أقلام ثقافية

"بقليل من الحظ" لمصطفى قلوشي أو حين يكون الشعر المُتَّهَم

احمد الشيخاويإن في هذا التبعيض الدال على النوعية والجوهرية والندرة، ما يحرض المتلقي على جملة من الأسئلة، وجب تفجيرها إزاء تجاوزات راهن باتت الروح تكابد ضمن حدوده الشائكة، اضطرابات جمّة واغترابا مضاعفا.

بحيث لم يعد لها،سوى تلكم المضاعفات الرمزية لقيمة وجودية اسمها الشعر، وتعاطيه حدّ الإدمان والاختناق بأزمته هو الآخر.

على اعتبار أزمة الذات والعالم من أزمته، وهي سكة تحاول أن تحيد عنها بعض التجارب المتمرّدة على قواميس إنهاك الذات بغير الولوغ في المستحدث ولا شيء سواه، كونه الأقدر على تلبية احتياجات هذه الذات المثقلة باختراقات التقنية وتسارعية وحمّى العالم المادي،على حساب روح الكائن وإنسانيته.

يحاول الشاعر المغربي مصطفى قلوشي، عبر مجموعته " بقليل من الحظ" المزمع صدورها عن جامعة المبدعين المغاربة، في الآونة الأخيرة،الواقعة ب 16 نصا في 90صفحة من القطع المتوسط، يحاول أن يضعنا في مثل هذه الصورة التي تراوح، من خلالها الذات،استيعاب مثل زخم هذه التجاوزات أو الخروقات الضاج بها عالم أكثر توحشا وهدرا للمنظومة القيمية وتلاعبا بالرسائل الإنسانية السامية، ما نجم عنه نظير هذا الاغتراب المغري بالمزيد من المقامرات الجنونية الجانية على إنسانية النوع بدء وانتهاء.

يقول في موضع من الديوان، بعد أن يكون أمعن في غزل مرثاة تليق بحجم الفراغ الذي قد يشي به الفقد وترشق به الأمومة الآفلة على نحو فجائي، مغدق بمعان أخرى للذات والعالمية والحياة.

وبعد أن يكون سجّل هروبا من ذات تئن بسلبيات معجم الحياة، إلى فيء ذات موازية تضمّدها نوبات الممارسة الشعرية خصوصا، يتمّ في رحابها تصيّد دوال الحلمية المنفّسة عن آمال جيل تغتاله النكايات،وتغرّبه الإيديولوجيات المنتصرة للمادية الصرفة.

يقول:

 [من حسن حظّ النعامة

تدفن رأسها في الرمل

لا تعبأ بالعالم،

إذ يسخر من سوأتها](1).

إنها مسرحة بلغة السهل الممتنع، للعبة الحياة بشتّى أطيافها، قادرة على هذا الخلق والابتكار، طعنا بمبارزة تروي تفاصيلها أرجوحة وجودية لمتكاملين ههنا، هما: سلبيات الذات وأخطاء الواقع، إنذارا بنهاية ملغومة معمّقة لمشهدية الفوضى والاضطراب والانكسار.

مثلما يقول في مناسبة ثانية، أيضا:

[ليس لي غير

لغتي...

ومنافيها...

وهذا العراء...](2).

من ثمّ، نلفي الشعر وحده المتهم،وهو صانع جغرافية المنفى الذي قد تستعاد به إنسانية الكائن النازف بضرائب عالم جحيمي في عبوره، قدرا يكون به عراء القصيدة انعكاسا لعراء الذات وتفسخها بالتمام، كي تلفظ رواسب ثقافة المادية القاتلة والمؤججة لكامل هذه الفوضوية والدموية والجنائزية والخراب.

نقرأ له كذلك الطقس التالي:

[ما الذي يجعل الصبار أيوب

الصحراء؟؟

أهي أقدامك التي ظلّت تستجدي

واحة لتعب الطريق،

أم بضع غيمات عجاف؟؟](3).

من هنا، ذلك الاتهام الذي يقذف به الشعر على رمزيته وقدسيته، وإن أنعم بالبديل كمعادل للوهم،بما الفعل انفلاتا هذيانيا، وتجديفا ذهنيا مبتلاّ برذاذ العاطفة والثرثرة القلبية وهي تتيح لونا وضربا من لملمة المفقود وإصابة بضع ونزر السكينة الروحية المسلوبة.

متّهم وفق هذه السياقات،هو الشعر، باللاغائية، وإن جاد بحيوات عوالم الرمزية والمحاكاة أو الموازاة، كونه مجرد تعب ينضاف إلى وعثاء السفر الآدمي داخل دوائر وجود مشوه الملامح ومهزوز الهوية.

في فضاءات مجموعة " بقليل من الحظ" إذن... تتواتر وتتوزع القصائد متأرجحة مابين الخطابات التقريرية والسردية والفنية، كي تشكّل بالنهاية فسيفساء للبوح المدبج بفلسفة الفقد،رافلة بأفق المفردة البسيطة مبنى والمربكة معنى ودلالة،مستقاة من جدار اليوميات والمصفّاة من طقوس المعيش.

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

.......................

هامش:

(1) من نص "سيرة حياة" صفحة 14.

(2) من نص "دبابيس" صفحة22.

(3) من نص"بضع مشاهد من فيلم قصير جدا" صفحة 88.

 

في المثقف اليوم