أقلام ثقافية

(الطبلة) واللامعقول

حاتم السروينحن ولا شك في زمن اللامعقول.. أرجوكم لا تحتكموا إلى أية معايير حين تخرجوا من الحكاية لتتأملوا ما فيها.. كلنا ينهمك في أعماله وأحواله؛ فإذا قرر أن يتأمل دخل في تعب القلب وسحق الدماغ؛ هذا الواقع لايقبل التفكير ولا ينصاع لأحكام العقل، وبالتأكيد هو محير لأعتى الفلاسفة، ولو بعث أرسطو من قبره ورأى ما نحن فيه فالأقرب إلى التصور أنه سيفضل العودة من حيث أتى!.

أيها السادة، هذا الواقع ليس للتفكير ولكن للتغيير، أرجوكم تخلوا عن الفيلسوف الذي بداخلكم وحاولوا أن تفعلوا شيئًا؛ فنحن محكومون بالأمل، والأمل دون عمل ضربٌ من الغباء.

وتحضرني في هذا المقام قصة فيلم، فيلم يدعو إلى الأمل، فرغم سطوة النازي وحالة الرعب والخوق والقلق والدمار، ورغم سيادة اللا معقول عادت ألمانيا ليس كما كانت وإنما أبدع وأجمل.

وتلك هي القصة:

امرأه متزوجة من ألمانيا تقيم علاقة غير شرعية مع رجل بولندي ، والزوج يعلم ويصمت ولا يبدو منه أي رد فعل، فيما الزوجة منشغلة بالتوفيق بينهما !، أما طفلها الصغير فيرقب هذه العلاقة الثلاثية الشاذة بعين الحيرة والتساؤل، وعندما يستحكم العبث ويتسيد الجنون يقرر الطفل بإرادته المنفردة ودون تدخل من أحد أن يوقف نموه حتي يظل طفلا بريئا لا يلوثه عالم الكبار الصاخب المركب الممتلئ بالدنس ، ونرى الطفل وهو يقفز من فوق سلم بيته الداخلي فيقع علي ظهره عامدا، وعندما يذهب والداه إلي الطبيب يخبرهما أنه لن ينمو بعد اليوم ،سيصبح طفلا أبديا مثل الولدان المخلدون..

بهذا المفتاح الفانتازي المحلق يبدأ (فيلم الطبلة) ذو الساعتين والعشرين دقيقة، والذي يظل بطله الطفل علي مدار أحداثه مجرد متفرج شأنه فقط أن يرقب عالم البالغين متحلياً بالصمت والوعي والاستياء الشديد، بينما تلازمه طبلة ينقر عليها بعصاه ولا يتركها حتى عندما ينام .

والجنون الذي يطل علينا من الأحداث الغريبة مضافا إليه النقر المستمر علي الطبلة  يضفيان علي جو الفيلم طابعاً مورستانياً يعطينا رسالة واحدة فحواها أن ألمانيا أثناء حكم النازي كانت تعيش حالة من الجنون المستعر، وأن المواطن الألماني كان مثل البطل الطفل الذي قرر أن يوقف نموه وأن يصمت تماما متخذاً موقع المتفرج.

إنه فيلم (الطبلة) الذي دخلت به ألمانيا الغربية مسابقة مهرجان (كان) السينمائي الدولي لعام 1979 وهو إنتاج مشترك مع فرنسا ، وكان طبيعيا أن يفوز فيلم كهذا بجائزة المهرجان الكبري مناصفة مع الفيلم الأمريكي (نهاية العالم الآن)؛ ذلك أن الطبلة عمل فني جيد علي كل المستويات ؛ فهو بدايةً مأخوذ عن رواية شهيرة للكاتب الألماني (جنتر جراس) الذي اشترك  بنفسه في كتابة السيناريو مع المخرج الألماني  (فولكر شولندورف) الذي يحكي لنا في يوميات إخراجه لـ (الطبلة) كيف أعاد كتابة السيناريو مراراً بطلب من (جنتر جراس)  وكيف ساهم الكاتب في جلسات كتابة السيناريو وصياغة الحوار حتي يضمن عدم الإخلال بروح روايته التي امتدت الي ٤٩٣ صفحة وقت صدورها عام ١٩٥٩، وفي الوقت ذاته يضمن عملاً سينمائياً خالصاً.

والطبلة وهو أحد الأفلام السينمائية المتميزة جاءنا كشحنة متدفقة من الأحداث والمشاهد المثيرة ، فيما بطل الفيلم لا يفعل أكثر من الفرجة مع ضرب الطبلة ، وإذا وصلت الأمور إلي ما يفوق الخيال وأضحى العبث في قمته وجدناه يطلق صرخه من حنجرته فتهشم ما يقابلها من زجاج (الأكواب،النظارات، أعمدة الإنارة، وزجاج النوافذ).

وبهذا تبدو الطبلة مع الصرخة وسيلتا احتجاج مكملتان لشخصية الطفل ذو الحجم الصغير  والعقل الواعي ، المراقب بروح ممتعضة لكل ما يحدث حوله .

