أقلام ثقافية

ضياء نافع: شولوخوف في قارب بشوارع موسكو

سألني زملائي الروس القدامى – هل شاهدت شولوخوف وهو يجلس بالقارب في شارع غوغول بموسكو؟ ضحكت أنا من طبيعة هذا السؤال، وقلت لهم، لقد تذكرت كيف كنّا نمزح ونضحك عندما كنّا طلبة وندرس معا في جامعة موسكو قبل ستين سنة، ولكن هل يمكن ان نمزح بهذا الشكل السريالي الغريب الان، وقد بلغنا من العمر عتيا؟ فضحكوا جميعا على اجابتي، وقالوا لي، هيا لنذهب الى هناك، كي ترى بنفسك اننا لا نمزح ولا نضحك، ولكي تقتنع، بانك لم تعد تعرف موسكو اليوم كما كنت تعرفها سابقا في الايام الخوالي، لانك (بلغت من العمر عتيا!). اندهشت انا من اجابتهم الحاسمة تلك وقلت لهم انني حتى لم اسمع، ان شولوخوف يجلس في قارب و(يتنزه!!!) بشوارع موسكو، فقالوا لي،لا يمكن للانسان ان يرى كل شئ ولا ان يسمع كل شئ، فهل نسيت هذه الحقيقة البسيطة في حياتنا؟ فاضطررت ان اقول لفولوديا، وهو الذي كان ولازال اكثرنا جديّة وصرامة – حتى انت يا فولوديا؟ فضحك فولوديا وهو يقول – نعم نعم، حتى أنا، هيا لنذهب معا، هيا لنذهب، وهكذا توجهنا جميعا الى هناك، وكنت لاازال بين مصدّق لتلك الاقوال او غير مصدّق لها...

وها انا ذا امام هذا النصب الهائل والغريب لشولوخوف وروايته (الدون الهادئ)، هذا النصب الذي لم اشاهد سابقا شيئا مماثلا له بتاتا، حيث يجلس شولوخوف فعلا – كما قالوا لي - في قارب، وهو رافع الرأس بشموخ، وعن يمينه مجذاف، ويجري (نهر الدون) تحت القارب هادئا كما أسماه في روايته، واسفل هذا القارب تحاول عشرات الحصن ان تعبر النهر سباحة وهي متعبة، ورؤوسها تبدو واضحة فقط ليس الا، اذ انها غاطسة باكملها في النهر، وامام هذا النصب المدهش تقف مصطبتان متلاصقتان ببعض من الظهر وبينهما جدارية تعلو حوالي المتر، ومحفور على تلك الجدارية مشاهد من المعارك التي كانت تحدث بين (البيض!) و(الحمر!) في الحرب الروسية الاهلية آنذاك، والتي تناولتها رواية شولوخوف الشهيرة (الدون الهادئ)، وكل ذلك مصنوع طبعا بشكل باهر، فماء نهر الدون الذي يجري هادئا فعلا، والقارب الذي يعلو النهر حيث يجلس شولوخوف شامخا من البرونز، والحصن التي تسىبح في ماء النهر متعبة وهي تحاول عبوره بعناد واصرار، والمصطبتان المتلاصقتان والجدارية الجميلة التي تفصل بينهما، والمليئة بالنحت البارز لاحداث الحرب الاهلية الروسية آنذاك. لقد أدهشني هذا النصب بافكاره الرمزية العميقة جدا وحجمه الهائل وغير الاعتيادي بتاتا وتصميمه الرائع المتناسق الجميل وتنفيذه بهذا الشكل الفني الحيوي المدهش، وفهمت بما لا يقبل الشك، ماذا يعني نصب تقوم الدولة بانجازه تخليدا وتكريما لأحد اعلامها الكبار مثل شولوخوف...

بعد ان مكثنا عند النصب اكثر من ربع ساعة ونحن نتأمّله من كل جوانبه بامعان واهتمام، قررنا الجلوس في مقهى قريب لتناول القهوة، وهناك بدأنا ندردش حول انطباعاتنا حول هذا النصب، فقال لي احد الزملاء، انه لاحظ باني لم انبس بكلمة واحدة بتاتا عندما كنّا هناك، فاجبته ضاحكا، نعم لاني كنت مندهشا أشد الاندهاش امام هذا الانجاز الفني الكبيبر لدرجة لم استطع فيها ان اقول اي شئ بتاتا، اذ اني طوال حياتي اهتم بالتماثيل والنصب، واطلعت على الكثير منها في مدن العالم التي سافرت اليها (وما اكثرها !)، وحتى بادرت بتنفيذ عدة تماثيل نصفية في روسيا والعراق لشخصيات عراقية (وحسب امكانياتي المتواضعة)، ولكني لم اشاهد ابدا مثل هذا النصب العملاق في اي مكان كنت فيه بالعالم. وأخذ الجالسون يحدثوني عن هذا النصب، وقد تبيّن من احاديثهم، ان الدولة السوفيتية اعلنت مسابقة عام 1980 لاقامة نصب لشولوخوف، وشارك طبعا عشرات النحاتين بتلك المسابقة، وفاز النحات روكافيشنيكوف بها، الا ان الدولة آنذاك لم تستطع تنفيذه، اذ كانت اوضاعها الاقتصادية والعامة في ثمانينيات القرن العشرين متدهورة، وليس عبثا ان الاتحاد السوفيتي نفسه قد انهار عام 1991، وهكذا بقي هذا المشروع الفني العملاق بلا تنفيذ، ولكن ابن النحات استطاع ان (يعيد الحياة الى هذا النصب!) لانه مشروع والده، وتمكّن من تحقيقه عام 2007، بعد اضافة بعض التعديلات عليه، وذلك بعد ان استقرت الاوضاع نسبيا في الدولة الجديدة، التي حلّت مكان الاتحاد السوفيتي، وهي - روسيا الاتحادية. امتدحنا جميعا موقف ابن النحات هذا، وقلنا يا له من ابن بار لذكرى والده. وتحدث بعض الزملاء ايضا عن اهمية هذا النصب مؤكدين، انه يجسّد موقف الدولة الروسية تجاه شولوخوف، اذ حاولت بعض الاوساط السياسية في خارج روسيا وحتى في داخلها تشويه سمعته الادبية والطعن بمكانته في مسيرة الادب الروسي، وقد جاء تنفيذ هذا النصب الكبير في موسكو لشولوخوف ولروايته الشهيرة (الدون الهادئ) جوابا حاسما على كل ذلك، اذ كانت تلك الحملة تدور بالذات حول هذه الرواية، ولهذا نرى شولوخوف في النصب يجلس بقاربه شامخا، وهو يعبر (نهره الهادئ)...   

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم