أقلام ثقافية

سامراء لماذا يأخذون أسرارهم معهم؟!!

صادق السامرائيأيام الصبا، كانت سامراء ذات طعم خاص وشعور لذيذ، بما يتحقق في دروبها وشوارعها وأسواقها ونواديها ومقاهيها وملاعبها ومكتبتها ومدارسها الإبتدائية خصوصا (الأولى،الهادي،  المعتصم، المتوكل) ومدرسَتَيْ البنات الإبتدائية والثانوية، من نشاطات وتفاعلات إنسانية.

فكانت المدينة  في حركة زاخرة ومزدهية بالزائرين والسياح.

وكان مسرح نشاطاتنا الصيفية (نهر الجاري)، وساحة مرتعنا ولعبنا وأنسنا (كهف القاطول)، وخليج دجلة الذي يتموج بأحضانه.

وعلى جرف الخليج كانت الصخور الكبيرة الشامخة، وبقايا جسر (الدوبة)، وبعض (الدُوَب) على ضفافه.

وفي الكهف كان  رجل أعرفه، لأنه يدفع عربة بيع النفط (العربانة)، ويضع فيها غالونات النفط (بيب، تنكة)، ويبيعها للبيوت.

فهو يدور في طرقات المدينة عند الصباح، وبعد الظهيرة أجده يزرع (اللوبيا ) أو كما نسميه (العوين)، على ضفاف ذلك الخليج في كهف القاطول.

وكنت مولعا بصيد السمك، والتفاعل مع الأمواج والطيور المصدحة في أرجاء الكهف الصاخب بالحياة.

وما كان يشد إنتباهي ودهشتي، أن ذلك الرجل كان يجعل الماء يصعد من الخليج إلى ضفافه ليسقي زرعه، الذي هو عبارة عن بضعة أمتارٍ مربعة.

وكان قد صنع مجرى للماء بطريقة حلزونية عجيبة، ما علمني أصولها، رغم ملحتي ومراقبتي له، ودهشتي بحركة الماء من الأسفل إلى الأعلى من غير آلة سوى لعبة هندسية يجيدها ويحتفظ بأسرارها.

وقد تذكرته وأنا في إسبانيا أتأمل الحمامات العربية، وآليات جريان الماء في قصر الحمراء، والتي حاول الإسبان أن يتعرفوا على أسرارها فخربوها، وبقيت لغزا محيرا.

وعلى مائدة الغداء تذكرته اليوم أيضا، بعد أن خاض الجالسون في نقاشات هندسية، إبتدأت بالحضارة الفرعونية وإنتهت بجنائن بابل المعلقة، التي كانت تسقى بذات الأسلوب، وبتشكيلات هندسية في نظام الإرواء تؤدي إلى صعود الماء من الأسفل إلى الأعلى.

حضر ذلك الرجل الذي أبى أن يعلمني قوانين وأسرار صعود الماء من الأسفل إلى الأعلى.

وكم تأملت أسرار الجريان وأنا في بركة المتوكل الحسناء، التي تختفي فيها تلك الأسرار، بل وتصنع معزوفات موسيقية بطاقة الجريان، عبر أخاديد وقنوات وكأنها الأوتار.

وكأنك بدلا من أن تنفخ بآلة موسيقية هوائية، يمكنك أن تحولها إلى آلة موسيقية مائية، بأساليب هندسية فنية متوارثة ودقيقة.

وقوانين إنطلاق الماء من الأسفل إلى الأعلى وعودته إلى الأسفل، واضح في مرجل الطبيعة ودورة المياه فيها، حيث ينطلق الماء من الماء بخارا، فيصير غيما ثم  يعود ماءً إلى الماء بعد أن يُحْي التراب. 

لكن صعود الماء إلى الأعلى دون تغيير بحالته الفيزيائية، وعودته إلى الماء، هذا ما برعت به الحضارات السابقة، وتوارثه بعض أبنائها، لكنهم إحتفظوا بتلك القوانين أسرارا فانقرضت بإنقراضهم وضاعت.

وعندما أصبحت طبيبا، رحت أبحث عن ذلك الرجل الذي أبى أن يعلمني قوانين صعود الماء من الأسفل إلى الأعلى، فلم أجده، فذكروا بأنه قد رحل منذ أعوام وأخذ أسراره معه.

وكنت أحسبه ساحرا، ويمتلك طاقات خفية تؤثر في الماء، وتجعله يتحرك وكأنه تحت تأثير طاقة كهرومغناطيسية، توجهه نحو تلك البقعة التي يزرعها على ضفاف النهر المرتفعة عن الماء.

فهل نعرف قوانين خفية ما زالت فاعلة في عالمنا وستنقرض بموت أصحابها؟

أم أنها لن تغيب وتبقى كامنة في موروثاتنا الجينية؟

ولا أدري لماذا لا نمتلك روحية تواصل الأجيال وتحميلها أمانة ما نعرفه من أسرار؟!!

 

د. صادق السامرائي

9\1\2016

 

في المثقف اليوم