أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: سلمان ناطور وميلان كونديرا

استدعاني نبأ رحيل الكاتب التشيكي الموطن الفرنسي الجنسية والهوى ميلان كونديرا (1929 – 2023)، للعودة إلى أيام خلت التقيت خلال أحدها بالكاتب الصديق الراحل سلمان ناطور (1949-2016) ابن دالية الكرمل طابت ذكراه. جرى ذلك اللقاء في أيام سلمان الأخيرة في الحياة، وذلك خلال لقاء عابر لنا في بلدتي الحبيبة الغالية الناصرة. وكان أننا تحدّثنا في أمور حياتنا الثقافية والسياسية، وكالعادة انتقلنا ليتمحور حديثُنا في مسالة القراءة وأهميتها في تطوير الرؤية وبناء المنظور الثاقب للواقع المر. وأذكر أن مُحدّثي توقّف مطولًا عند قراءاته مشيرًا إلى أنه صبّ جُلّ اهتمامه في الفترة الأخيرة- حينها-، في قراءة كلّ ما وقعت يده عليه من الاعمال الأدبية، خاصة الروائية لكونديرا. بل إنني أتذكر أنه يومها كان يبحث عن المزيد من تلك الاعمال.. وأنه كان في طريقه إلى مكتبة كبيرة في بلدتي علّه يجد ما قرأ او سمع عنه من تلك الاعمال ولم تصل إليه يده. لم تطل وقفتنا تلك لهذا لم تُتح لي الفرصة أن أساله عمّا دفعه كلّ ذلك الدفع وأثاره كلّ تلك الاثارة كي يقرأ كونديرا، أو يتفرّغ لقراءته كلّ ذلك التفرغ. وما زلت أذكر أنه لوّح لي بيده خلال توجهه إلى المكتبة قائلًا إنه يبحث عن رواية كوندير حول خفة الكائن التي لا تحتمل، أو عن رواية الهوية.

اليوم وقد رحل كونديرا عن عالمنا بعد عمر مديد ( 94 عامًا)، في معاناة هذه الحياة وآلامها التي لا تطاق، أتذكر ذلك اللقاء الدافئ، وأحاول أن أحفر باحثًا عن السبب الذي جعل سلمان يتعلّق كل ذاك التعلق بكاتب، ثائر ومتمرد، رفض التضييقات السياسية عليه في بلاده، فتركها مغادرًا إياها إلى فرنسا ليقيم فيها وليكتب هناك عمّا شاهده وعاناه من تلك التضييقات الفظيعة في بلاده. فما الذي دفع سلمان إلى تلك القراءة المحمومة لكونديرا؟.. هل هو التشابه بينهما.. هل كان سلمان يشعر بمثل ما شعر به كونديرا؟ بل هل كان هو الكاتب الذي عانى من حكم الآخر على بلاده بالقوة، أم هل كان السبب هو نزعة إنسانية فنية ساخرة قربت بين الاثنين لا سيّما وأن كتابتاهما مع المحافظة على الاختلاف الطبيعي بينهما، قرّبت وجمعت بينهما؟.. سواء كان هذا السبب أو ذاك هو ما جمع بين هذين الكاتبين، كاتبًا وكاتبًا أولًا وكاتبًا وقارئًا ثانيًا، أو العكس، فإنني اعتقد أن الامر يحتاج إلى شيء من التفكير، المعاينة والنظر. بإمكان الناظر المتمعّن في هكذا وضع أن يسجّل العديد مما يجمع بين هذين الكاتبين، خاصة وأنه اطلع على العديد مما انتجاه، وأنه بإمكانه أن يسجّل عددًا من الملاحظات التي تؤكد القرابة الروحية بين كاتبين مختلفي المشرب والموقع وتغلب عليهما الرؤية الذاتية للواقع إضافة الى الرؤية الفنية الواعية. فيما يلي أحاول أن أمركز ما أراه بهذا الخصوص في عدد مُركّز ومكثف من النقاط.

* السياسة: لقد اتفق سلمان في رأيه ورؤيته وربّما في توجهه العام مع كونديرا، وقد اتفق معه على ما يبدو في نقطة أخرى أكثر أهمية واشدّ الحاحًا، هي أن الحرية مطلب انساني قبل ان يكون سياسيا، بهذا المعنى أرى أن الكاتب المثقّف لدى سلمان تغلّب هنا على الشخص الإنساني المفرد تاركا مساحة واسعة لذاته الجمعية.

* الفن والفلسفة: كان سلمان طوال عمر صداقتنا التي تواصلت منذ السبعينيات حتى أواخر أيامه، كاتبًا طامحًا للارتقاء الفني الإبداعي، وأذكر في هذا السياق، أنه كان ميّالًا إلى التفكير الفلسفي العميق، بل انه كتب عددًا من المقالات والخواطر، خاصة في بداياته الاولى، بل أذكر أنه كان اقترح علىّ أن نتبادل الرسائل العلنية- المنشورة-، في ذلك المجال، قائلًا لي إنه يشعر بقرابة روحية عميقة في الميول الفلسفية فيما بيننا. هذا الميل الفني الفلسفي تجلّى على أفضل ما يكون في كتاباته القصصية خاصة، وأشير منها إلى كتابه "وما نسينا"، ففي هذا الكتاب حاول أن يسجّل قصصًا واقعية استمع إليها من أفواه اخوان مهجرين له، غير أنه صاغها بأسلوب فنيّ راق حافظ عبره على ما تتطلّبه الاعمال الابداعية الجادة من براعة في الأداء وبساطة في التوجّه. فيما يتعلّق بكونديرا من هذه الناحية، صحيح ان شهرته قامت كما رأى الكثيرون ممن كتبوا عنه على مواقفه السياسية، غير اننا لا يمكن إلا أن نرى إلى محاولاته الإبداعية الفنية الدائبة لتقديمه ذاته المبدعة عبر رؤى خاصة ذات رائحة نكهة ولون، وهو ما جعله متفرّدًا في كتاباته سواء كانت مباشرة، من مقالات وما إليها من هواجس وخواطر، أو روائية إبداعية حظيت باهتمام القراء عبر أكثر من أربعين لغة ترجمت اليها، في انحاء مختلفة من عالمنا.

* السخرية: جمع بين كاتبينا، كاتبًا وقارئًا أيضًا، سخرية شديدة الوقع، ميّزت كلًا منهما بطريقتها الخاصة، فقد عُرف عن سلمان أنه كاتب ساخر من طراز خاص، وبإمكان مَن يقرأ كتابه "خمّارة البلد"، ان يتأكد من هذه الصفة، بل يمكنني القول إن السخرية كانت واحدة من المميّزات البارزة للكتابة الأدبية والسياسية أيضًا لدى سلمان، أما فيما يتعلّق بكونديرا، صاحب الضحك والنسيان، فإن الامر/ السخرية، يظهر طاغيًا على العمق البعيد في كتاباته المختلفة، وبإمكان مَن يقرأ عمليه اللافتين "الحياة هي في مكان آخر" و "غراميات مرحة"، أن يتأكد من هذه الخلة الجامعة بعرى وثقى بين كاتبينا، زاد في اعجاب سلمان بميلان أن الاثنين كانا يغترفان من سيرتيهما الذاتية في جُلّ ما انتجاه وابدعاه، اذا لم يكن فيه كلّه، وانهما جعلا من السخرية، كلّ بطريقة، أسلوبًا لمواجهة واقع مر قاس لا يترك فضاءً كافيًا لشيء من الامل. أما ما جمع بين هذين الكاتبين وجعل سلمان يُقبل كلّ ذلك الاقبال على قراءة ميلان، فاعتقد أنه يعود إلى ميل سحيق في الرؤية السياسية خاصة للواقع، وإلى فهم عميق للإبداع الادبي في مجتمعات محاصرة.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم