تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام ثقافية

درصاف بندحر: كم نحن مدينون لك أيها الوجع!

" بلقيس ..

يا بلقيس ..

لو تدرين ما وجع المكان ..

في كل ركنٍ ..

أنت حائمةٌ كعصفورٍ ..

وعابقةٌ كغابة بيلسان ..

فهناك .. كنت تدخنين ..

هناك .. كنت تطالعين ..

هناك .. كنت كنخلةٍ تتمشطين... "

بهذه الكلمات رثۍ نزار قباني حبيبته وزوجته والأهم من ذلك كله، ملهمته “بلقيس الراوي” وذلك بعد أن وافـتها المنية على إثر انفــجار سيارة مفـخخة أمام مبنى السفارة العراقية في بيروت عام 1981.

في رثاء المغدورة بلقيس طبع الحزن وجدان نزار وأعماقه حتى كأنك تكاد ترى الألم الذي أثخن قلبه يلف كل حرف من حروف القصيد. إن الله فقط يعلم كم تألم الشاعر، مرهف الحس،  بعد رحيل بلقيس وكيف كانت أيامه ولياليه من بعدها.

  في حوار مؤثر أجري معه بعد وفاتها قال نزار : "كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي"..

لسائل أن يسأل كيف ستمسي حياة من فقد واحة حياته وملاذه وهويته وأقلامه؟

ماذا لو أنا خلقنا ونحن لا نرزأ بأي مصيبة في الحياة، ولا يلحق بنا أي أذى، لا تعترينا أية أعراض صحية أو مرضية، لا نشيخ، لا نموت، لا نحزن، لا نبكي ولا نتألم، فكيف تراه حالنا!

يبدأ الإنسان حياته لحظة خروجه من رحم أمه بصرخة. يخرج إلۍ الحياة ليواجه مصيره بنفسه. تحديات كبرۍ في انتظاره. هو لم يختر وجوده لكنه سيحاول جاهدا، وهناك من لا يحاول، أن يختار الصورة التي سيتشكل من خلالها هذا الوجود..سيختار صورة لوجود جميل أو قبيح..وجود حقيقي أو مزيف.

في سعيه إلى الإختيار سيواجه الإنسان مجموعة من القيود التي ستعيقه..تضغط عليه..والتي قد تقضي عليه.

 هذا ما سيسبب له المعاناة .. سيعاني من من الفجوة بين ما لديه وما يريده.. بين حقيقته وما يحلم به.. وبسبب هذه المعاناة سيلازم الإنسان الألم في حله وترحاله.

الألم شعور سلبي بعدم السعادة، وهو معطۍ من معطيات الحياة ولا يمكن لأحد أن يفلت منه. الألم كالموت. إنه فدية البعد الجسماني لوجودنا. إلا أن القول بأن الألم لايكون إلا ألم الجسم هو ضرب من التجريد لأن الألم كذلك نفسي.

الألم النفسي Psychological pain هو ذاك الذي ينتج بشكل أساسي عن عوامل نفسية، مثل الاكتئاب والقلق وفراق الأحبة والمشاكل العاطفية. ويُعرَف "إدوين شنايدمان" الرائد في مجال دراسة السلوك الانتحاري الألم بأنه «حجم الأذى الذي يتعرّض له الإنسان. إنها معاناة ذهنية، عذاب ذهني".

لقد برزت نظريات فلسفية عديدة بحثت في أسباب الألم.

 في كتابه Treatise of Man شبه رينيه "ديكارت" الجسد بالآلة.

فسّر "ديكارت" الألم على أنه اضطراب ينتقل عبر الألياف العصبية ثم يصل إلى الدماغ. فبعد أن كان يُنظر إلى الألم على أنه اختبار يجريه الخالق على النفس لتثبيت إيمانها حوّل "أبو الفلسفة الحديثة" إدراك الألم من كونه تجربة روحية إلى كونه إحساسا فيزيائيا. علاج هذا الإحساس يتطلب تحديد مصدر الألم عوضاً عن محاولة استرضاء القوة الإلهية للخلاص منه.

ومهما كانت أسبابه سواء كان جسديا أو نفسيا فالألم متأصل في عمق الوجود. هو موجود ليخبرنا أن هناك خللا يختبئ وراءه. خطب ما يتوارۍ في الجسد أو في الروح.

صحيح أن الشعور بالألم مرتبط بعدة عوامل كالهوية الجندرية والسمات الشخصية والثقافية، الأمر الذي يجعل نظرة المرء وتعاطيه مع الألم مختلفة عن نظرة وتعاطي غيره. لكن ليس هناك منا من لا يتألم لفقد حبيب أو مرض قريب.لا يوجد من لا يتألم لخذلان صديق. ليس هناك من لم يهرع إلۍ الطبيب ليخفف أوجاعه وطلبا للشفاء.  كلنا ننكسر ونسقط ونقوم وقد نبقۍ حيث أراد لنا الألم أن نكون.

مما لا شك فيه أن درجات الألم تتفاوت بين البشر لكن ما يجمعنا كافتنا هو الحاجة إلۍ مواجهته. مواجهة الألم هي أولى طرق الشفاء وأولى طرق النهوض بعد السقوط.

 إن قبول الألم ومحاولة التكيف معه هو ما يجعل منا بشرا فننسۍ كبرنا وغطرستنا. الألم يجعلنا بعد الفقد نتمسك أكثر بأحبتنا، هو كذلك ما يجعلنا نتذوق حلاوة اللقاء بعد الغياب وطعم الفرح بعد الحزن.

كم نحن مَدينون لك أيها الوجع فأنت ما تجعل لحياتنا معنۍ.

صدق من قال أنه لولا وجود عكس المعنۍ لما كان للمعنۍ معنۍ.

لكي يضفي الألم علۍ حياتنا معنۍ يتحتم قبلا أن لا يصرعنا ويلقي بنا في متاهات العذاب والحسرة. يجب أن يتحول النصب والوجع إلۍ محفز يدعم قدرتنا علۍ الحياة.

إن وراء كل إنسان عظيم ألما فظيعا!

***

درصاف بندحر - تونس

في المثقف اليوم