أقلام ثقافية

رسم جبران سبب شهرة زعيم البهائية

نور الدين صمودعرفنا في بداية تكويننا الثقافي والعلمي اسم العالم الموسوعي الكبير فؤاد أفرام البستاني عن طريق سلسلة "الروائع" التي كان يُعَرِّفُ فيها بالشعراء والكتاب والعلماء والأدباء العرب من الجاهلية إلى العصر الحديث، ثم عرفته بعد ذلك عن كثب في الجامعة اللبنانية ببيروت، عندما كان رئيسا لها، وكانت له، إلى جانب رئاسته للجامعة، محاضرات ودروس يلقيها على طلبته، ولم يكن يتقيد فيها بموضوعها الأساسي بل كان يتوسع فيها توسعا محمودا غير محدود يفتح فيها أقواسا تفضي إلى أقواس، وقد بقي منها في الذاكرة الشيء الكثير في شتى المواضيع الخارجة من عناوينها الأساسية، من ذلك أنه تعرض (ذات محاضرة) إلى (البهائية) تعرضا علميا لا يمكن أن يجده، من يريد أن يعرفه، في كتب الأعلام ولا في دوائر المعارف.

لقد فتح أستاذنا البستاني قوسا - عن هذه النِّحلة أو الدين الذي يستقر مناصروه في يافا من أرض فلسطين - تعرَّضَ فيه تعرُّضا طريفا إلى زعيمها (عبد البهاء أو البهاء الأبهى)، وما زلتُ أذكر أنه قد قال عنه، (إن جبران خليل جبران كان سبب شهرته في أمريكا، وذلك أن جبران رسمه رسما جميلا، فتعلقت به كثير من النساء الأمريكيات واعتنقن دعوته أو ما دعاه دينا)،

ولعل هذه الكلمة من أستاذنا البستاني لم تكن لِتعلقَ بذاكرتي لو لم أكن قد عرفتُ قبل ذلك في تونس بعضا من أتباعه المناصرين الذين يصطادون من يرون فيهم استعدادا للتجاوب معهم، وكان لهم مناوؤون يقفون ضد دعواهم بالمرصاد، وقد تعرفت في بداية خمسينيات القرن العشرين على اثنين (أخ وأخته) قدما من مصر، وكانت لي صلة بواحد من أتباع البهائية لإشرافه على حصة أدبية كان يذيع فيها ما يصله من محاولات(الأدباء الهواة) بالإذاعة التونسية عندما كنت في بداية الطريق، ثم توطدت علاقتي به بعد ذلك وعرفته معرفة ثقافية، ورغم ذلك فإنه، للحقيقة والتاريخ، أشهد أنه لم يحدثني عن هذا المذهب، ولم يحاول جذبي إلى البهائية، وقد صار لي صديقا، عندما أصبحت معروفا في عالم الأدب.

لقد مرت على ملاحظة البستاني المتعلقة برسم جبران الذي كان سببا في شهرة زعيم البهائية عقود عديدة، ظلت خلالها تقفز إلى ذاكرتي، إلى أن تحققت من صحتها عندما أقرأتُ رسالة كتبها جبران إلى صديقته الأمريكية (ماري هسكل) نشرت ترجمتها في كتاب (من وحي رسائل جبران المجموعة الأولى اختارها وترجمها بتصرف إميل خليل بيدس) وهي مؤرخة في 19 نيسان (أفريل) 1912.

ومن خلالها نفهم أن جبران قد نام ليلة ذلك اليوم مهموما تحت كابوس من جراء ما حل بسفينة "تيتانيك" التي غاصت في البحر قُبيل كتابة تلك الرسالة بخمسة أيام، واستفاق على ذلك الكابوس الذي سماه المترجم ضاغوطا.

وهذه هي الرسالة بتارخ 19 نيسان "أفريل" 1912 (قبيل الفجر، داعب جفني الوسنُ. الهواء متشرِّبٌ برائحة المأساة. "التيتانيك" التي غاصت في اليَمِّ بما تحمله من بشر..نغّصني الفِكرُ، ورمضتني الكارثة – هؤلاء الأبرياء – ذرفتُ الدمع الهتون.

نهضت في السادسة وضاغوط الكارثة لا يفارقني..ولكن الاغتسال بالماء البارد، ثم فنجان القهوة فرّجا عن مخنقي).

