أقلام ثقافية

عن الرحالة وأدابهم

يسري عبد الغنييوجد نوعان من الرحالة من حيث الجنسية، فمثلاً هؤلاء الفرنسيون الذين ذهبوا أو يذهبون إلى ألمانيا، وهؤلاء الألمان الذين يأتون إلى فرنسا، يساهم هؤلاء وأولئك في المزيد من تعريف الألمان بفرنسا، وبالعكس، ويوجد أيضًا رحالة لا يتحركون من أماكنهم، هؤلاء الذين يحصلون على دليل الطريق ويذاكرونه جيدًا، مثل (ديز سانت)، والذين يدورون حول حجراتهم مثل (كافير دي مستر)، والذين يقرأون على متن عوامة ثابتة في بحر أو نهر مجموعة كتب (حول العام) مثل (كولت)، ويوجد أيضًا أقل حماسًا من هؤلاء .

ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين، يمكن لنا معرفة كل شيء وأي شيء عن العالم الذي يحيط بنا من خلال شبكة المعلومات العنكبوتية أو الإليكترونية (الإنترنيت)، ومن خلال الأقمار الصناعية (الفضائيات)، إذن معرفة الآخر وفكره وأدبه وثقافته أمر لم يعد أسيرًا في أيامنا هذه، المهم أن نسعى بجدية للمعرفة الحقيقية التي نفيد بها ونستفيد منها .

في الفترة من القرن السادس عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وهو العصر الذهبي للرحلة والرحالة، ولم يكن الناس يقابلون فقط في طرق أوربا متسولين دفعهم الجوع دفعًا إلى التسول بطرق عديدة، ولكن كانوا يقابلون أيضًا الذين دفعهم الظمأ الشديد إلى العلم والمعرفة، وإلى تأمل روائع العصر القديم، بكل جمالها .

ومثال على ذلك: (روما) العاصمة الإيطالية، أو الأرض الموعودة لأهل الفن والأدب، حيث كان يردد بعضهم في كتاباته: إن الحظ لم يسعدني بأن أولد إيطاليًا، مثل : (رابليه)، و(دي بللي) اللذان توجها  إلى روما في حماس ديني لم يمنعهم من التعلم والإجادة، ويذكر (مونتيني) الذي ذهب إليها حبًا في المعرفة، ويذكر مجموعة الرسامين قبل وأثناء عصر النهضة الأوربي، والذين كانوا لا يعتقدون أن تكوينهم الفني قد كمل إلا إذا تأملوا كنوز روما المدينة الخالدة .

وفي المجتمع الإنجليزي، وبالتحديد في الطبقة العالية الأرستقراطية ن كانوا يرون أن تعليم الشاب من أبنائهم يجب أن يتوج بالدورة الكبرى التي كانت تجعله في القرن الثامن عشر يطوف شهورًا طوالاً بلاد فرنسا وسويسرا وإيطاليا، ويضاف إليها نادرًا أسبانيا والبرتغال.

وكان هناك الكثير من الإنجليز شيوخ وشبان يتجولون في بلاد القارة الأوربية في تلك الآونة بحثًا عن العلم والمعرفة، وقد أكد كتاب عصر النهضة أن إيطاليا بشمسها ونسائها وأثارها مارست على إنجلترا سحرًا لا يقاوم، نفس الجاذبية أو نفس السحر كان على الألمان وعلى سكان الشمال الإسكندافي .

في إيطاليا وجد الألماني (جوته) فضائل الكلاسيكية، كما وجد (فرنر) لطف الكاثوليكية التي درسها وانطلق منها .

وفي القرن الثامن عشر الميلادي كانت باريس الفرنسية عاصمة أوربا الأولى تجذب الرحالة والأجانب بصالوناتها الأدبية والفكرية والفنية التي تزهو بضيوف من أعلام الفكر والأدب والفن، بعضهم اختارها موطنًا دائمًا كي يقيم فيه، وبعضهم يتجول في المدن والريف بعيون لم تطفئ رغبتها الدائمة في المشاهدة المستمرة المتكررة ، ونذكر هنا (أرثر يونج) الذي ترك لنا أحسن اللوحات عن فرنسا قبل الثورة الفرنسية .

والفرنسيون أيضًا يفعلون ذلك: (فولتير) يقيم في إنجلترا، و(مونتسكيو) يتجلو في أنحاء إنجلترا وإيطاليا، و(ديدور) يصل إلى روسيا التي أطلوا عليها مسمى (الأرض المجهولة)، أما الفرنسي (جان جاك روسو) المنسوب إلى جينيف السويسريه، فكانت حياته كلها في تنقل مستمر عبر البلاد الأوربية .

وفي القرن التاسع عشر يتضاعف شعاع الرحلة والرحالة، فهذا هو (استولف دي كرستين) يصف روسيا على الطبيعة سنة 1839 م، كما يجوبها (بلزاك) .

وفي الاتجاه المقابل يزور (تولستوي) الروسي باريس الفرنسية، ويظهر (تورجينيف) الروسي هو الآخر في محافلها كأنه أحد أبنائها .

أما (شاتو بريان) و(لامارتين) و(فلوبير)، فيقومون برحلات في أقاليم البحر الأبيض المتوسط، وبقدر ما تختلط الرومانسية مع اللون المحلي، يهرع كل كاتب إلى البلد المجاور، وخاصة أسبانيا التي سافر إليها (شاتو بريان) ليعرفها ويدرسها، والأمريكي (واشنجتون أرفنج)، فعل ذلك هو الآخر، ثم الإنجليزي (جورج بورو) الذي يوزع على الناس نسخًا من العهد القديم (التوراة) زهيدة الثمن مقابل أن يدرس ويتعلم عناصر اللغة الرومانية .

هذا، وقد عرف القرنان الثامن عشر والتاسع عشر طرازًا أو نوعًا جديدًا من الرحالة، هذا النوع الثري، المصاب بمسة خفيفة من الشذوذ الذي يشعر في كل مكان ينزل به أنه في بلده، أو بالآحرى يشعر أنه عند الآخرين أحسن منه عند ذويه، أي أن البيت بيته، وليس في الإمكان أحسن مما هو كائن !!.

وقد شهد (بكفورد) في حكاياته بالسهولة التي كان يتكيف بها مع العادات في الخارج، وكان الناس يتنقلون في هذا الوقت من بلد إلى بلد، فيما عدا روسيا، بدون أن يكونوا ضحايا لأي مضايقات بيروقراطية أو بوليسية أو جمركية (ذلك بالطبع قبل الاتحاد الأوربي) وكانوا يستقرون في المكان الذي يحلو لهم بدون أن يكون عليهم أن يقدموا سند الإقامة أو عقد العمل .

وفي القرن العشرين، ترسو البواخر والسفن على ميناء ثم تتحرك إلى ميناء آخر في بلد آخر، بينما نجد الطائرات تنطلق في السماء حول الكرة الأرضية، فمن السهل جدًا أن تتناول إفطارك في القاهرة ثم تتناول عشاءك في نيويورك أو واشنطن، فقد ازدات شبكات الطيران حول الأرض، مما سهل حركة التنقل بين الدول بعضها وبعض، فزادت كثافة الرحلات يومًا بعد يوم، ولعل هذه الملاحظة هي التي أثارت (بول موران) عندما قال : (لا شيء إلى الأرض)، وعليه نجد (كلودل) و(مارلو) في بلاد الصين، و(أندريه جد) في الكونغو الأفريقية .

وإلى جانب هؤلاء الذين يسافرون للإفادة العلمية والمعرفية أو المتعة، يجب أن نذكر هؤلاء الرحالة رغم أنفهم، المضطهدون، المنفيون، السياسيون، اللاجئون، ولولا ضربات السلطة الفرنسية التي نزلت بفولتير لما كان لدينا الآن كتابه المهم الذي تعلمنا منه الكثير (رسائل فلسفية)، والذي كان ثمرة لهجرته إلى إنجلترا .

وفي بلادنا العربية والإسلامية كان للرحلات التي قام بها الأدباء وأهل الفكر أثرها الواضح في تعرفهم على أدب الغرب مما انعكس إيجابًا على أدبهم، ومن أمثلة ذلك : توفيق الحكيم في روايته (عصفور من الشرق)، ويحيى حقي في روايته (قنديل أم هاشم)، وطه حسين في روايته (أُديب) وغيرها من مؤلفاته وترجماته، والكاتب السوداني / الطيب صالح في روايته (موسم الجرة إلى الشمال) .. إلخ ..

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم