أقلام ثقافية

التشريح النفسي للاميّة الطغرائي!! (1-3)

صادق السامرائيلامية الطغرائي ذائعة الصيت ربما أكثر من لامية الشنفري، وقد تكرر شرحها، وفي جوهرها ملحمة سلوكية ترسم الحالة النفسية لكاتبها، وكيف إنتهى إلى ما هو عليه كما وصفته القصيدة، وكأن الحياة تمثلت أمامه رحلة لا جدوى منها، نهايتها معروفة، ويواجه مصيره وحيدا كأي مخلوق آخر فوق التراب.

وتبدو كأنها إنثيالات أحاسيس ورؤى وتصورات إندلقت من مكامنها التي غابت فيها لسنين.

وسأحاول قراءتها بمنظار نفسي سلوكي لكي أكشف عمّا يجيش في دنيا كاتبها، وحالته النفسية المكثفة المركزة المحبوكة بالكلمات.

1

أصالةُ الرَّأي صانَتْني عَنِ الخَطَلِ

وحِلْيَةُ الفَضْلِ زانَتني لدَى العَطَلِ

مبتدأ اللامية كلمتان هما الخطل والعطل، وكأنه يدافع عن المشاعر التي ألمّتْ به فجعلته يبدو معطّلا عن القيام بما يساهم بالتعبير عن جوهر ذاته.

ويحاول إقناعَ نفسه بثبات رأيه وصوابيته، وبأنه إنسان صاحب فضل على الآخرين، فهاتان الخصلتان تعينانه على تجشم محنته، والتعايش مع الصعاب التي طالته، وبهذا البيت يجيدُ وضع الأسس الكفيلة بتبرير حالته وشرح تطوراتها، وكأنه يتخذ الإستبطان منهجا.

2

مَجْدي أخيرا ومَجدي أوّلا شَرَعٌ

والشمسُ رَأدَ الضُحى كالشَّمس في الطَّفلِ

وهذا موقف دفاعي تسويغي، فهو لم يتغير جوهره وإن تغيّرت أحواله، وله بالشمس قدوة ومثلا فهي على حالها وإن تبدّلت أوضاعها، ويكشف عن محاولته لإقناع نفسه ببقائه كما كان، وإن دارت عجلات الزمان.

3

فِيمَ الإقامةُ بالزّوراءِ لا سَكني

بِها ولا ناقتي فيها ولا جَمَلي

ويبدو الشعور بالغربة والضعف بارزا ، فيندب حاله ويتمنى لو لم يهاجر من موطنه إلى الزوراء، فلا قيمة لما أنجزه فيها بالمقارنة إلى ما آل إليه من مصير أليم، ولا مَلامة عليه إن يهجرها.

فالغريب يمكنه أن يفقد كل شيئ بغتة عندما تستدير الأوضاع ضده، وهو في مأزق إنهزامي له تداعياته الفتاكة التي ستحلّ به حتما.

4

ناءٍ عَنِ الأهلِ صُفْرُ الكَفِّ مُنْفَردٌ

كالسَّيْف عُرّى مَتْناهُ عن الخَلَلِ

ويتأكد الإحساس بالوحدة والفقدان وبأهمية وجود الأهل، وما يتصل بهم من الأقارب والمعارف، لشدِّ عزيمته وتعزيز قوته وهمّته، فهو كالسيف الذي جردوه من حليته وما يشير إلى هيبته وعزته وكرامته، فحاله صعب ويستدعي العطف والإحسان.

وفي البيت تصوير للنأي وتداعياته وما يستدعيه من إنثيالات مؤلمة تثير الحسرات والشعور بالندم أو الإنخذال.

5

فلا صَديقٌ إليه مُشْتكى حَزَني

ولا أنيسٌ إليهِ مُنتهى جَذَلي

أصبح في موقفٍ قاسٍ، فانفضَ عنه الأصحاب والأخلاّء، وصار لوحده في مواجهة نفسه.

ولا يُعرف كثيرا عن حياته الشخصية، فهذا البيت يشير إلى أنه ربما عاش وحيدا ممرغا بأهوائه وطموحاته، حتى إستيقظَ من غفلته فأدرك ضرورة وجود الآخرين من حوله، وألقى النأي بظلاله على ما هو عليه، فتحسس الإنقطاع وكينونته في حفرة الوجيع.

6

طالَ اغْترابي حتى حنّ راحِلتي

ورَحْلُها وَقَرَى العَسّالةِ الذُبَلِ

وتتداعى الأفكار والمشاعر والأحاسيس الإغترابية الأليمة، لتتخذ دائرة أوسع من الشخص، فيلوم نفسه ويؤنبها لأنه بسبب ما إندفع إليه وتفاعل معه من أوهام وأحلام، قد آذى مَن كان يحمله ويقله، وبهذا يشير إلى وعي آخر لم يكون فاعلا فيه قبل محنته.