نحن إذن أمام تركيبه رمزية متفردة تلخص حالة ألمانيا في سنوات حكم النازي وأهوال حروبه المدمرة..

 ومع نهاية الحرب وبعد انتحار السيد هتلر يقرر بطل الفيلم أن ينطلق وينمو ويتحرر؛ فيسمح لجسده بالنمو  ويلقي بالطبلة في حفرة بالأرض كأنما يدفنها ويدفن معها سنوات العجز والجنون التي عاشها الألمان تحت حكم النازي.

ولا ينسي اللوبي الصهيوني الضاغط أن يستغل فيلماً بهذه الجودة وهذا الإحكام لصالحهم ؛ لذلك  نري أحد الممثلين وهو المطرب الفرنسي (شارل أزنافور) في دور تاجر اللعب اليهودي صديق البطل الصغير الذي طالما عامله بكل الحب والحنان، والفيلم يظهر لنا اليهودي في ثوب المضطهد الذي يفعل الخير دائما فيحصد الشر في المقابل، وعلي سبيل المثال نراه يذهب ليشارك في جنازة أم البطل فيجد الجميع وهم ينظرون إليه باشمئزاز ثم يطردونه من المكان، ويجري وراءه صديقه الطفل حتي يهون عليه، ثم نرى التاجر اليهودي وهو يتعرض مثل كل تجار ملته للهجوم علي محلاتهم ونهب بضائعهم.

ثم يحاول المخرج أن يجرنا إلي التعاطف الشديد مع اليهودي عندما نري الطفل يغني بصوت مؤثر واصفاً ما عاشه من أهوال، وراثياً صديقه تاجر اللعب الذي نراه جثه هامدة علي أرضية محلة المنهوب وعلى وجهه ابتسامة، وطاقية اليهود علي رأسه.

ولكن هل يمكن أن نتعاطف مع الصهاينة بعد هذا المشهد؟ بالقطع لا ؛ لأن التاريخ يخبرنا بأهوال أفظع ارتكبها اليهود بحق العرب منذ نكبة ٤٨ وما بعدها ، ثم إن ألمانيا لو كانت قد أخطأت بحق اليهود فقد كفرت ولا تزال عن هذه الخطيئة، كما أن اليهود كانوا عبئاً على أوروبا لأنهم عاشوا فيها بلا إنتاج ولا منفعة ومثلوا طبقة طفيلية تعيش على الربا والرهونات وأحياناً كثيرة تلجأ إلى الدعارة واللصوصية؛ لذلك قرر الأوروبيون التخلص منهم عبر تهجيرهم إلى فلسطين وكان العرب هم الضحية.

 ولا تعدو مشاهد الرجل اليهودي في (الطبلة) أن تكون حلقة ضمن مسلسل الابتزاز الذي يمارسه اللوبي الصهيوني ومحاولة التأكيد أنهم أمة تتميز بالنبل والخير والذكاء لكنهم رغم ذلك مضطهدون والعالم كله يظلمهم، إنها صياغة جديدة لبارانويا شعب الله المختار الذي يتوجب علي الناس كلهم أن يتوبوا عن ظلمه وأن يتركوه في الوطن الذي اختاره أبناؤه (إسرائيل) أو (فلسطين المحتلة) ليفعلوا كل ما بدا لهم فهذا جزء من حقهم علي الجنس البشري الظالم الذي عاملهم بقسوة ...

والتقييم النهائي للفيلم حصيلته أنه قوي من حيث الفكرة باستثناء مشاهد الرجل اليهودي ومن حيث السيناريو والأحداث ناهيك عن قوة الحوار، وهو فيلم ناجح من حيث قدرته علي التعبير عن وضع ألمانيا إبان حكم النازي ولا نبالغ إذا قلنا أن الفيلم من أبدع تجليات سينما الفانتازيا واللامعقول

عزيزي القارئ قلت لك لا تفكر، لأنك الآن تقارن بين فيلم بهذه الجودة وهذا الإبداع وبين أفلامنا العربية، أليس كذلك؟ وأقول: السينما العربية - مثل العرب أنفسهم- تريد وقفة لتعرف أين هي وما الذي يتوجب عليها فعله؟ هل ستستمر في طاحونة التفاهة وثقافة قتل الوقت وقصص الحب اللزجة التي لا تناسب إلا المرهقين؟ أم ستنهض ليصبح الفن عندنا له قيمة وقامة؟ وإذا كان الفن غرضه الأول كما يرى البعض هو ترسيخ القيم الجمالية؛ فأين الجمال في سيل الأفلام والمسلسلات التي نراها؟ ولو كان الفن للمجتمع فالمجتمع مظلوم ولا شك، باختصار نحن في حاجة إلى فن سينمائي يكشف ويرصد ويحلل ويحفز على التغيير، وإلا فإن المشاهدة هي عين اللامعقول ..

 

حاتم السروي

 

 

في المثقف اليوم