أقلام ثقافية

الحمار ينطق في ليلة صيف!

زيد الحلياعرف شغف د. طه جزاع في القراءة، لاسيما عالم الروايات، وهو شغف لا يعادله شيء، سوى حبه لقراءاته في الفلسفة، باعتبارها تخصصه الاكاديمي، ووجدت ان قراءاته المكثفة، كونت شخصيته، وحددت اختياراته في انحيازه لهذا الفكر أو ذاك، وعززت نزعته الإنسانية وانفتاحه على ثقافات وحضارات أخرى، وعلى مختلف جوانب الفكر الإنساني.. فالقراءة عنده كما أراها، هي لذة القلق، سمو الروح، ونبل الغايات، وفعل حي للتفاعل والحوار والجدال المستمر، وتربية للحس النقدي، وهي ايضا فعل تطهر، وتطهير وسمو وتسامي بأرواحنا .. وحين اهداني مؤلفه الاخير (كابوس ليلة صيف) ظننت ان الكتاب دراسة في الفلسفة او بحثا فيها، او مجموعة من مقالاته جمعها في كتاب، غير اني فوجئت بعد قراءتي الممتعة للكتاب، عدم استطاعتي تصنيفه، وفي اية خانه اضعه، فهو ليس بكتاب خواطر، ولا فلسفة، بل هو يتجه صوب المكتبة القصصية بقوة، ثم اغير رأيي لاحقاَ، بالقول انه كتاب فلسفي بامتياز، او مقتطفات من سيرة ذاتية .. انه كتاب مثل قطعة فسيفساء فكرية، لكن بأسلوب مرن قابل للتداول والنقاش والاستيعاب.

لقد خرجت بانطباع راسخ، ان مضمون الكتاب، ومساراته الفكرية والفلسفية، يقصده المؤلف، ويهدف اليه، وربما هذا الانطباع يعكر مزاج د. جزاع، كونه بالضد تماما من ما اشارت اليه مقدمة الكتاب التي سماها المؤلف (تنبيه) وهي بثلاث كلمات، لكنها بمعنى واحد، انشرها نصا: (اعلنُ هنا بكل صراحة وشفافية ووضوح ان المقصود في هذا الكتاب ومحتوياته، هو ذلك الحيوان الخدوم الصابر الاليف، كبير الرأس، قصير الذيل، طويل الاذنين، شارد العينين، الذي يُسمى حمارا .. وان اي تشابه بينه وبين اي فرد من ابناء البشر، امر غير مقصود، ومحض مصادفة، إلا اذا كان الشبيهُ مؤهلاً لذلك)

حمار مثقف !

اذن، الكتاب يسبر غور حيوان، دائما يتحمل اذى الانسان، لكني في ثنايا قراءاتي للكتاب، اشفقت على الحمار، الذي حمله الكاتب كل وزر ورؤى الانسان، واصبحت افكار الحمار والانسان، صنوان في المعنى، متغيران في الفهم .. فعلى مدى ست ليال، يُضرب الانسان (ابو صماخ) الذي البسه المؤلف، ثوب الحمار، بسوط الفلسفة وتنوع الافكار، وهو سوط من حرير، ومنها نعرف ان الحمار ليس سهلا، بل هو مثقف، فرحلته مع الحرف والكلمة والفكرة، رحلة مكنته من عبور الأمصار ومن التعرف على ثقافات وحضارات وآداب مختلفة، دون جواز سفر أو حتى تذكرة، وجعلته هذه الرحلة في تعطش دائم للمعرفة والثقافة دون أن يعرف أن الأمر سيشكل إدمانا لذيذا سيرافقه مدى الحياة...

كنت اظن، ان الكونتيسة دي سيجور"،الاديبة والقاصة الشهيرة، روسية المولد، فرنسية الثقافة، هي الاهم، التي تشد القارئ بأسلوبها المتميز، حين تجعل الافكار الفلسفية والحكم الحياتية على لسان الحمير، لكني للأمانة وجدتُ حمار الفيلسوف د. طه جزاع اعمق، واقرب في توصيف واقعنا ... نفهم، من (ابو صماخ) ان الحياة البسيطة، هي خير ما توصل إليه عمالقة الفلسفة والفكر بعد كم كبير من البحث والاستنتاج والاستدلال على مدار التاريخ بُمختلف عصوره، وان التعقيد في الحياة تم رفضه من قبل عدد ضخم من المُفكرين والفلاسفة والعلماء، ويُمكن القول أيضاً، أنه على مدار التاريخ البشري الطويل لم تكن البساطة في الحياة خياراً كما يراه البعض بل كانت ضرورة مُلحّة وقصوى، لكن الحمار في (كابوس ليلة صيف) يؤكد من جانب آخر ان الحياة عند من يمثلهم، بدأت بالتعقّد والتشعّب، فأصبحوا في ظل هذه الموجة الشرسة من العنف هو الذي يُطلق عليهم بالإجماع لقب " ابو صابر" الذي يتحمل الاسى دون ردة فعل !

كتاب د. جزاع، يحتوي على جوانب فلسفية و فكرية خاصة كثيرة، لها دلالاتها المجتمعية، ويضم بين طياته، حكايات (الحمار وجحشه الابيض الصغير) وهي حكايات عديدة، تحفل بالمعاني المعاشة في درابين حياتنا اليومية، نلمس فيها بوضوح لمسات الفيلسوف والمفكر.

واختتم سطوري، بالقول، يخطئ كثير من النّاس حين يتوهّمون أنّ قراءةَ مثل هذا الكتاب، الذي تجري فحواه على لسان حيوان، مثل (الحمار) هو ضربٌ من ضروبِ العبث، وشكل من أشكال الترف الفكري، ولون من ألوان تزجية الوقت فيما لا يعود على القارئ الواعي بالنّفع.. بل هو لون ونهج، يستطيع من خلاله الكاتب أن يمرّر رسائلَه وتوجيهاته، وبثّ أفكاره التي يؤمن بها، وقد نجح زميلنا العزيز بهذا المنحى .. ونأمل منه المزيد .

ان كتاب (كابوس ليلة صيف) يشبه الموسيقى نسمعها، ونعيد الاستماع إليها حسب المزاج، وأحيانا لتغيير المزاج.. غير انني اقول بثقة: أهلا بالفيلسوف الكبير، المتواضع د. طه جزاع ..

 

 زيد الحلّي

 

 

 

 

في المثقف اليوم