أقلام ثقافية

نهاد الحديثي: مرافئ ثقافية

البرامج السياسية الساخرة تعتبر من أبرز أساليب الاتصال السياسي في الوصول إلى الجمهور، يوجد في الوطن العربي العديد من برامج السخرية السياسية تحظى بمتابعة كبيرة، تمثِّل السخرية أحد أساليب التعبير عن الذات، والآراء، واتجاهات الإنسان حول الواقع من حوله، وهي أيضًا وسيلة للنقد والتعامل مع السياسيين ومساءلتهم باعتبارهم أشخاصا عاديين وليسوا منزهين عن الخطأ تتلقى برامج السخرية السياسية في العالم العربي مجموعة من الانتقادات حيث يطالب البعض بوضع حدود للمواضيع التي تتناولها، واعتبار انها تتجاوز بعض الخطوط الحمراء التي يضعها المجتمع نفسه، انتقادات أخرى وجهت لهذه البرامج مفادها أنها تتناول القضايا السياسية الكبرى بسطحية وتسعى لتحقيق الربح المادي والشهرة أكثر من سعيها إلى إثارة القضايا المهمة ومناقشتها أمام الرأي العام

ويعيد البعض إقبال الجمهور العراقي على برامج السخرية والفكاهة على حساب وسائل الإعلام التقليدية، إلى ما يراه نوعا من السخط العام على العلاقة المختلة بين المواطنين والحكومة وعلى الانقسامات المجتمعية والطائفية التي تعاني منها البلاد،، تضاعفت نسبة إقبال العراقيين على مشاهدة برامج وقنوات السخرية والفكاهة، التي تركِّز غالباً على نقد السياسيين والخطاب الإعلامي الطائفي، في السنوات القليلة الماضية، ويُعدّ هذا الفن حديثا نسبياً على الساحة الإعلامية العراقية؛ إذ بدأ في الظهور بعد الانتشار الواسع لمثل هذه البرامج في بعض التلفزيونات العربية، وبشكل خاص برنامج "البرنامج" الذي كان يقدمه الإعلامي الساخر باسم يوسف في مصر عقب ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011 والنجاح الكبير الذي حققه.وحقّقت السخرية والفكاهة -سواء أكانت برامج تُذاع في محطات التليفزيون أو على قنوات وصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي- شعبية جارفة حتى باتت الأكثر مشاهدة في العراق

ويأتي برنامج "البشير شو"، الذي يقدمه الإعلامي العراقي الساخر أحمد البشير على قناة "دويتشه فيلا" الألمانية، على رأس أعلى البرامج مشاهدة على القنوات العراقية، وفي مجتمع محافظ اجتماعياً، ومنقسم سياسياً، وتتوزع فيه المناصب الحكومية بين الكتل السياسية توزيعاً طائفياً وعرقياً، وتتبع فيه وسائل الإعلام - إلى حد كبير - جماعات سياسية ودينية، يواجه الإعلاميون الساخرون في العراق كثيراً من العقبات حتى يصل صوتهم إلى الجمهور،، قد لا تكون القنوات الفضائية التابعة للحكومة والأحزاب هي النافذة المناسبة لنقد الأوضاع الحالية بحرية كاملة، وهو ما يدفع بعض الإعلاميين الشباب للتوجه نحو مواقع التواصل الاجتماعي، لتقديم برامج ساخرة بسقوف حرية أعلى من تلك المتاحة رسميا، وسرعان ما بدأت برامج أخرى بالظهور على الشاشات العراقية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها كانت أقل حدة في النقد مراعاة لشروط هيئة الإعلام والاتصالات الحكومية ،ويأتي في مقدمة هذه البرامج (ولاية بطيخ) الذي يحظى بنسب مشاهدة عالية، لكن طابعه يميل إلى النقد الاجتماعي أكثر، وتعرض كادر البرنامج لتهديدات عشائرية وهجوم مسلح على بيت مقدمه، بسبب ما وصف بالتهجم على زعيم تاريخي لإحدى عشائر جنوب العراق، مما أدى إلى تدخل جهات سياسية وأمنية لإنهاء الأزمة، هذه الكوميديا السوداء تشعر المواطن بما يشبه "الثأر" من هؤلاء الأشخاص الذين لا يستطيع مواجهتهم بنفسه، خاصة تلك الجهات التي تمتلك نفوذا عاليا، وأحدثت هذه البرامج تفاعلا في أوساط الشباب، تجلى ذلك في نسب المشاهدة المرتفعة، وصفحات المعجبين والمتابعين، وانتشار المصطلحات الساخرة المستخدمة في تلك البرامج على ألسنة المراهقين والشباب وحتى كبار السن أحيانا. يستخدم أسلوبا "بناء" في النقد لا يميل إلى التجريح والإسقاط، لأن سقف الحرية منخفض ويجب أن تكون الكلمات محسوبة بعناية، لدرجة أن "العراقي بات يشعر بأنه غريب في وطنه".ورغم أن بعض السياسيين يحاولون التقرب من مقدمي هذه البرامج وتقديم عروض سخية لهم بعد ان اتسعت موجة السخرية المتلفزة وأصبحت منتشرة على نطاق واسع في الشاشات العربية وفي وسائل التواصل الاجتماعي -موقع يوتيوب تحديدًا- وأصبحت تستقطب مشاهدات واهتمامًا لافتًا، خصوصًا في الفترة الأخيرة. ويتضح ذلك من خلال نسب المشاهدة العالية التي باتت تستقطبها هذه البرامج حيث تصل مشاهدات بعض هذه البرامج إلى أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة مثل برنامج "جو شو" في موقع يوتيوب، بينما تصل مشاهدات بعض الحلقات في موقع فيسبوك نحو 14 مليون مشاهدة، فضلًا عن ازدياد عدد البرامج السياسية الساخرة لتصبح منتشرة في مختلف الشاشات العربية، حيث تزامن ظهور البرامج الساخرة مع اندلاع ثورات الربيع العربي في البلدان التي شهدت انتفاضات، وتمكنت من تحطيم الكثير من القيود والمحرمات السياسية، وأتاحت قدرًا كبيرًا من الحرية في مواجهة الأنظمة الحاكمة ونقد سياساتها. كما أنتجت الظروف السياسية المضطربة في أغلب بلدان الربيع العربي، نتيجة ما عُرف بـ"الثورات المضادة"، أوضاعًا سياسية واقتصادية وإنسانية غير مستقرة وأصيبت تلك المجتمعات بحالة من الإحباط والخوف من العودة إلى أحضان الأنظمة الاستبدادية التي انفجر الشارع لإسقاطها، ومن ثم مصادرة الثورات التي مثَّلت بارقة أمل للشعوب العربية للخلاص من حقبة الديكتاتوريات

هذه البرامج بحاجة إلى تطوير مستمر، وإدخال قوالب وأشكال جديدة في معالجتها تضمن من خلالها جذب المزيد من الجمهور والاحتفاظ بحضور متجدد غير ممل. كما تحتاج إلى مستوى عال من الحرية، وضمان حرية أعلى لمقدمي هذه البرامج ليتمكنوا من تقديم خدمة مجتمعية موضوعية، تسهم في تعزيز الحوار السياسي المجتمعي، وتسهم في تهيئة الفضاء العربي للتحول الديمقراطي.

 

نهاد الحديثي

 

 

في المثقف اليوم