أقلام ثقافية

احمد عزيز الدين: أهمية التنقيح

يكون الإبداع لأول وهلة ناقص الصورة غير مكتمل، لذلك يلجأ الشاعر ضرورة إلى مراجعته وتصفيته وغربلته، ويحذف منه الفضول والزوائد التي يمكن أن تنقص من قيمته، وتتحكم في مرحلة التنقيح والتثقيف "القوة المستقصية الملتفتة، ويعينها حفظ المعاني والتواريخ وضروب المعارف "، ويدل التنقيح في حقيقته على رغبة المبدع في أن يخرج إبداعه مبرأ من العيب، خالصا من الشوائب، مصفى من كدر العي، كاملا لفظا ومعنى ونظما و إيقاعا وتصويرا، ويدل التهذيب في جانبه الآخر على إحساس بالنقص، واتهام للإبداع، فالمنقح أو المحكك لا ينظر بعين الرضا لإبداعه لذلك نجده يعيد فيه النظر؛ ينقص منه ويزيد فيه، ويعد له، ويثقفه، حتى تكتمل صورته ويصير في حلة بهية وصورة مقبولة شكلا ومضمونا.

إن مقولة الطبع وربط التفوق الشعري بالقدرة على القول دون صعوبة أو معاناة، لا يتنافى البتة مع مراجعة الأشعار بعد أن تخرج إلى الحياة، إذ يأخذها بالرعاية والتهذيب حتى تستقيم متونها وتكتمل صورتها مشتملة على شروط الجودة، لهذا السبب وغيره رأينا جملة من الشعراء يربطون جودة الشعر بالتهذيب والتصفية، إذ كان الحطيئة يردد" خير الشعر الحولي المحكك"، والحولي هو الذي مر عليه الحول، وسبيل شعر ينظر فيه صاحبه حولا كاملا أن يخرج مستويا ناضجا صالحا لأن تلتهمه الجماهير، ومعروف أن الحطيئة ينتمي إلى مدرسة زهير بن أبي سلمى المعروفة بالصنعة، حيث كان المنتمون لهذه المدرسة يولون أهمية كبيرة لتنقيح أشعارهم وتهذيبها وإخراجها إخراجا واعيا متأنيا، وكان زهير قد أخذ هذه الطريقة عن أوس بن حجر وطفيل الغنوي، ومثل هؤلاء الشعراء يدخلون تحت مسمى" الشاعر المتكلف" وهو"الذي قوم شعره بالثقافة و نقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر كزهير والحطيئة"، ولا شك أن تقويم الشعر وتنقيحه بطول التفتيش و المدارسة وإعادة النظر يعكس في حقيقته قناعة لدى الشاعر مفادها أنه لا يرضى بأول خاطر فيعمل على سد ما في إبداعه من ثغرات ورتق ما فيه من فتق قد لا يظهر للوهلة الأولى، لذلك حذر النقاد من مغبة إخراج الإبداع دون مراجعة، خاصة وأن الشعر عقل المرء يعرضه، كما حذروا من أن يغتر الشاعر بإبداعه ويحسبه بالغا مرقاة

التمام ويخرجه دون غربلة، فتكون النتيجة وبالا عليه.

٢ - اقتران الجودة بالتنقيح:

يقرن الحذق والجودة عادة بالتنقيح وتفقد الشعر إذ " لا يكون الشاعر حاذقا مجودا حتى يتفقد شعره، ويعيد فيه نظره، فيسقط رديه، ويثبت جيده، ويكون سمحا بالركيك منه، مطرحا له، راغبا عنه، فإن بيتا جيدا يقاوم ألفي رديء".

إن مراقبة الشعر وتفقده وإعادة النظر فيه يكون الهدف منه في الغالب إسقاط الرديء وإثبات الجيد لفظا ومعنى وتركيبا، وكان أبو نواس من الذين يفعلون هذا الفعل" فينفي الدني ويبقى الجيد"، وكان " يعمل القصيدة ويتركها ليلة ثم ينظر فيها، فيلقي أكثرها ويقتصر على العيون منها، فلهذا قصر أكثر قصائده "، وغالبا ما تكون القصائد الجياد قصيرة، وكان الحطيئة الذي يدخل ضمن خانة" عبيد الشعر" " يعمل القصيدة في شهر وينظر فيها ثلاثة أشهر ثم يبرزها"، وهنا تكون المدة بين الإنتاج والإخراج أربعة أشهر، وهي مدة طويلة تعطي للشاعر الفرصة لإضافة ما يمكن إضافته، وحذف الزوائد والفضول، وتغيير التراكيب، وتقديم ما ينبغي أن يقدم، وتأخير ما يجب أن يؤخر، حتى يستوي الإبداع ويصير مستحقا للعرض على الجمهور.

***

قلم: احمد عزيز الدين احمد

كاتب وروائي وشاعر

 

في المثقف اليوم