أقلام ثقافية

مصطفى شقيب: الترجمة الادبية ورهان الابداع..

رواية مرافئ الحب السبعة نموذجا

هل لم تعد الحاجة تدعو الى مترجمين ادبيين؟

في زمن الانتشار المكثف للمعالجة المعلوماتية وذيوع البرمجيات الآلية، وآخرها انجازات برمجية "بين قوسين" الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي" وقدرته على محاكاة الانتاجات الآلية البشرية الى درجة أن وضع المترجمون ايديهم على قلوبهم خوفا من ضياع مناصب شغلهم.. لكن بإيجاز شديد، ما يسمى بالذكاء الاصطناعي ليس له من الذكاء الا الاسم، فما هو سوى نهب واستغلال للجهود البشرية ومحاولة انتاج مماثل بفعل سرعة المقارنات.. فالمنتوج آلي محاكي صرف، وسرعان ما يسقط هذا الروبوت في الاختبار إذا طلب منه صناعة نص مليء بالمشاعر والجماليات اللغوية والعناصر الثقافية.. فلا تنتج هذه الآلة غير كلمات جوفاء باردة، لا روح فيها ولا زخم، ولا نبض بشري صادق..

ولا عجب، فالمترجمون الادبيون بكل خلفياتهم العلمية والثقافية يعترفون بخيانتهم بدرجة ما لنص أدبي ما، فكيف بهذا الروبوت اللعين، الوليد غير الشرعي لحسابات وجشع الشركات الكبرى؟

إذن اين تتمثل صعوبات الترجمة الأدبية؟

يعترف الاختصاصيون اننا عندما نترجم نصا ادبيا فإننا نترجم كل مكونات هذا النص من محتوى وجمالية وايقاعات وايحاءات وتلميحات وخصوصيات ثقافية وما وراء الكلمات والاشياء الضمنية وما يريد المؤلف ايصاله الى قارئ اللغة الأصل.. لذلك يرى منظرو المجال انّ شروط الإبداع يجب ان يتضمن فضلا عن اجادة اللغتين، امتلاك ذائقة فنية وثقافة عميقة في كلي اللغتين.، ويتعين على المترجم ان يبدع عملا يضاهي او يقترب من العمل الاصلي، والامثل ان يبدو كانه مكتوب باللغة الهدف.

اعتبارا ان لا تكافؤ بين اللغتين في البنية والتراكيب والاستعارات وغيرها، كما ان القارئ الجديد قد يجهل كل شيء عن الثقافة المترجمة.

وفي مثالنا هذا الترجمة الفرنسية لرواية العلامة الدكتور علي القاسمي "مرافئ الحب السبعة" الصادرة في عدة طبعات منذ العام 2012 والتي حظيت باهتمام النقاد وكتب عنها عشرات الرسائل الجامعية..

في هذا العمل، كل عناصر الصعوبات والتحديات موجودة في هذا المؤلف الرائع،

ولنبدأ من البداية:

بعد مغادرة قسرية للوطن، واسفار وتنقلات عديدة، وشعور بثقل نفسي هائل، يستعد الكاتب لمعالجة تغريبته عبر الكتابة. فيستمر في مكتبه طوال اليوم والليل، يشرع في خط رواية متفجرة ذات ايقاع شعري خالص؛ لكنه كان يتوقف في كل مرة، يبلل الأوراق بالدموع ويقطّع ما كتب. ثم يعاود الكرّة من جديد.. ولو أنّ أصدقائه نصحوه بالتوقف قائلين له تصريحا أنه لن يستطيع الكتابة في هذه الظروف عن الوطن السليب والحرية المكبوتة والحب الخائب وذكريات الطفولة والأم والنخلة والقرية وحيواناته الأليفة ..

الا انه نجح في النهاية بعد مدة طويلة جدا-عشر سنوات-العقد الاول من القرن الواحد والعشرين..

إذن نحن امام ابداع ادبي عميق جياش، يفيض الما وشوقا وحنينا.. بوح انساني سام.. الرواية سيرة ذاتية شعرية درامية ملحمية معرفية، نبضت بمكنونات العراقي المهجّر ونثرت على الأوراق آمال الاحلام الكامنة في اللاوعي العربي.. فنجد التاريخ العربي والتغريبة الفلسطينية والاندلسية ومآسي الشعوب العربية وخصوصيات ثقافية فنية (من موشحات وتهاليل واشعار صوفية) وبطولات شعبية واعتزاز بالحضارة العربية وقصص حب عذري حزينة سعيدة..

كل هذا، الظروف التي كتبت فيها الرواية وروحها الفياضة،

علينا ابداعه بصدق واصالة؛

ويا لها من مهمة !

ولا بأس أن أحكي عن تجربة من سبقني في إعادة كتابة هذه الوراية، وهي محاولة فريدة قبلي انا من طرف المستشرق الروماني نيقولا دوبريشان، مترجم معاني القرآن الكريم وادباء عرب الى لغته.. هذا الرجل، أمام رواية مليئة بالإشارات الثقافية المحلية، اختار اسلوب الشرح والهوامش من اجل وضع القارئ في عالم القصة، وهكذا حفلت الرواية بهوامش كثيرة يحال المتلقي الروماني اليها.

اما من جهتي، فقد اردت انتاج رواية من دون مقدمات او هوامش، اردت ان يندمج القراء في عمل فني رائع دون توقف او شروحات..

لا ادري ان كنت مصيبا او مخطئا؟

للحقيقة، الرواية فضلا عن الزخم العاطفي والايقاع الشعري، عامرة بالنبرات الثقافية في كل ما كتب. فالقارئ الاجنبي اكيد انه لن يتلقى كما يتلقى القارئ العربي وقع كلمات بغداد، المستنصرية، ابو نواس، الحلاج، فاس، القرويين، محمد الصغير وخطاب امه اليه "نعم، ابكِ كالنساءِ ملكاً لم تدافع عنه كالرجال"، بل حتى اسماء شخصيات الابطال ووقعها، "أثيرة" المفضلة"، سليم (المفروض انه معافى لكنه دائما عليل بعشق الوطن والمراة.. )، اسم البطة "وفاء" رمز الاخلاص..

ولكي نرى بعضا من ذلك، لنقرا فقرات مختارة ومقابلها بالفرنسية:

عندما أوت حميدة إلى سريرها تلك الليلة، كانت تشعر بانقباضٍ لا تعرف له سبباً. لم تتمكَّن من النوم. تناولتْ كتاباً وراحت تقرأ في الفراش فلم تستطِع أن تفهم شيئاً مما قرأتْ. ألقتْ بالكتاب جانباً، وغطَّت رأسها في دعوةٍ منهكة للنوم. في منامها المنغَّص، رأت بغداد تحترق في الليل. كانت ألسنةُ اللهب تتصاعد إلى عنان السماء، وتغطّي المدينة الغافية على ضفتَي دجلة، بدثارٍ من دخان. في كابوسها المُريع، أطلّتْ من شرفة شقّتها على شارع أبي نواس، فتراءت لها كراسي المقاهي الممتدَّة على النهر تلتهمها النيران، وهي تلقي بنفسها في ماء النهر، للنجاة من ألسنة اللهب. وراح تمثال الشاعر أبي نواس يتلوّى وسط النيران وكأنَّ يوم القيامة قد حلَّ، وأُلقي بالشاعر السكّير في جهنم، دون أن تشفع له زُهديّاته وابتهالاته الشعريّة التي نظمها في أواخر حياته.

ومن بعيد، تراءت لها السواري الرخاميَّة لجامعة المُستنصِريَّة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى تحت النيران، وتتداعى جدرانها المزخرفة، وتذوب ألواح شبابيكها الزجاجيَّة الملوَّنة، فتجري ذائبةً في سواقٍ من لهبٍ، تجتاح الأزقَّة القريبة المؤدِّية إلى شارع المتنبي، فتحرق في طريقها الكُتُب والمخطوطات المكدَّسة في دكاكين الورّاقين، وفي المعاهد العلميَّة، وفي المكتبات، وفي بيوت الخواصّ، وفي صدور الرجال. تحترق أوراق الكتب ولا يتناثر منها في الفضاء إلا التكبيرات: " الله أكبر"، " الله أكبر"، " الله أكبر"، لتملأ الجوَّ مثل طائراتٍ ورقيَّةٍ لا تشدّها خيوط ولا يسوسها أطفال. وأمام أنقاض جامعة المستنصريَّة، وقف شبحُ الخليفة المستنصر بالله، حاسر الرأس، مُعفَّر الجبين، حافي القدمَين، وقد أذهلته الكارثة التي حلَّت بالجامعة التي شيَّدها.

كانت النيران تسري في كلِّ دربٍ من دروب المدينة العريقة، وتجتاح كلَّ مَعلمة من معالمها: المكتبات، المدارس، المصانع، المنازل، المعاهد، وأطلال الأَحبَّة. حتّى الحدائق العامَّة لم تسلم منها، فقد كانت النار تلفُّ جذوع الأشجار وتمحق أغصانها، فتتكسَّر باعثةً أزيزاً وأنيناً وأصواتٍ متنافرةً تختلط في ضجّةٍ رهيبة. وكانت ألسنة اللهب تلاحق الفراشات المتطايرة فراشةً فراشةً، فتحيلها إلى رماد؛ وتمتدّ إلى الزهور المتمايلة زهرةً زهرةً فتذرو وريقاتها هباءً.

أفاقت حميدة مذعورة وهي تتساءل: أين أنتَ يا زكي الآن؟

ص4

Cette nuit-là, dans son lit, Hamida se sentit déprimée sans savoir pourquoi. Elle ne parvint pas à s´endormir. Elle prit un livre et commença à lire sans rien comprendre. Elle jeta alors le livre et, épuisée, couvrit sa tête dans une invitation au sommeil. Dans son sommeil troublé, elle vit Bagdad s’incendier. Les flammes s´élevèrent dans le ciel, et la fumée enveloppa la ville qui était plongée dans le sommeil, sur les bords du Tigre. Un affreux cauchemar ! Depuis le balcon de son appartement, qui donnait sur la rue d’Abu Nuwas, elle vit alors les chaises des cafés dévorées par les flammes, et des individus qui se jetaient désespérément dans l’eau du fleuve. La statue du poète Abu Nuwas se tordait au milieu des flammes comme si le jour du jugement était arrivé. Le poète ivre était jeté en enfer, sans que les poèmes ascétiques qu´il avait composés à la fin de sa vie puissent intercéder.

Hamida aperçut au loin les pylônes marbrés de l’Université Al-Mustansiriya qui s’effondraient les uns après les autres sous les flammes, et les murs peints qui s’écroulaient. Les baies vitrées colorées se fondaient dans un ruisseau de flammes, qui envahissaient les ruelles voisines menant à la rue Al-Mutanabi, et brûlaient sur leur passage les manuscrits, qui étaient amassés dans les papeteries, les institutions scientifiques, les bibliothèques, les maisons et le cœur de l´humanité. Les feuilles des livres se consumaient, et seules les louanges qui évoquaient la grandeur de Dieu s´envolaient dans l´espace : « Allah est grand, Allah est grand, Allah est grand », remplissant l’atmosphère, tels des cerfs-volants sans fils, ni guide. Devant les ruines de l’Université Al-Mustansiriyya surgit le fantôme du calife Al-Mustansir Billah. Immobile, la tête et les pieds nus, et le front couvert de poussière, il était abasourdi par le désastre que l´université qu’il avait bâtie subissait.

Les flammes se propageaient dans tous les recoins de la ville majestueuse, s´emparant des bibliothèques, des écoles, des usines, des institutions… et atteignaient des êtres chers. Même les parcs publics n’avaient pas été épargnés : le feu cernait les troncs des arbres et balayait leurs branches, qui se brisaient en émettant un grondement. Au même moment, dans un vacarme assourdissant, se mêlaient des sanglots et des bruits discordants. Les flammes poursuivaient les cerfs-volants, les réduisant en cendres, et attaquaient les fleurs vacillantes, les réduisant en poussière.

Hamida se réveilla terrifiée en se demandant où était Zaki.

P14

آه يا نخلةَ أُمّي. لقد طوّفتُ في مدن الأحزان، وتنقّلتُ بين البلدان، عبرت البحار والشُّطآن، فلم أرَ مثلك في شموخكِ، وتناسق شكلكِ، وروعة لونكِ، وطيب ثمركِ. كلُّ الأشجار قميئة القدر بعدَكِ. شاهدتُ أشجار الأَرز الضخمة في ذرى جبال لبنان، ورأيت شجرة الباوباب العملاقة في جزيرة مدغشقر، وفي جنوب أفريقيا شاهدت الأهالي يتجمّعون في الربيع حول شجرة الجَكَرَنْدَا الزاهية بأوراقها القرمزية وهم يتمتمون بأمانيهم كيما تُستجاب، وفي أقصى بلاد سوس تلمّستُ شجرة الأرگان الصلدة التي قاومت زلزال أغادير؛ ولكن لم تدخل قلبي شجرةٌ مثلكِ، يا نخلةَ أمي، ولم يلذّ لي ثمرٌ كما لذَّ لي رُطَبكِ عندما كنت أتناوله مع اللبن المخيض. كلُّ الثمار لا طعم لها في فمي بعد رُطَبك، يا نخلة أمي. وكلُّ الأشجار تتضاءل، تتقزم، تتلاشى، إذا ما قورِنت بقامتك الفارعة وأنت منتصبة بإباء في دارنا القديمة الفسيحة الأرجاء. كم تمنيتُ أن أكون طائراً يحلّق في الأعال، يخترق الحدود دون أن تلحظه العيون، لأحطَّ على سعفة من سعفاتك التي يهزّها النسيم، كما كانت أُمّي تهزّ مهدي تحت ظلالك، أو كما كنتُ وأخوتي نتأرجح في أرجوحة نربطها إلى جذعكِ وأحد شبابيك المنزل. آه، يا نخلةَ أُمّي، كم أتمنّى اليوم لو أنّني صنعتُ تمثالاً معبوداً من تمرك، على عادةِ بعض عرب الجاهلية الرُّحَّل، وحملته معي في حقيبتي كيما ألتهم شيئاً منه عندما يعضّني جوع الحنين إلى الوطن.

ص14

Oh ! Palmier de ma mère ! Je me suis promené dans les villes de la tristesse, j’ai voyagé de pays en pays, j’ai traversé les mers et les rivages, mais je n’ai jamais vu quelque chose de pareil. Je n´ai jamais rien vu de pareil que toi, de pareil que ta grandeur, que ta forme harmonieuse, que l´enchantement de ta couleur, et que tes délicieux fruits. Aucun arbre n´est égal à toi. J’ai vu les énormes cèdres qui parsèment les sommets du Mont Liban ; l´arbre géant de l’île de Madagascar ; les familles en Afrique du Sud qui se regroupent autour du Jacaranda (arbre subtropical orné de feuilles violettes) pour y murmurer leurs souhaits dans l’espoir qu’ils soient exaucés ; l´arganier (arbre coriace de la région du Souss au Maroc) qui a résisté au séisme d’Agadir… Cependant, aucun arbre n’a pu conquérir mon cœur comme tu l´as fait, palmier de ma mère, et aucun fruit n´a été aussi délicieux que les tiens… tes fruits que je mangeais avec du babeurre. Aucun fruit n´a le même goût que tes dattes dans ma bouche. Oh ! Palmier de ma mère. Tous les arbres s’affaiblissent, s´éteignent, s’effacent, en comparaison avec ta grandeur, toi qui est érigé avec fierté dans notre ancienne maison spacieuse. J’ai tant souhaité être un oiseau planant dans les hauts cieux qui dépasse les frontières en passant inaperçu, afin de me poser sur une de tes palmes que la brise secoue. Ainsi le faisait ma mère lorsqu´elle me berçait sous ton ombre fraîche, ou comme nous le faisions mes sœurs et moi-même lorsque nous nous balancions sur la balançoire que nous attachions à ton tronc et à l´une des fenêtres de la maison. Oh ! Palmier de ma mère. J´aimerais tant dresser une statue à ta mémoire, à la mémoire de tes dattes, qu´elles soient vénérées, comme avaient l´habitude de le faire certains nomades de l´Arabie préislamique… les emporter avec moi, dans mon sac, afin d’en manger un peu lorsque la nostalgie pour la patrie me dévorerait.

P23

إنَّك لا تدري، يا أبي، أنَّني منذ ذلك الفجر الذي احترفتُ فيه الرحيل، والشمس تشرق كلَّ صباح في عيني من العراق، وتغيب كلَّ أصيل في العراق، وأنَّ ساعتي أدمنت توقيت بغداد، أينما ذهبتُ، لأنَّ هذه الساعة التي أهديتَها إليّ ذات يوم، تعمل بالنبض، نبض قلبي الذي تجسّه في معصمي. وقلبي ينبض بحبِّ العراق.

تقول، يا أبي، إنَّني قد أنسى وطني حينما أعبر إلى الضفة الأُخرى، وأنتَ على يقينٍ، يا أبي، أنَّني في أيِّ المحيطات أبحرتُ، وفي أيِّ البحار نشرتُ أشرعتي، فإنَّ بوصلة القلب ستبقى متجهةً دائماً نحو منائر وطني، وأنَّ ساريتي ستظلُّ أبداً ملفّعة بشال أُمّي وضفائر أُختي. وسأستنشق عبير بستاننا في نسيم البحر. وسيغتسل طيف بلادي في مجرى مركبي، وأرى خيال أعناق نخلاتنا في الغمائم فوق السفن، وسيجري ماء الفرات على الدوام في عروقي وأوردتي وشراييني ودمعي. وسأظلّ صادياً ظمآنَ لن أرتوي إلا ببضع قطرات من ماء الفرات الفرات.

وطني هو ذلك النهر المنساب برقّة في أحضان قريتنا الوديعة. وطني هو النخلات التي تحنو على النهر ويتدلّى سعفها الطويل في مجراه، فتمتزج خضرتها بزرقة السماء على صفحة مائه. وطني هو البجع البري الذي كان يسبح مع مجرى التيار قادماً من أعالي النهر، فكنتُ أسبح نحوه جذلاً، أطلق صرخات الفرح، أطارده بمرح، ترفرف أجنحته، يرتفع طائراً على سطح الماء، فانبهر به.

وطني هو قبلة أمّي على جبيني، وضمّة أمّي إلى صدرها، وحكايات أمّي والنعاس يداعب أجفاني في دفء فراشي، وخلطة الحليب والزبدة والعسل التي كنتَ تسقيني في فطور الصباح، وجدائل أُختي الكبرى وهي تقودني إلى المدرسة.

وطني هو الراعية الصبيَّة، عيدة، ذات الوجه الأسمر المليح المتناسق التقاطيع، والجسم الناحل الصغير، والذؤابتين المنفلتتَين من عصابة رأسها السوداء. عيدة التي كنتُ أجري خلفها وهي مسرعة إلى عملها في المروج، وأنا أنادي: " عيدة، عيدة" فتلتفت نحوي ملوِّحةً بعصاها مهدّدة وهي تقول: " وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" فكنتُ أضحك للهجتها البدويّة، والحزم البادي على وجهها الأسمر الصغير.

هل كنتُ أعبث، يا عيدة، حين كنتِ تعملين بجدّ، فاستحققتُ لعنتكِ؟ إذن الآن وقد أدركتُ معنى العمل بعد هذا العمر، أعذركِ واطلب منك العفو. أتدرين، يا عيدة، أنَّ ذاكرتي ظلّت موشومةً بملامحكِ التي لوَّحتها شمس بابل بسحرها، موشومةً بعينيكِ اللامعتَين، بشفتيكِ المكتنزتَين. ما تذكَّرتُ طفولتي، يا عيدة، إلا وكنتِ أنتِ تركضين في مروجها الخضراء بهمَّةِ وحزم، تردّين نعجةَ شاردةً إلى القطيع، أو تنحنين لتحتضني حَملاً لم يستطع مجاراة القطيع، أو تعدّين غنمك بالعصا قبل العودة إلى المراح، وتركضين وتركضين وكلبك يجري خلفكِ دوماً، كما لو كان مشدوداً بخيطٍ إلى أذيال ردائكِ ذي القبّ والسلهام الطويل.

ولكنْ، قولي لي، يا عيدة، أين أمسيتِ اليوم؟ هل عدا عليك الزمن الذي لا يرحم كما عدا عليّ؟ هل غزا الشيب مَفْرِقكِ؟ هل أقعدتك الشيخوخة فلا تستطيعين المشي، بله الركض؟ أم أنَّ يد الموت قطفتكِ قبل الأوان كما كنا نقطف التفاح في بستاننا؟ وكيف مرّت حياتكِ؟ هل كنتِ سعيدة؟ أم أنَّ الناس في الأرياف لا يعرفون معنى السعادة؟ حسناً، هل تزوجتِ؟ وهل كان زوجكِ رجلاً طيّباً؟ هل عاملكِ برفق؟ هل أنجبتِ أطفالاً بمثل ملاحتكِ، وسمرتكِ، وحدَّة لسانكِ؟ وأين هم الآن؟ هل أُتيحت لهم فرصة التعلُّم في المدرسة؟ هل مارسوا أعمالاً أقلَّ عنتاً من الفلاحة والرعي؟ أم التهمتهم نيران الحروب الهوجاء التي دمَّرت وطني؟

أتذكَّرك، يا عيدة، فأضحك من أعماقي. أنا الذي نسيت طعم الضحك في فمي منذ سنوات. أضحك من كلماتكِ التي كنت تنطقينها بنبرة حادّة: " وجعة شديدة، وأيش تريد من عيدة؟" هل كنتِ تعدّينني طفلاً شقياً يبتغي إضاعة وقتكِ فتردعيني بأقسى الكلام، وبتلويحٍ من عصاك الطويلة؟ ص80

Vous ne savez pas, père, que depuis cette aube où je suis parti, chaque matin le soleil se lève dans mes yeux en Irak et le crépuscule s´y couche aussi… ma montre est réglée sur l’heure de Bagdad, peu importe où je vais, parce que cette montre que vous m’avez offerte un jour, fonctionne par impulsion, l’impulsion du cœur palpable sur mon poignet. Or mon cœur bat pour l’amour de l’Irak. Vous dites, père, que je parviendrai à oublier ma patrie quand je passerai sur l’autre rive. Pourtant, vous savez bien que la boussole de mon cœur sera toujours orientée vers les phares de ma patrie, et que ma grande voile sera à tout jamais enveloppée du châle de ma mère et des tresses de ma sœur. Le parfum de notre verger, je l’inhalerai dans la brise de la mer. Le spectre de mon pays se lavera dans le courant de ma navigation, l’ombre de nos palmiers planera dans les nuages et dominera les bateaux, et l’eau de l’Euphrate coulera en permanence dans mes veines, mes artères, mes vaisseaux et mes larmes. Assoiffé, seule l´eau de l´Euphrate apaisera ma soif.

Car ma patrie, c’est cette rivière qui coule tendrement dans notre paisible village. Ma patrie, ce sont les palmiers qui se penchent sur la mer, les longues palmes tombantes, dont la couleur verte se mélange au bleu du ciel, irradiant ainsi la surface de l´eau. Ma patrie, c’est le cygne qui nage le long du cours d’eau en amont de la rivière, vers lequel je nage, exalté, lançant des cris de joie et le poursuivant pour m´amuser. À l´envol, il ne court pas à la surface de l´eau, mais décolle directement d´un seul élan, et cela m´impressionne !

Ma patrie, c’est ma mère qui baise mon front, me serre contre sa poitrine, me raconte des contes, tandis que bien au chaud dans mon lit, la somnolence caresse mes paupières. Ma patrie, c´est ma mère qui me sert au petit déjeuner ce délicieux mélange de lait, de beurre et de miel. Ma patrie, ce sont aussi les tresses de ma grande sœur qui me conduit à l’école. Ma patrie, c’est la petite bergère Aida au charmant visage brun et harmonieux, au petit corps maigrelet… Aida, derrière laquelle je courais alors qu’elle allait aux pâturages, tout en l’appelant « Aida, Aida ». Elle se tournait alors vers moi et brandissait son bâton menaçant en disant (d’un accent bédouin) :

Qu’une douleur aiguë te touche, que veux-tu d’Aida ?

Je riais de son accent, et de la fermeté apparente sur son petit visage foncé. Oh ! Aida. Je ne faisais que rigoler tandis que tu allais à la besogne. Est-ce que je méritais une telle malédiction ? Avec l´âge, j´ai enfin compris ce qu´est le travail… je te comprends et te demande pardon. Tu sais, Aida, ma mémoire est restée tatouée par tes traits que le soleil de Babel avait dessinés avec sa magie, marquée à tout jamais par tes yeux brillants, par tes lèvres pulpeuses. Chaque fois que je me souviens de mon enfance, Aida, je te vois courir dans les pâturages verts avec détermination et fermeté, ramenant une brebis errante au troupeau, te penchant sur un agneau n´ayant pu suivre le rythme du troupeau, ou encore comptant tes moutons avec le bâton. La joie de vivre ! Tu courais sans cesse, ton chien toujours derrière toi comme s´il était pendu à ta robe longue à capuche.

Mais, dis-moi, Aida, où étais-tu ce soir-là ? Le temps, impitoyable, t’a-t-il transgressée comme il m’a transgressé ? Le grisonnement a-t-il envahi tes cheveux ? La vieillesse t’a-t-elle estropiée ? Peux-tu encore marcher, sans parler de courir ? La main de la mort t’a-t-elle prématurément cueillie comme on cueillait les pommes dans notre verger ? Et comment as-tu vécu ? As-tu été heureuse ? (si les gens de la campagne ont le sens du bonheur). T´es-tu mariée ? Ton mari a-t-il été un homme bienveillant ? T’a-t-il traitée tendrement ? As-tu eu des enfants ayant ton charme, ton teint hâlé, et ton insolence ? Où sont-ils maintenant ? Ont-ils été à l´école ? Ont-ils exercé des professions moins pénibles que la besogne agricole, l’agriculture et le pâturage ? Les feux des guerres dévastatrices ont-ils ravagé ma patrie ?

Je me souviens de toi, Aida, et je ris au fond de moi. Moi, qui depuis des années a oublié le goût du rire dans ma bouche. Je ris des mots que tu prononçais sur un ton aigu « Qu’une douleur aiguë te touche, que veux-tu d’Aida ? ». Est-ce que tu me considérais comme un vilain garçon qui désirait abuser de ton temps ? Tu me dissuadais alors avec des mots durs en brandissant ton long bâton.

p.88

***

مصطفى شقيب - مترجم أدبي

يونيو 2023

في المثقف اليوم