وانتقل جبران إلى الحديث عن رسم عبد البهاء، فذكر الوقت الذي بدأ فيه رسمه والوقت الذي انتهى فيه منه، وإلى الحاضرين والحاضرات بصفة خاصة، وذكر الانطباع الذي خلفه رسمه في نفس صاحبه ونفوس أتباعه وفي نفس جبران أيضا فقال:

(في السابعة والنصف كنت مع عبد البهاء، رئيس البهائيين في بلاد فارس.

في الثامنة بدأنا العمل. وتوافد الناس وجُلّهم من النساء. جلسوا خاشعين ينظرون بعيونٍ لا تَطْرِفُ.

في التاسعة اكتمل الرسم وابتسم عبد البهاء. ما هي إلا كفتحة عينٍ وغمْضتِها حتى أقبل عليَّ الحاضرون باندفاع عجيب، هذا يهنِّئُني، وهذا يشد على يدي – كأنني أسديتُ لكل واحد خدمة – وهذا يقول: معجزة! هبط الوحْيُ عليك! وذاك يقول: اكتشفتَ روحَ المعلم! كلٌّ قال كلمته..وقال هو باللسان العربي: "الذي يعمل مع الروح لا يفشل، فيكَ قوَّةٌ مستمَدّةٌ من الله!" واستدرَك: "الأنبياء والشعراء يرتوون من نور الله!" وتبسّم ثانية – وكانت في بسمته قصة عاصفة، قصة سوريا وبلاد العرب وبلاد فارس.

أتباعه أحبّوا الرسم لأنه صورة كالأصل..وأنا أحببته لأنه تعبير عن الناحية الأفضل مني.

جفوني ثقيلة، الكرى أثقلها. أتكفيني ساعاتٌ ثلاث؟ أنام فيها وأستعيد القوة المبددة؟!  "خليل")

ومن خلال هذه الرسالة تأكدت أن أستاذنا البستاني قد كان على علم بهذا الرسم الذي رسمه جبران لعبد البهاء، وأن ما قاله لنا صحيح، أما أنه كان سببا في شهرته فهذا يحتاج إلى ما يؤكده.

وقد كتب جبران رسالة أخرى إلى ماري هسكل في 16 أياّر(ماي) 1912 أي بعد أقل من شهر من الرسالة السابقة، تحدث فيها مرة أخرى عن عبد البهاء فقال: (عاد عبد البهاء إلى نيويورك منذ أيام قليلة. أقامت له لجنة السلام النسائية حفلة كبرى في فندق أستور، تكلم عدد من الخطباء، وكان السلامُ موضوعَ الحديث الذي هطلت به الألسنُ. السلام...السلام... السلام الدولي..العالَمي. شيء مملٌّ، إعادة متعبة، بلا طعم، بلا نكهة، السلام... السلام... ترديد وإعادة.. جرس على وتيرة واحدة. السلام منية الدهور، والدنيا أصغر من أن تبلغ الوطر. أنا أقول: ليكنْ هناك حربٌ! ليستعرِ الأوارُ! ليقتتل أبناء الوطن إلى أن تُسفكَ آخرُ قطرة من الدّم الملوّث! لماذا يهجس الإنسان بالسلام وهو محروم من راحة النفس في نظام يستحق الزوال، بلْهَ محكوم عليه بالزوال). "خليل"

وهي رسالة تستحق التأمل والتمعُّن والتحليل، نفهم منها أن جبران لم يكن متأثرا بما يَدَّعيه البهاء وأتباعه في أمريكا خاصة، ويبدو أن أتباعه كانوا مبهورين بهيأته ومظهره وأُبَّهَتِهِ وببهجته وبالرسم الذي وضعه له جبران أكثر من إعجابهم بما يدعو إليه من نِحلة، وأما دعوته إلى السلام فهو شعار خلاب يجلب الجميع، لكن الكلام الذي كانوا يرددونه في ذلك الاحتفال، كان اجترارا باردا غير مقنع أو مؤثِّر.

وقد أبدى جبران في رسالته رأيا غريبا حول الحرب والسلام يحتاج إلى نقد ومناقشة وَرَدٍّ وتساؤل لمعرفة أسبابه ودواعيه.

 

أ . د: نورالدين  صمود

 

في المثقف اليوم