أقلام ثقافية

الكلام الفني في أعمال جيمس كيلمان

صالح الرزوقبقلم: سكوت هايمس

ترجمة: صالح الرزوق


شيء له معنى أن يقول كيلمان عن قصته المعروفة “شيء رائع أن تكون رائعا” إنها “محاولة مبكرة لتدوين صوت المتكلم بلغة أدبية أو صوتية”.  ولتكون القصة ناجحة احتاج لعدة مسودات، لكن الدقة الألسنية لم تكن هدفه النهائي، أو أنه لم يتعامل معها على أنها بحد ذاتها هي الغاية وخاتمة المطاف، فالاستثمار الذي يقصده كان أدبيا قبل أن يكون صوتيا.  وقد أكد كيلمان عن تحسسه من النقد الذي يعتقد أنه وضع “أدوات التعبير” في “رأس أولوياته”، بينما “الشيء المعبر عنه لم يحصل على ما يستحق من عناية”. اللغة وسيط فني وبه حاول أن يصنع شيئا. أن يكون الوسيط “صالحا” ضرورة من الضرورات، ولكن هذا ليس كل شيء. إنها نقطة جوهرية أن تفهم روح الجانب الإستاطيقي في مقاربة كيلمان لما هو شفوي.. اللهجة وصوت المتكلم.  كيلمان فنان واقعي، وهو لا يستلهم لفظيا “الثقافة الشفوية” دون تعمد (دون وعي بذاته). فهي ثقافة مرتبطة بنشاط اللفظ “الطبيعي”. علاوة على ذلك لم تكن إضافة كيلمان على المستوى الألسني “فجة” - بمعنى أنه لم يحاول تجاوز تقاليد “شكل الأدب الإنكليزي الرسمي”، وفي ذهنه هدف واحد هو كتابة “المضمون الاجتماعي” مباشرة في داخل النص، كي يؤسس لأسلوب أصيل دون وسيط. إن ما تجده في محكيات كيلمان، يبدو “مادة خاما”، وبلا مواصفات فنية،لكنه في الحقيقة أسلوب مقصود بحد ذاته، ووراءه عمل حرفي متعمد. لنأخذ هذه الفقرة من رواية “عليك أن تكون حذرا في أرض الأحرار”، وفيها يقوم البطل جيريمياه براون بمتابعة حوار بين متشردين يتسكعان حول المطار حيث يعمل بصفة حارس: 

سحبني الموضوع إلى أعماقه، وكلما طلع اهتمام هومير وجيثرو، طلع في دماغ كل منهما حكايات مسحورة وفوق طبيعية عن عالم الفضاء الخارجي وألغازه وعمالقته. وهل هيك عجيب بحضور ويسكي 147 روتغات المركز الذي يشربانه. الزلمتان مغرم بالكتب المسلية التي تتكلم عن عجائب الحياة في  باطن الأرض ومخلوقاتها وعن الأولاد الزغار الذين يسبقون بذكائهم المشعوذين والعرافين الخطرين.  كانا يعتقدان أن “العالم كما نعرفه” لن يتحسن حتى نعود إلى أخلاق وآداب عصر لانسلوت وجوينيفير وفرسان المائدة المستديرة. 

من المعروف أنه طالما كان الحوار في الأدب الواقعي  يميل لتوظيف مثل هذه اللغة المنطوقة في كلام الشخصيات الهامشية والغريبة - شخصيات من نوع هومير وهيثرو. ولكن الصيغ السردية هنا - الصوت “المرافق” الذي يخبرنا بالحكاية، عوضا عن أن نراه بميتا لغة سردية -  كان مشبعا بـ “المحلية” والطرافة والغرابة. لقد فرضت الصيغ الإسكوتلاندية هوية سردية “عميقة” (مثل كلمة طلع mair بمعنى زاد، هل هيك nay  بمعنى لا.  الزلمتان  baith بمعنى كلاهما). ويبدو أنها كلمات تؤصل هذا الصوت كما هو مبين أعلاه. ولكن كانت نبرة الصيغ السردية، كما يبدو، تخفف من تأصيل صوت الراوي، وتقدمه  بشكل صناعي ومتعمد (مثلا: تراكيب الأفعال ومنها قوله “حتى نعود إلى”). والسخرية من التوظيف الاحتفالي للمفردات والعبارات الرسمية والأدبية “المفخمة” في اللغة الإنكليزية من الأدوات المتكررة  في كتابات كيلمان، غير أن الهدف أو اتجاه السخرية الذي نلاحظه هنا (المشعوذين الخطرين) غير واضح..  قوالب السرد الفانتازي تصنف بشكل عابر في فئة “الكتب العجيبة”، يعني: الكتب المليئة بالغرائب و“ما فوق الطبيعي”، ولكنها “عجيبة” بنظر أبناء الطبقة التوسطة. ومثلما أن “الحركة إلى الأمام” تتحقق بالعودة إلى الرومنس القروسطي، تجرنا المستويات المختلفة لهذا العبور بعدة اتجاهات. وإذا تكلمنا بمصطلحات سردية،  النتيجة غريبة ومقلقة بدرجة أكبر مما هو عليه الحال في هاري بوتر. إن العالم “كما نعرفه” عبارة تترك لدينا انطباعا بالابتعاد والانفصال. نحن مستغرقون في كون متخيل أسلوبه شديد القصدية لدرجة كبيرة (إن لم يكن على درجات غير متفاوتة)، وهو أسلوب يعاني من الاستلاب لدرجة الغربة عن بروتوكول الواقعية “المباشرة” والتي تتبلور بالعادة بتوظيف الكتابة المحكية باعتبار أنها “خطاب موضوع” (ترعاها “ا ل ذ ا ت = الذات”). وليس هناك إشارة مرجعية يمكن لنا بها تصوير “الحقيقة” أو “الآثار الحقيقية”. وليس هناك واقع ملموس ومحسوس  للـ “أصوات” لنتمكن من قياس ومعاير إخلاصها.  وبكل تأكيد كيلمان معروف على نحو شائع أنه يوظف الأسلبة الفنية والأدوات الناطقة ليزيد من حضور، وليس من فوضى، الوصف الواقعي:

ربما ترغب أن تبتسم ولكن اللعنة على كل  ما تبتسم له، هذا هو الواقع، وعليك أن تكون حاضرا من أجله، تعلم ماذا أعني إن لم يكن لديك مجال لتختار يا رجل، هذا وضع مقلوب يقف على رأسه. يا للمسيح إنه يرتعش، يرتعش. توقف عن ذلك. ولكنه لم يتمكن من التوقف. إي يمكنه. نهض عن السرير وتقدم للأمام بأربع خطوات صبيانية، ثم أربع خطوات صبيانية إلى الخلف. أتعب نفسه وبدأ يتنفس، يتنفس فقط، حسنا، ثم إلى الجينز، ارتداه، وتوازن بيد واحدة اتكأ بها على الجدار، ثم القميص الرقيق الذي بلا ياقة.

يستعمل كيلمان هنا الكلام وتأثيراته ليمنح حياة سامي مسحة درامية: إيقاع هذه الفقرة من روايته “كما تأخر الوقت، كم تأخر” تصور قلق الشخصية وجهده الفيزيائي والعاطفي لضبط ومعايرة تدفق “تنفسه” الذهني، ويقودنا في النهاية لنكون في حالة انسجام عبثي مع ظروف سامي. حتى أصبحنا جاهزين لنشعر بما يصوره. إن المؤلف يستعمل، برؤية خاصة، اللغة كمادة مرنة يمكنه قولبتها ليحقق بها أثرا نوعيا.  غير أن  كيلمان ينأى بنفسه عن الاستعمال السلبي للغة والتي يجب على “أصالتها” النقية أن تكسب أكبر قدر من اهتمامنا، ولذلك يركز، من أخمص قدمه لمفرق شعره، على تشكيل وتطوير الانطباعات الألسنية التي يعتقد أنها طريقه للتأثير بالقراء. وغالبا ما يحاصر سبلنا الروتينية التي نحلل بها الأصوات ” أو شكل الألفاظ”.

وهذا يذكرنا أن اللغة موجودة لتستعملها لا لتعيشها، وهي ليست ببساطة “تجسيدا” للهوية الثقافية أو التجربة. وهناك شيء محير جدا بخصوص الافتراض الذي يقول: إن هويتنا الثقافية “محبوسة بطريقة ما داخل لغتنا. وأن هناك علاقة عضوية وطبيعية بين اللغة والثقافة” كما ذكر بيل أشكروفت. بالعكس من ذلك “اللغة ليست ببساطة موضعا أو مخزنا للمضمون الثقافي، ولكنها أداة، وغالبا سلاح”، ويمكن استعماله لأغراض متعددة، أداة هي بذاتها جزء من التجربة الثقافية التي نستعملها”. وكما سنرى لاحقا، إن صعوبة تجريد اللغة من الواقع الاجتماعي الذي يستعملها يشكل تحديا لأية محاولة تراكم المقاربة الجمالية فوق الأشكال المحكية. لكن حاليا، يكفينا أن نلاحظ أن اللغة هي وسيط وذات في الجانب الفني من أدب كيلمان. وهكذا نحن لا نتلاعب باللغة الإنكليزية، ولكن أيضا بعادات القارئ الألسنية في الاستقبال والفهم، وذلك  لفرض أسلوب يصنع فرقا  أو أثرا.  غير أنه غالبا ما يتم تجاهل نطاق هذه الآثار اللفظية. على سبيل المثال، معظم المونولوج الداخلي المومأ إليه أعلاه يكون “مقنعا” لما ينطوي عليه من محاكاة، ويمكننا بسهولة تخيل سامي (صاموئيل) وهو يفكر بهذه الأفكار.  ولكن بمكان آخر من الرواية تلعب المشابهة دورا مختلفا جدا.