7

وَضَجَّ مِنْ لغَبٍ نِضْوي وعَجّ لما

يَلْقى ركابي، ولَجّ الرَكْبُ في عَذَلي

ويزداد يقظة ووعيا لما تسبب به لنفسه ولمن حوله، فيعاتب نفسه على ذلك النزق والإندفاع الذي ما عرف الراحة والفتور، فهو طافح الطموحات متأجّج التصورات، منغمس في التعبير عن الأفكار والتطلعات، فيومه نار ملتهبة، تضج من حرارتها وسجيرها قدرات الآخرين الذين لا يطيقون مواكبته، والوصول إلى ما عنده من نشاط عارم.

8

أريدُ بَسْطةَ كفٍّ أستَعينُ بها

على قضاءِ حُقوقٍ للعُلى  قِبَلي

ينتقل إلى وصف حاله المزري الذي جعله يتمنى مَن يعينه ماديا، لكي ينجز بعض ما يريده ويراه ضروريا للحياة الكريمة الأبية قبل مغادرتها، فكأنه يتعجب من الإنتقالة السريعة التي ألقت به إلى أسوأ حال، ما خطر على باله ، وهو في صدمة وتحسّر وذهول.

فبعد الغنى والثراء والمجد والأبّهة، يتحول إلى موجود مُعدم لا حول ولا قوة عنده سوى الإستسلام لما سيحل به بعد حين، وتلك صورة متكررة في السلوك البشري عند حاشية السلاطين، وهو كما هو إلى الآن.

9

والدَّهْرُ يَعكسُ آمالي ويُقنِعُني

مِنَ الغَنيمَةِ بَعْدَ الكدِّ بالقَفَلِ

البيت يمثل صورة إحباط فاعل ومدمر، ويلقي بأسباب ذلك على الدهر الذي قلبَ موازينه، وأقنعه بأن تلك الآمال المستعرة عليها أن تنطفئ، ولا بد له أن يرجع إلى حيث إبتدأ، مجرد مما غنمه وتمكن من إمتلاكه، فلا قيمة لما كسبهُ، وها هو يعود إلى ما لا يمكنه أن يتخيله من مصير ما عاد يتسع لمزيد من الحياة، وهذا تصوير للإنتقال من الأعلى إلى الأسفل.

10

وذيْ شَطاطٍ كصَدْرِ الرُّمْح مُعْتَقلٍ

بِمثلهِ غيْرَ هيّابٍ ولا وَكِلِ

وهنا يعود لنفسه يعنفها بكبرياء، ويحثها على الصبر والمطاولة والتحدي، ويقول لها أن لا تهاب المنايا ولا تخاف المخاطر، وعليها أن تبقى شامخة قوية الشكيمة، فلا يجوز لها أن تنحني وتنكسر، ولا بد من المواجهه بقامة مستقيمة ذات إباء، وروح قيادية راسخة.

11

حُلوُ الفُكاهةِ مُرُّ الجِدّ قد مُزِجَتْ

بقَسْوَة (بشدّةِ) البأسِ مِنْهُ رقّةُ الغَزلِ

يمكن القول أدركَ أنّه مزيج من متناقضات يعمل بموجبها عند مقتضى الحال، ويصف نفسه بأنه مرير جاد عندما تتطلب الحال ذلك كالحرب، وفيه رقة وحلاوة مع المُحبين والذين يتفاعل معهم بمودة وطيبة وأمان، وهو بهذا يكشف عن حقيقة ما يعتمل في أعماق البشر عندما يكون في موقع قيادي أو صاحب قرار يؤثر في حياة الآخرين.

12

طرَدتُ سَرْحَ الكَرى عَن ورْدِ مُقْلَتهِ

واللَّيْلُ أغْرى سَوامَ النَّوْمِ بالمُقَلِ

البيت يعبّر عن القلق وفقدان الأمان وعدم القدرة على النوم، فهو نائم لكنه في يقظة وإحتراز من الداهيات التي قد تداهمه وتقضي عليه، فهو يصارع النوم ولا يطمئن له، ويبقى نائما يقظانا متأهبا للذي يريد أن ينال منه، ليطردَ ما يراه خطيرا قد يحف به.

