

ضياء نافععاش الكساندر سرغييفيتش غريبويديف 34 سنة (1795 – 1829)، وعاش الكساندر سرغييفيتش بوشكين 38 سنة (1799 – 1837) (كلاهما – وياللغرابة - بنفس الاسم واسم الاب !!!)، اي ان غريبويديف كان اكبر من بوشكين اربع سنوات فقط عندما كانا على قيد الحياة، و ليست هذه الفترة كبيرة بين الاثنين، رغم انها انعكست في بداية مسيرة حياتهما بشكل واضح المعالم، اذ لم يشارك بوشكين في الحرب الفرنسية – الروسية (عندما هجم نابليون على روسيا عام 1812)، فقد كان عمر بوشكين آنذاك 13 سنة ليس الاّ، اما غريبويديف فقد تطوع للمشاركة في الحرب، ولكن كلاهما ذهبا بعدئذ للعمل في وزارة الخارجية الروسية . اصبح غريبويديف سفيرا لروسيا في طهران وهناك قتله المتطرفون الاسلاميون عام 1829(انظر مقالتنا بعنوان – تمثال غريبويديف في طهران اولا، ثم في موسكو ثانيا)، اما بوشكين فلم يكن ياخذ بنظر الاعتبار عمله في الخارجية، لكنه اصبح مع ذلك (سفيرا في روسيا وفي العالم !) للادب الروسي كما كتب أحد الباحثين الروس وهو يحاول المقارنة بينهما ، وتم قتل بوشكين ايضا في مبارزة مع اللاجئ دانتيس عام 1837 . اتهمتهما الحكومة الروسية بعد حركة الديسمبريين 1825 بالانتماء الى تلك الحركة، وحقّقت معهما (جرى حتى استدعاء غريبويديف واحتجازه رهن التحقيق لفترة طويلة)، ولكن لم تثبت الحكومة اي شئ ضدهما، وألغت بعدئذ كل الاجراءآت ضدهما بالنسبة لهذه القضية.

لاحظ الباحثون، ان بطل مسرحية غريبويديف الشعرية (ذو العقل يشقى، وهي النتاج المركزي له) كان بعمر بوشكين، وان بطل رواية بوشكين الشعرية (يفغيني اونيغين، وهي النتاج المركزي له ايضا) كان بعمر غريبويديف، ومن المؤكد ان ذلك جاء بمحض الصدفة ليس الا، الا ان ذلك – مع هذا – اصبح موضوعا للتأمل لدى الباحثين الروس الذين يدرسون موضوع المقارنة بين الاديبين وفي كل المجالات المتنوعة وبالتفصيل، اذ أشار بعضهم، الى ان بوشكين اراد ان يكون بطله في روايته الشعرية تلك (انضج منه، اي من بوشكين نفسه)، وان غريبويديف اراد ان يكون بطله في مسرحيته الشعرية (اصغر منه، اي من غريبويديف نفسه). لكن كل نقاط التشابه والتباين في هذه الدراسات الادبية المقارنة (وما أكثرها طبعا) بين الاثنين لم تؤثر على المحصلة الاخيرة والنهائية، و التي جعلت الباحثين الروس يسمون غريبويديف (مولير روسيا)، ويسمون بوشكين (شكسبير روسيا)، وهناك دراسات واسعة وعميقة بالروسية حول دور غريبويديف و دور بوشكين في تاريخ المسرح الروسي ومسيرته وتطوره.

لقد كانت العلاقات بين غريبويديف وبوشكين علاقة الند للند، بل ان غريبويدف كان يبدو بعض الاحيان حتى أكثر سطوعا من بوشكين بموقعه المتميّز (والذي كان يتقدّم في ذلك الموقع الوظيفي بوضوح) في وزارة الخارجية الروسية، ومعرفته للعديد من اللغات (منها لغتنا العربية قليلا، انظر مقالتنا بعنوان غريبويديف والمتنبي)، رغم ان بوشكين أصبح طبعا في تلك الفترة واحدا من أكبر الاسماء وابرزها في دنيا الادب الروسي شعرا ونثرا ومسرحا وصحافة . ومع كل هذا، فان بوشكين وغريبويديف لم يصبحا صديقين قريبين، رغم انهما كانا يعرفان بعضهما البعض والتقيا عدة مرات معا، ولكن عندما قتلوا غريبويديف في طهران، فان بوشكين كان من ضمن المستقبلين لجثمانه في القوقاز، وقد كتب بوشكين عن ذلك في كتابه (رحلة الى ارضروم) (الذي ترجمه الزميل عبد الله حبه عن الروسية قبل فترة وجيزة وصدر عن دار المدى في بغداد )، وتحدّث بوشكين في ذلك الكتاب عن تاريخ تعارفه بغريبويديف وطبيعة علاقاته معه.

النقطة الاساسية في موضوعة بوشكين وغريبويدف، والتي يركز عليها الباحثون الروس عندما يتناولونها في بحوثهم (وهم على حق)، هي الآراء التي طرحها بوشكين حول مسرحية غريبويدف (ذو العقل يشقى)، هذه الآراء التنبؤية بكل معنى الكلمة، والتي توقع بوشكين فيها ان تتحول الكثير من مقاطع تلك المسرحية الى حكم وامثال روسيّة، وهذا ماتم فعلا . آراء بوشكين حول مسرحية غريبويديف جاءت في عدة رسائل شخصية كتبها بوشكين لاصدقائه ومنهم بيستوجيف وفيازمسكي في اواسط العشرينات من القرن التاسع عشر، وقد دخلت هذه الرسائل باعتبارها وثائق في مؤلفات بوشكين الكاملة، وكذلك تم نشرها في كتاب بعنوان – (بوشكين عن الادب)، وهو كتاب يضم كل المقالات والملاحظات التي كتبها بوشكين حول الادب والادباء .

موضوعة بوشكين وغريبويديف لازالت مطروحة وحيوية في تاريخ الادب الروسي وفي مسيرة دراسات الادب المقارن (في اطار الادب الروسي نفسه)، ولكن هذه الموضوعة بعيدة عن قضايا الادب الروسي في العالم العربي، اذ لا يعرف القارئ العربي لحد الان النتاج المركزي لغريبويديف – (ذو العقل يشقى)، وبالتالي لا يعرف طبعا اهمية هذا الكاتب وقيمته في مسيرة الادب الروسي كما يجب، اذ لم يتجاسر اي مترجم عربي على ترجمة تلك المسرحية الشعرية لحد الان حسب علمنا المتواضع . دعونا نأمل ان نرى هذه المسرحية الشعرية بالعربية يوما ما ...

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم