أقلام ثقافية

أنا عراقـي.. أنا أقرأ

شاكر الساعديI am Iraqi - I read

مذ كنت شاباً يافعاً منتصف السبعينات من القرن الماضي،كنت أتردد على شارع المتنبي لأشاهد الكتب التي تباع هناك في مكتباته المعروفة آنذاك، وبالخصوص يوم الجمعة يصبح مكتظاً بالناس كما هو اليوم ،ومتنفساً للمثقفين العراقيين البغداديين وأبناء المحافظات، وأول رواية أشتريها من هذا الشارع القديم المتجدد كانت رواية الشك للكاتب الانكليزي (كولن ولسن) 1932- 2013بسعر 50 فلساً، لازلت أحتفظ بها إلى ألان مع مجموعة من إصدارات الموسوعة الصغير التي تصدرها وزارة الثقافة العراقية آنذاك .

العراق بلد الأفكار

لقد شهد العراق خلال فترة سبعينات القرن العشرين موجه من النشاطات الفكرية تبعث على الارتياح من وجهة النظر الثقافية الصرفة، قبل وصول أبن العوجة (2003- 1980) إلى دفة الحكم في العراق، فمئات الصحف والمجلات والمطبوعات تتدفق شهرياً على المكتبات في عموم البلاد.. احتفالات ومهرجانات وخطب وقصائد في القاعات والمساجد على مدار السنة.. نقاشات وحوارات على الهواء.. مؤلفات ذات قيمة فكرية عالية تطبع عدة مرات، ودائماً هناك استجابة ورواج لا مثيل له.

إن حياتي العملية شديدة التداخل مع محبتي للقراءة لدرجة أنني لا أستطيع الفصل بين الاثنتين، وشخصيتي هي نتاج الجمع بين كل شخصيات الكتب التي أحببتها وأصبحت جزءا من ذاكرتي، فأنا عشت في العراق وسوف أموت فيه، لم أذهب إلي مدينة بطرسبرغ والتي كانت تسمى لينين غراد الروسية، لكني أحفظ أبرز معالمها التي أخذني فيها دستويفسكي وتولستوي ذات يوم، ولم أشاهد ماذا حدث لباريس العاصمة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، فتطوع الكاتب الأمريكي أرنست همنغواي ليخبرني بكل التفاصيل، ولم أزر مدينة براغ عاصمة التشيك، إلا أن الروائي ميلان كونديرا قدم لي وصفا ممتعًا لما يدور في شوارعها، ولم أسافر إلى مدينة سدني عاصمة أستراليا لأطلع على معالمهما السياحية والثقافية، لكني أطلع يومياُ على صحيفة المثقف الصادرة فيها لازداد معرفة وثقافة ووعياً .. وأصبحت أعرف من خلال خبرتي في الكتب، إن القُراء يعيشون أكثر من حياة في عصر العولمة والانترنت .

كان القارئ النهم ومنهم أنا يمتاز عن غيره بأنه صاحب فكرٍ وهدفٍ وهُوية، تدفعه الأفكار التحررية التي يحملها في عقله المكتنز بحلو الثمر، وجميل الدرر، مع كتابه يجد الأنس، وحسن الرفقة معه، كما قال الشاعر العراقي الكبير المتنبي915  –965 م (وخيرُ جليسٍ في الزمان كتاب).

بينما الغالبية من الناس اليوم غارقة في أطروحات التراث الديني وحروب المسلمين الأوائل، وفي الأزمات، والفتن الطائفية، وقصص التاريخ المشكوك بمصداقيتها، لا هّم عندهم غير الإعمال والأفعال والممارسات والجلسات الدينية أو الطائفية، وكأن الحياة لا طريق فيها غير طريق البكاء على الماضي والتحدث المفرط بالمحرمات والمستحبات، والاساطيراللامعقولة والأمنيات البعيدة عن الواقع.

مفهوم القراءة

مفهوم القراءة الذي نعرفه الآن لم يصل إلى معناه الشامل إلا بعد أن ظهرت الكتب بشكلها المعروف وازدياد إعدادها وإشكالها من حيث الكتاب الكبير أو الكُتيب الصغير والفضل يعود في ذلك إلى اختراع المطابع وتطورها، والتي جعلت من الحصول على الكتاب أمراً ميسراً لكل الطبقات الاجتماعية خاصة المتوسطة والفقيرة، وأصبحت القراءة مع نهايات القرن التاسع عشر إلى ما بعد منتصف القرن العشرين نشاطاً منتشراً وشائعاً ساهم بشكل عظيم في تقدم الأمم ورُقيها،إلا إن هذا النشاط المعرفي بدأ بالتراجع تدريجيا مع ظهور التلفاز والسينما ثم الكمبيوتر حتى انتشار الانترنت وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي حالياً.

العزوف عن القراءة

لا شك أن ظاهرة العزوف عن القراءة لدى الشباب تثير القلق لدى مختلف فئات المجتمع، ويسعى المثقفون لمحاولة إعادة الثقافة إلى مجاريها الحقيقية، من خلال أساليب علمية وواقعية وجمالية جاذبة، فواقع التواصل الاجتماعي المختلفة سرقت منهم الجمال الحقيقي والقيمة والفائدة، فلا يعقل أن تكون الصور الثابتة والمتحرّكة التي يتلقاها الطفل بشكل عشوائي في مواقع التواصل الاجتماعي بشتى صورها أساس الثقافة العامة والتعلمّ العرضي الذي يخضع له الأبناء، ويصبح التواصل بين الأسر وأبنائها أو بين الأجيال شبه معدوم بل يستثير الخوف والقلق على حاضر ومستقبل الأجيال.

فلو أردنا اليوم شراء هاتف جديد من شارع الربيعي وسط بغداد مثلاً، ولكم أن تتصوروا كم موديلات حديثة من الهواتف الذكية والخارقة الذكاء هناك، تفوق أسعارها أسعار الكتب المباعة .. هذا هاتف فيه كاميرا أمامية وهذا فيه أكثر من كاميرا.. هذا بذاكرة وسرعة تفوق كل الأنواع الأخرى، لكن هذا يخزن عددٌ أكبر من المسجاة والصور.. هذا ضد الماء وهذا ضد الخدش وهذا ضد الكسر وذاك فيه مميزات الحماية ضد الضياع والسرقة.. هذا الهاتف يأتي بألوان عدة وهذا الهاتف يحتوي على بطارية تدوم عدة أيام ويمكن شحنها بسرعات خارقة.. هذا الهاتف المشهور قد تم تجميعه في اليابان وهذا في كوريا وهذا من ألمانيا.. كالكتاب هذا مطبوع في العراق وهذا في لبنان ومصر وبلدان الخليج العربي.. لكن الفرق بين شراء الهواتف وشراء الكتب كالفرق بين الخير والشر وبين الفاكهة المرة والفاكهة الحلوة، والمرأة الجميلة والأخرى القبيحة، كلها مستساغة، ولكن أغلب الناس (فيما يعشقون مذاهب).

أذن لماذا لا نقيم معارض للهواتف النقالة (الموبايلات) المستوردة بدلاً من معارض الكتب المطبوعة وطنياً ؟ وما فائدة معارض الكتب وهي تفتتح وتقام من قبل حكومة فاسدة ؟، فالثقافة ليست رداء خارجي مزركش تلبسه الدولة، أنما هو واقع عملي يراه الناس في أداء أجهزة ومؤسسات الدولة، وسلوك يلمسه الناس في وسائل الإعلام وفي المؤسسات التربوية والتعليمية وكذلك في الشارع.

معارض الكتب

والسؤال الذي يطرح نفسه .. هل هناك فائدة من إقامة معارض الكتب في العراق التي تقام سنوياً في بغداد وأربيل والبصرة وغيرها ؟، والجواب : لابد أن تتحمل الطبقة المثقفة العراقية أعباء المهمة بعيداً عن سلطة الدولة، وان تفرض شخصيتها المعنوية المستقلة في أدارة تلك الفعاليات الثقافية الوطنية المهمة، وعليها أن تبعد سلطة وتدخلات الرقيب الحكومي..لأن الثقافة الحقيقية هي التي تقف مع الشعب دائماً،  لدعم الجوانب الايجابية، وتخليص المجتمع من الآثار والجوانب السلبية .

اجعل الكتاب صديقك الدائم الذي لا يفارقك، ولا تجعله حبيس المنزل، ضع كتاباً في السيارة، واقرأه كلما سنحت لك الفرصة، في أي مكان وكل مكان، ألا ترى الشعوب الأخرى يقرؤون في الأماكن العامة، والمتنزهات، والمطاعم، وحتى في المستشفيات كبارهم وصغارهم؟ ونحن شعب (أقرء باسم ربك الذي خلق).. والقراءة ليست محصورة بمكان معين كالمكتبة أو المنزل فقط.

فأظهر كتابك أمام عامة الناس كما تظهر هاتفك النقال وتتباهى به، وأنهل من المعرفة والثقافة العامة، ولا تلتفت لمن يقول : يتظاهر بأنه مثقف، لا تخجل من التباهي بصديقك الحقيقي الذي يفيدك دون مقابل، لأن الإكثار من الغذاء مضر، إلا غذاء العقل لا ضرر من الإكثار منه.

لعبة البوبجي بديل الكتاب

لعبة «البوبجي»، اليوم حققت شهرة واسعة بين الشباب، ليس على نطاق الوطن العربي فحسب، بل في جميع أنحاء العالم، ففيها ترى مشاركين من كل الجنسيات، واستطاعت هذه اللعبة النووية أن تسيطر بقوة على ساحة الألعاب في العالم، وكانت سبباً أساسياً لعزلة كثير من الناس والعائلات في البيت الواحد، ومن أسباب انتشار هذه اللعبة هو عامل التسلية، وأوقات الفراغ لدى معظم الشباب، كذلك الملل وعدم وجود عمل للانشغال به، مشاكل اجتماعية، والعامل الأساسي للجوء الأفراد أليها هي النشوة النفسية التي يحصل عليها اللاعب من خلال هذه اللعبة، المشاكل الأسرية والزوجية على حد سواء، أيضاً جو يفرضه الأصدقاء، والهروب من عالم الواقع إلى العالم الافتراضي .

يوم وطني للقراءة

ألان أصبح لدى العالم يوماً خاصاً لكل شيء تقريباً، لكل فرد من أفراد الأسرة، للأصدقاء، للمياه والكهرباء، للمعلومات والصحة والمرض، نعم حتى إن الأمراض لها أيامً مخصصة في جدول العام، فهناك اليوم العالمي للسكري، والتوحد، والسرطان، والقولون، والزهايمر، والصداع، والتوتر، واضطراب نبضات القلب.. واليوم العالمي للغة العربية، والإنجليزية، والإسبانية، وماذا عن الموسيقى؟ نعم اليوم العالمي للجاز، والروك، وموسيقى الأشجار والعصافير والشلالات.

نعم هناك مناسبات لها أهدافها الجيدة فعلًا، فمثلًا إنه لأمر مستحسن أن يكون هناك يومًا وطنياً للربيع يوحد العراقيين، لكي نحتفل به جميعاً، ويوم وطني لتحرير العراق من البعث، ومن داعش، ومن المحتمل نحتفل بيوم تحرير العراق من الفاسدين، بعد أعادة أموال العراق المنهوبة .. وربما نخصص يوم للقراءة يحتفل فيه العراقيون في مهرجانات شعبية من شماله إلى جنوبه وكل واحد فيهم يمسك كتاب بيده اليمنى يهنئ بعضهم بعضاً في هذا اليوم المجيد، ينثرون الورود والزغاريد ويوزعون الحلوى في الشوارع والمهرجانات بهذه المناسبة السعيدة، بدل من توزيعها في المأتم الشخصية وشبه الرسمية... كيف لا والعالم يحتفل كل عام بعيد الحب و بمرض ألزهايمر، وبعيد الطفولة، وبالأسرة، نعم لأن الأسرة اللبنة الأولى للمجتمع ويحتاج أن تتذكرها، كما تتذكر أمك، وتتذكر الماء الذي تشربه، والأشجار التي تحيط بك، والشعر الذي تقرؤه، واللغة التي تتحدث بها، ولكن .............. متى نقرأ ؟

 

 شاكر عبد موسى الساعدي/ العراق/ ميسان

 

في المثقف اليوم