13

والرَّكْبُ مِيلٌ على الأكْوارِ مِنْ طَرَبٍ

صاحٍ، وآخَرَ مِنْ خَمْرِ الكَرى (الهوى) ثَمِلِ

تمتزج في البيت أحلام يقظة ونشوة تخيلات، مما يشير إلى محنة الحرمان والضنك التي يعيشها، فإستدعت التداعيات الجميلة التي تحاول أن تمنحه بعض الإحساس بالحياة وبحرارة وجوده وبأنه لا يزال حيا، ويمكنه أن يتمتع ببعض المُتع.

14

فقلتُ أدْعُوكَ للْجُلّى لتَنْصُرُني

وأنتَ تَخْذُلني في الحادِثِ الجَلَلِ

التعبير اليائس واضح في البيت، إذ يناشد مَن يتمنى أن ينصره وينقذه مما هو عليه من رزاءة الحال، ويرى أن لا فائدة من هذه الدعوة، لأن المدعو كمْ خذله في مواقف سابقة تستوجب النجدة والحضور والتفاعل الإيجابي، وبهذا يقرّ بيأس وقنوط أليم.

15

تَنامُ عنّي وعَيْنُ النَّجْمِ ساهِرةٌ

وتَسْتَحيلُ وَصِبْغُ اللَّيْلِ لَمْ يَحُلِ

لا يُعرف مَن هو المَعني بهذا العتاب أو التقريع، الذي يشير فيه إلى أن عليه أن يسهر من أجله ويرعاه ويحميه، لكنه لا يأمن جانبه، فهو يتغيّر ويتبدل، ويتقلب مع تقلب الأحوال، وتلك طبيعة سلوكية واضحة عند حواشي ذوي القوة والسلطان في أي مكان وزمان.

16

فَهَلْ تُعِينُ على غَيٍّ هَمَمْتُ بهِ

والغيُّ يَزجُرُ أحيانا عن الفَشَلِ

أرى في هذا البيت شكا بصاحبه أو المقصود في كلامه، وحالة الشك تتفاقم عند البشر عندما يمر بضنك وتحيطه المخاطر، وكأنه يقول له بأنه ربما يعين على شر يُحاك له، وبهذا ينقذ نفسه من مشاركته الفشل والإندحار، أي إنقلب عليه لأنه أصبح في حالٍ لا تجدي نفعا لظهيره.

17

إنّي أريدُ طُروقَ الحيّ (الجِزْعِ) من إضَمٍ

وقدْ حماهُ (حَمَتهُ) رُماةٌ (الحيّ)من (بني) "ثُعَلِ"

وهنا تتكشف معاناته ووحشته وضعفه وجزعه، فهو يتوسل، ويريد أن يأتي الحي ليلا متخفيا والطرقات التي سيسلكها يجب أن تكون محمية ومؤمّنة، وهذا ما لا يتيسر له وهو في محنته لقلة مناصريه، وهروب مظاهريه، وتلك آلية تفاعلية بشرية متكررة.

18

يَحْمُونَ بالبيض والسُّمْرِ اللَّدانِ بهِ

سُودَ الغَدائِرِ حُمْرَ الحَلي والحُلَلِ

هذا ضرب من التحليق الخيالي والنكران لما هو فيه، ويحسب وكأنه لا يزال كما كان عليه، ويؤمّل نفسه بأن محبوبته لا تزال تحبه وتتمناه، فهو الشجاع المدافع عنها بالسيوف والرماح، فلا يصدق ما هو عليه من إنكسار وإندحار ومصير مجهول.

19

فسِرْ بنا في ذِمامِ اللَّيْل مُعْتَسِفا

فنَفْحةُ الطَّيبِ تُهْدينا إلى الحِلَلِ

التعبير عن الغش والإختفاء واضح، فهو يريد منفذا، ويحلم أن يسير متخفيا بالليل، ويتمنى أن تكون معه أغطية تحميه من البق وغيره من الحشرات التي ستداهمه، وهو يسير في دروب وعرة ببحر الدجى الذي يتصور بأنه سيحميه من الأعداء، ويحلم بما لا يمكن وقوعه وكأنه يعلل نفسه بما تشتهي لكي تتقوى على الصعاب.

20

فالحُبُّ حَيثُ العِدى والأُسْدُ رابِضَةٌ

حَوْلَ الكِناسِ لها غابٌ مِنَ الأسَلِ

هنا إنتقالة خيالية لتقوية عزيمة المسير وعبور الموانع والتحديات، لأن الفوز بالغاية سيكون كبيرا ويستوجب هذا الجهد والمغامرة الخطيرة، التي ستتجاوز الأعداء بآلاتهم وأدواتهم ومخططاتهم وما يضمرونه من الإيقاع به وقتله.

 

د. صادق السامرائي

(يتبع)

 

في المثقف اليوم