أقلام ثقافية

وصيَّة حمَار (4)

عصمت نصاركلمة ممثلي الفكر الإسلامي:

وقف جحا أثناء الاستراحة يتفقد الوفود بعينيه، فلمح جمهرة علماء المسلمين يتوجّهون إليه، ووقف كبيرهم يضبط عمامته بأناه ووقار، وأشار إلى معيته هيا وكفى، فليس هناك وقت للتندر أو الهزار واسمعوا وعوا: المجال لا يتسع للحديث عن الفرقة الناجية أو الباغية فاحزموا أمركم، فممثلنا يجب أن يكون من المؤولين والعارفين بأصول الشرع المجتهدين، فليس هناك مجال لكلام الظاهرية أو مماحكات الباطنية، ولا الفرق الشيعية أو الإباضية، ولا شطحات الصوفيّة.

فقال جحا: أحسنت يا شيخ مجاهد، وأنا بدوري رفضت اشتراك الفرق الجانحة والجماعات الشاطحة، فجلستنا وإن كانت حول مناقب الحمار، فلا ننسى أنها تتناول بعض أمور العقيدة والخطأ في تأويلها لا يسلم من الشرار.

 فانبرى الشيخ حسن أبو الوليد الحنفي فقال: أنا لها بمشيئة السَّتار سأفسّر وسوف أؤول وأوضح وأبرر وأزود عن الكتاب الشريف وسيرة النبي المختار، فكبَّر المعمّمون وبارك باقي الوافدين. واعتلا الشيخ حسن المنصة فبَسْمَل وصلى وحىَ الحضور، وابتسم لكل الوفود، واستهل بقوله أن للموضوع أصل وقصة.

جاء الإسلام ليخرج الناس من الجهالة ويثني على العوائد الصالحة، ويتمم الشرائع الشارحة لعقيدة التوحيد والفضائل الأخلاقية المرجحة، والأعمال التي تقود إلى الجنة، وتحسن الخواتيم وتجعلها مُفرحة، لذلك كله نحن نؤيد ما جاء في التوراة عن أخبار الحمار. حقاً هو مطيّة الأنبياء ووفائه وصبره يرفعه من بين الدّواب إلى مصاف الفضلاء، وقد هداه الله فجعله يسير بسجيته وقضائه غير المغضوب عليه من الإنس والجن اللذين جحدوا عطيته. أمّا حمار ابن مريم، فقد باركه الرّب، وأعانه في سفره من الناصرة إلى مصر الكنانة في رحلة قدسية لم يلاقي فيها إلا كل عطف وحبّ. أمّا ما ذكر في الأناجيل عن الأتان والجحش فقد جاء على نحو محمود، إذ أرسل المسيح بعض رفاقه لمن عندهم مطلبه فأعطوهم بغيتهم بكل ودِّ وجود، وقد كذبت بذلك ادعاءات اليهود.

أمَّا القرآن فقد ذكر حبيبنا الحمار في بضع آيات، إذ وصفه في سورة البقرة بأنه آية وإعجاز تؤكد قدرة الخَلاَّق، على الموت والإحياء وتوزيع الأرزاق. وذكره في سورة النحل بأنه زينة شأن أفضل الدّواب التي تركب، فطهره بذلك من القدح والقبح وكرمه ووضعه في مقام الحلي والجمال والثروة التي تزيد وتسلب. ولا يعاب على صديقنا الحمار صوته المنكر، فقد صدق لقمان، والمقصود ليس تحقيراً كما تعتقد بعض الأذهان، والحق أنه وصف لمهمة جد مهمة ألا وهى زجر الشياطين اللذين لا يدركهم العقلاء الراشدين. فجاء في الأثر أن نهيقه يصدر عندما يرى الأنفس النّجسَة من المرضى المخفيين، فيخيفهم بصوته وينبه الغافلين.

ولا يعتقد البعض أنّ ما جاء في سورة الجمعة في معرض الأمثال يعني إهانة الحمار ووصفه بالجهل وسوء المئال، والحق أن التفسير الصحيح يحتاج إلى توضيح: أن أسفار التوراة لا يعيها إلا المكلف، ولا يسأل عنها إلا من عرفها وأضحت بالنسبة له شيئاً معرف، فلا مجال إذن للإنقاص من قدر الحمار، فالأسفار لم تكتب له، وهو لم يدعي كذلك أنه من الأحبار. فما أكثر البلهاء اللذين يحملون ما لا يفقهون من الإنسيين، فهل نصفهم بأنهم حمير غير آدميين؟!

أمّا مقام الحمار في الحديث والسيرة؛ فحدّث ولا حرج فصورته جميلة، وسيرته منيرة، فقد حلت عليه بركة النبي يوماً كان رضيعاً تحمله حليمة، ألم يكن حمارها أعرج، وقيل كان هزيلاً ونحيفاً وأمرض وأصنج، وعندما حمل المصطفي في مهده حلت عليه نعمة ربّه وأصبح عفياً ونشطياً وعملاقاً يطوى الأرض طيّاً، بين النوق والأفراس سَبّاقاً.

ألم يمتطيه النبي بعد هجرته وكان يصاحبه في غداته وروحته، وكان من بين الدّواب ببركة المصطفى مسرور أسود الشعر، وأبيض القلب وسماه النبي يعفور، ونسجت حوله الأساطير التي لا سند لها ولا تبرير؛ وذلك لأن النبي كرمه وبيده الشريفة أكَّلَهُ وشَرَّبَه، وأمرَ الناس برحمته والعطف عليه فباتت محبة الحمار سنة، ومن يحرص عليها، أكمل دينه ومثواه إن شاء الله في الجنة.

وانبرى أحد الحضور أنعم به حمار عاش في معية الأنبياء، ولم يؤذيه إلا الأسافل والأغبياء، والإحسان إليه من تمام الدين، وهل هذا الفضل بعده فضل يا مستمعين أصدقكم القول لولا تهكُّم الأشرار لتمنيت أن أكون حمار.

فضحك الحضور وانصرفوا جميعاً متصافحين دون حقد أو غرور.

وللحديث بقيّة في ليالي رمضان الهنيّة.

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم