أقلام ثقافية

ثلاثي لينينغراد العراقي

ضياء نافعكان يمكن لعنوان هذه المقالة ان يكون – شبّر/ عارف / القرة داغي، اي حكمت شبّر ومحمد عارف وكامران القرة داغي، وكان يمكن ايضا ان يكون –  ثلاثي لينينغراد العراقي ومصيره، وكان يمكن ان يكون ايضا - و ببساطة - حلقة جديدة برقم جديد ليس الا في سلسلة مقالاتي عن (عراقيين مرّوا بموسكو)، والتي احاول ان اسجّل فيها تاريخ العراقيين، الذين درسوا بروسيا في النصف الثاني من القرن العشرين فصاعدا، والذين لم يكتبوا هم انفسهم – وكما ينبغي ان يكتبوا - عن تجربتهم و تاريخهم الممتع والجديد في مسيرة المجتمع العراقي، وكذلك لم يكتب عنهم – مع الاسف – الآخرون ايضا بشكل عام، ولا عن دورهم اللاحق (والمبدع) في مسيرة الحياة العراقية بعد تخرّجهم، والذين (طمغتّهم! رسميّا وشعبيّا) النظرة العراقية الساذجة جدا ب (الطمّغة) (والطمّغة باللهجة العراقية تعني الختم) الماركسية – اللينينية – الستالينية - السوفيتية، وهي نظرة، أقل ما يمكن وصفها، انها بليدة بكل معنى الكلمة، والتي لازالت الى حد ما قائمة (وبشكل من الاشكال) رغم انف كل الحقائق الموضوعية (وغير الموضوعية ايضا) مع الاسف الشديد .

ثلاثي لينينغراد تبلور صدفة وفي اطار جامعة لينينغراد العريقة اوائل الستينات من القرن العشرين، اذ تم ارسال هؤلاء العراقيين الثلاثة للدراسة في تلك الجامعة، وهم حكمت شبّر- للدراسة في كليّة القانون (قسم الدراسات العليا)، ومحمد كامل عارف للدراسة الاولية في كليّة الصحافة، وكامران قرة داغي للدراسة الاولية في كليّة الفيلولوجيا (اللغات وآدابها). جمعتهم قبل كل شئ عراقيتهم طبعا واختصاصاتهم في العلوم الانسانية عامة والسكن في نفس الاقسام الداخلية للجامعة، و لكنهم – مع كل تلك العوامل - اصبحوا قريبين الى بعض بعد ان اكتشفوا ان افكارهم (واحلامهم الفكرية ايضا) توحّدهم . يقول البعض انهم جميعا كانوا يساريين، ولهذا اصبحوا قريبين الى بعض، ولكن معظم الطلبة العراقيين آنذاك كانوا يساريين بشكل او بآخر، فلماذا برز هذا الثلاثي اللينينغرادي بالذات؟ . لقد وحدّتهم بذرة الابداع، التي كانت كامنة في اعماقهم، فمحمد كامل عارف كان قاصا عراقيا واعدا وصحافيا حتى قبل ان يصل الى الاتحاد السوفيتي، وحكمت شبر كان يحلم (في اعماقه) ان يكون شاعرا، رغم انه كان خريج كلية الحقوق (هكذا كان اسمها آنذاك) من جامعة بغداد ويملك الحق ان يكون محاميا في العراق، وكامران قرة داغي كان مشروعا لكاتب في مجال الترجمة و الصحافة، حيث يمكن ان يستخدم عدة لغات كان يتقنها آنذاك بشكل رائع، وهي الكردية (لأنه كردي) والعربية (لأنه عراقي) والانكليزية (لأنه درس في كلية بغداد الشهيرة)، وأضاف الى تلك اللغات عندئذ اللغة الروسية. وساهمت الاحداث التي كانت تحيطهم في الاتحاد السوفيتي بتقريب بعضهم الى البعض ايضا، فبعد انقلاب 8 شباط 1963 تأسست لجنة الدفاع عن الشعب العراقي برئاسة الجواهري الكبير خارج الوطن، واصبح هذا (الثلاثي!) نواة هذه اللجنة في لينينغراد، ولم يكن ذلك عفويا بالطبع .

بعد انهاء الدراسة، عاد الثلاثي الى بغداد، واصبح الدكتور حكمت شبّر استاذا جامعيا في كلية القانون وصدرت اطروحته بالعربية ضمن كتب وزارة الثقافة والاعلام، واصبح محمد كامل عارف صحافيا بارزا وارتبطت باسمه صفحة (آفاق) التي أسسّها في جريدة الجمهورية البغدادية، والتي لعبت دورا متميّزا ورائدا في مسيرة الصحافة العراقية والثقافة العراقية آنذاك ، واصبح كامران قرة داغي مترجما حرّا في الصحف والمجلات والاذاعة والتلفزيون والمركز الثقافي السوفيتي، مترجما يشار اليه بالبنان، كما يقول التعبير العربي الجميل، اذ ارتبط باسمه عمله الابداعي المستقل كمترجم، اي خارج التعيين الرسمي في الدوائر الحكومية كما كان يسعى الجميع، وهو موقع جديد ومبتكر خلقه كامران نفسه لحاضره ومستقبله . واستمرّت علاقات الصداقة والودّ و التواصل بين ذلك الثلاثي اللينينغرادي في بغداد مثلما كانت في لينينغراد، وكنت شاهدا - من بعيد - على ذلك التواصل الجميل بينهم في بداية السبعينيات ببغداد ، رغم اني لم اكن قريبا جدا – نسبيا- من ثلاثي لينينغراد ذاك .

 لكن الرياح العراقية تجري عكس ما تشتهي سفن العراق المحمّلة بثروات وادي الرافدين، اذ ان مقود تلك الرياح بايدي مراقبين خارج الحدود الجغرافية لدجلة والفرات، وهم الذين يوجّهون اتجاهاتها حسب رغباتهم ومصالحهم، و هبّت تلك الرياح – وبقوّة شديدة - من خارج الحدود و(طشّرت) الثلاثي اللينينغرادي العتيد، وليس فقط الثلاثي ...

لازال (أقطاب!) هذا الثلاثي يتفاعلون مع الحياة بحيوية وابداع كل من موقعه الجديد، ولازالوا يتواصلون مع بعض من بعيد ومن قريب ايضا، رغم ان عواصف تلك الرياح اللعينية فرّقتهم عن بعض ...

كم اتمنى ان أقرأ يوما ما  ذكرياتهم عن مسيرتهم باقلامهم هم، اذ ان هذا يعني، اننا سوف نقرأ  صفحة في غاية الاهمية في تاريخ العراق المعاصر، وصفحة رائعة الجمال في تاريخ المذكرات...

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم