أقلام ثقافية

شعرية العزلة في مسودة: سلفي مع الوطن لأحمد مصطفى

احمد الشيخاوييستأنف الشاعر المصري احمد مصطفى سعيد مغامرته الإبداعية، مع الحرص على تطوير تقنيات الكتابة وعدم السقوط في الديدن الاستنساخي للتجربة، كأنما يعيش حيوات موازية، تمده بكامل هذه الطاقة والقدرة على التكيف مع عزلته الرمزية، بالطبع، كمبدع، يكابد من التحديات والأوجاع والاختلال الهوياتي، الشيء الكثير.

عزلة طوعية يؤسس لها طور ما بعد تعطيل الذاكرة، مثلما تشي بذلك عتبة المجموعة، ومن ثم غدو الوطن مجرّد ذكرى.

حياة بعدية بمنظومة أسئلتها الشائكة، وجملة محاكمات الأجيال لذات توسمت في الشعر ومعتنقيه، نبوءة وخلاصا، ليس تجود بهما رهانا أخرى، غير هذه العزلة التي تشذب القصائد وترعاها بصدق وحس انتماء وإنسانية فياضة، لحين إشراقة الغد وترسّل مواويله، ليس ليقال للشعر غائية، وإنما لتحفظ صفحات تقديس العزلة حين يكون الشعر هو الوهم المتاح، قد يفيد الهروب أو تفادي المواجهة والاصطدامات، كونها لن تخلد بالنهاية سوى هشاشة ومخملية وملائكية الكائن، قاتلا ومقتولا، بانيا وهدّاما، منتصرا ومنهزما، غائبا وحاضرا.

وأنا أقلّب فصول هذه المسودة المزمع إصدارها قريبا، اهتديت إلى بضع من خطوط او خيوط مرجانية، تغمز بما يفيد تشبع شعر احمد مصطفى بروح الانعزالية، بحيث نقتبس له المقطع التالي، الأشبه بدندنة منفلتة من ذات مكابرة، يُخجلها تبرير فشلها للأجيال، يقول :

 [لا تحقدي علي صغيرتي

فلست بنبي

لتفشي لي الأيام بسرها

وما أخفاه عني غدي

وما كنت للغيب بقارئ

خانتني فراستي

فاتبعت زخرف الحلم

معصوب القلب ](1).

موقف نفي النبوءة هذا، مقابل التشبث بعوالم العزلة التي قد تصنع الفارق، وتضغط باتجاهات إنسانية متماهية مع طقوسيات الوهم التي يُغدق بها واقع إدمان الشعر.

هي التبعية للحلم الذي تقف عند الأزمنة، وتقاس الأعمار لديه بتكعيبية الوجع وتركيبية المعاناة.

هذا الحلم الذي يذيل الأوهام الإبداعية إجمالا، على نحو تنرسم له ملامح أنصاف الكائن الأخرى والمفقودة، جراء جور الانتماء العالمي عليه، وسيادة منطق "الهيمنة للأقوى"، بما يتيح لإيديولوجية الاصطدام الحضاري تفريخا معمقا لكامل هذه الهستيريا والجنون المنذر بانقراض النسل والأنواع.

ننتقل إلى هذه الومضة، لنستجلي ما وراء باب عزلة شاعرنا، ومابعد حرائق الشعر الذي يوبّخ الوطن ويلعن عقوقه كما يعاتب الحبيبة بصفتها شريكة في مثل هذه المجزرة الوجودية البغي والباغية.

[الدخانُ الأزرقُ

أولُ مَنْ يصافحُنا

ما إنْ يفتح لنا صديقُنا

بابَ عزلتِهِ

ونتعثرُ في أعقابِ السجائرِ

فمذ هجرتهُ البهجة حبيبته

طلقَ صخب الحياةِ

وارتضى

بطيفِها

واجترار الهمساتِ

وسبّ العجز العوزَ

والوطنَ العاقَ

للطيبينَ

خاوي الوفاضِ](2).

كأنما ذنب الطيّبين، أسراب الشعراء، تحديدا، هذا النشوز الذي يميّزهم عن بقية جنسهم العادي جدا، ما جعلهم بشكل أو بآخر يُصعقون بكهذا عقوقا، يؤجج صعلكتهم وثورتهم النبيلة على عالم يخلو من حماقاتهم وأوهامهم ، ويؤازر النظرية الأفلاطونية ومعها أيقونة المفاهيم الإيديولوجية الحاقدة على الشعر والمشككة في وظائفه النفسية والجمالية والروحية.

نقرأ له أيضا:

[أما زال قلبها رابطاً على العشق

أم البعاد كسر الأصفاد

ومنتظر

أول طارق

ليقول له لبيك

أيا رسول العشاق

هل أخبرتها

مذ خطونا في درب المحبة

لم نخن للرياحينِ عهداً

ولم نجرحْ بهجر

خدود الورد

أخبرها

اسمها

على اللسان ورد

وفي الغد

سترمي على مهدك النجوم

دثاراً من الوجد أبيض

وطرحة

علاها الفل](3).

تلكم عزلة اختارها شاعرنا وارتضها، للفكاك من تداعيات عالم بدّل ثقافة الانتماء، رابطا إياها بعولة متوحّشة جنت كثيرا على إنسانية الكائن، كما جرّدته من فلسفته الروحية، وأججت جوانب الشيطنة والشرور في كينونته، ليقبع الشعر وحده الحامل لمشاتل البراءة، المحمول على روح انكسار سدنته.

شعر العزلة، أو هذه الكوة إذا تُجترح في المحرّم الأفلاطوني والإيديولوجي، لتم تنفّس معاني الوجود عبرها، والحلم بغد إنساني مشرق، وإن كذبا على الذات المختنقة بتوجهها الواقعي المغلّف بذبول مشاهده وجفاف فصوله.

 

احمد الشيخاوي

....................

هامش:

(1) من نص "آسف صغيرتي" صفحة 23.

(2) من نص "متتاليات الوجع " صفحة 39.

(3) من نص " حديث مرسل بطعم العشق صفحة115.

*شاعر وناقد مغربي

 

في المثقف اليوم