يركع على ركبتيه حتى يلامس الأرض، باردة ولكن صلبة. بسط راحتي يديه على الأرض. وانتابه هذا الإحساس أنه بمكان آخر من العالم. وبدأت موسيقا تعزف في رأسه، موسيقا حقيقية جدا،  نومته مغناطيسيا، وها هي الآلات الموسيقية تقرع تم تم تم تي، تم تم تم تي، تم، تم، تم تي تم، تم تم، تم تي، تم، تم تم تم تي، تم تم تم تي، بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ بونغ.  والآن هو في الأسفل يستدير ليستلقي على ظهره، يستلقي هناك مبتسما، ثم يبرز وجهه المتقلص والمتجهم، وهو يتألق بالألم. 

هذه “الموسيقا الحقيقية جدا” تعمل بواسطة إعادة تشكيل اللغة السردية، وتبدو على أساس أنها ألفاظ خام. وعوضا عن أن تكون نافذة على الكون السردي، أصبحت اللغة في حكاية سامي هي الحكاية، “أداة” تنجز ولا تصف إدراكاته فقط. إن الطلاء اللفظي يترسب بطبقات سميكة وداكنة،  فكيلمان يعمل على “تغريب” الإطار الذي نستغله لتحديد موضعنا من النص وبروتوكول تمثيله. لقد أصبحنا واعين تماما باللغة، فهي عامل يعمل بذاته و بمنطقه، ويكون وسطا تمر منه خبراتنا عن شخصيات من الواقع. يمكن القول أنه أصبحنا متأقلمين مع وجه المحكاة غير اللفظي للغة نفسها: بضجيجها الفيزيائي والمادي الملموس. سامي لا يفكر ولكنه يسمع، وفي هذا المشهد نحن مستمعون مثله.

هذه “الموسيقا حقيقية جدا” لأنها تعلق في فراغ الميتا خطاب الواقعي، وفيه لا يكون للغة السرد مادة، بل تكون نتاجا لغير الملفوظ.

هل ما يجري هو تعميق وتصعيد للواقعية، أو أنه انفصال ونأي عنه؟. هنا يوجد أثر مشابهة وتطابق - نوع من الاتكال على الصوت “الحقيقي” الذي يصخب في رأس سامي، على افتراض أنه مرتبط “بالألم المبرح المتفجر” - ولكنه ألم يستمد معناه من التعاطف التخيلي “لأذن القارئ الداخلية”، وليس لأي سيناريو “موضوعي” مسجل وممكن. عليه نحن قريبون من “الحلم الرومنسي للكلمات التي تفضح عالم الإنسان الداخلي”. إن أدوات كيلمان تركز على دراما اللحظة للعالم الداخلي وتركز على الإرث الرومنسي (وبالأخص في روايته “نفور”). وهذا يتضمن سعي ووردزورث من أجل صياغة أشعاره “بلغة بشرية حقيقية”. ويقتبس ديريك أتريدج نبوءة ووردزورث في “مقدمة” الحكايات الشعرية Lyrical Ballads” ، أشهر مقولة عن فن الكلام باللغة الإنكليزية، فيقول: 

على قراء الشعر أن “يكافحوا شعورهم بالاغتراب والغرابة”. والمعنى واضح  إن عبرت عنه بلغة مجازية:  ما نعرفه عن الشعر في عصر ووردزورث لا يعكس لغة البشر “الحقيقية”، ولكنه اجتهاد وجد الفرصة للانتشار..  وإن موقفهم من شعره المختلف - والذي تشع منه تلك اللغة “الحقيقية” وتضيء - يعبر عن حيرة واستنكار”.

وأحد مفاهيم غرابة “الحقيقي”، أن التقاليد المألوفة منفصلة تماما عن الواقع، ولكنها أيضا تحدد إدراكنا، فيبدو الواقع غريبا. وهذه مقاربة للكتابة بالمحكية والتي كان كيلمان، أحيانا، يدعمها كما يبدو. فهو يؤكد “أن الكتابة بالطريقة التي يعيش بها الناس” تظهر غريبة فقط بسبب الفرض القاسي للمعارضة المصموت عنها والتي تواجهها”.  أيضا يمكننا ملاحظة كيلمان من زاوية معاكسة، زاوية تحدد دورا مختلفا للغريب الألسني، من أجل تمكين رؤيا تحررية أوسع تفتح الباب على وسعه للإستاطيقا المحكية “جماليات اللهجات المحلية”. وعوضا عن رؤية مشروع كيلمان وفق سياق بارادايم رومنسي، و“يتضمن” اللغة الحقيقية للناس في إطار شكل أدبي نخبوي (أو أنه يولد أشكالا أدبية جديدة لتستوعب اللغة الحقيقية التي يتكلم بها الناس)، وهو ما يمكن أن نعتبر أنه أداة للاستيعاب، أو أسلبة، الغاية منها الاكتشاف والريادة: إن هذا ألأسلوب مقاربة “للغة” الفن “الغريبة”، ومن مسافة تفصلها عن وحل الواقع.

 

......................

* جيمس كيلمان James Kelamn: روائي اسكوتلاندي من أنصار اللامركزية السياسية.

* سكوت هايمس Scott Hames: أستاذ الأدب الإنكليزي الحديث في جامعة استرلنغ البريطانية. والترجمة مقتطفات من كتاب صدر عن جامعة إدنبرة حول شخصية وكتابات كيلمان.

         

 

 

في المثقف اليوم