أقلام ثقافية

ابراهيم رحيم: لأنّك رفيقي ولأنّي جبان آخر

ابراهيم رحيم(إلى مصطفى)

لا باب يفتح إلى أمسنا إذا ما أحكمه الموت من ورائه، لا باب يفتح إلى نفسنا إذا ما جرّدنا الموت من ثياب الحياة؛ ذاك الباب المتكئ على جدرانه غير العابئ بنصال الوقت وهي تغرز برويّة في خاصرة الذكرى، منهيّة هذا النزيف المستمر للثواني. إنّها العذريّة المرمّمة بيد الموت تلو تسلّله إلى فراشنا من باب موارب بين بين الحياة والتكيّف بالموت المعاش، لا غرو أنّ ذاك الباب يغلق على أمسنا وحاضرنا ومجموعتنا الغنيّة من لوحات الذكريات، إذ كلّ شيء يباع رخيصًا في أروقة الزمان، يكفي أن يكون بحوزتنا قليلًا من نقودي الحزن والحنين.

إذن إنّه الموت ذاك السكّير بضرع الخوف المولود من رحم الخنوع، يجيئنا زائرًا أو متسولًّا باكيًا ويتركنا قبيل الفجر مفجوعين بالظلمة نصارع ذئاب الدموع؛ هو الّذي كان يتبعنا خلسة من باب إلى باب ومن جرح إلى جرح مذ كان متربّصًا بنا في أرحام أمّهاتنا، وفي المهود كان يهمس إلينا: نم يا صغيري نم بأمان؛ ويوم كنّا نلتهم الضرع وقت الجوع أو الضجر ويوم كان المرض يقبل جفافًا لأشجارنا، أو حين كنّا نقف في طوابير المدارس وهي تلقنّنا بلغة لا نقرأ في سحنتها سوى مختلف ألوان الخوف، وحتى يومنا هذا الّذي تطارد الكلمة بالرصاص والخراطيش؛ هكذا ظلّ هذا الظِلّ الرفيق يتبع ظلالنا إلى مواسم الحصاد، هذا المزارع الّذي يحرث الأرواح بغية زرع جديد وترديد الهمس المعهود في آذان البراعم: نم يا صغيري نم بأمان، نم يا صغيري...

كم مرّة باغتنا بوجه أفعى ونحن نقتطف من بساتين الطفولة تمور المرح، وكم أرانا طرف وجهه عند تشييع الأحبّة في مقابر الدموع، وكم لمحناه ملثّمًا في مرآة السيّارة الجانبيّة وهو يطلب منّا توصيلة مجانيّة أو رقمًا للمهاتفة أو موعدًا لشرب القهوة؟ إذن لم الحنين يدفعنا إلى الجحود به؟ هذا الّذي ما زال يحرس على رضاعة مخاوفنا وتأتأتنا في دروب التأقلم!

نحنّ لأنّنا ببساطة أشجار وقصائد تخاف، تخاف تساقط المعنى من أغصانها عند اشتداد الريح، تخاف العري والثلج يكسو باطنها، تخاف الظلمة وهي تمدّ فؤوسها إلى جذعها. نحنّ هاربين إلى أمسنا من مرافق جبان يخلف ظلالنا بخطوة واحدة، ونعلم بأنّه حين يفصلنا عمّن نحبّ فإنّه يفترس كلّ أدوات الجمع الّتي نركن إليها إذا تحسّسنا من ظلالنا، ومن رهبة وحدتنا، ودنوّ تودّده إلينا! يتودّد ليسلبنا الخوف ذاك الطفل المدلّل الّذي حرصنا عليه أن يكبر ويتعاظم معنا وينتشل من فمّ الخوف نفسه كلّ ما لم يكن إلينا!

فالموت جبان لأنّه ينشب مخالبه في الأعناق وصدور الذكرى على حين غرّة، وجبناء نحن لأنّنا حيوانات تتحسّس من ظلالها فتتهارب في أدغال الوقت حتّى يحين موعد افتراسها، فيا له من لقاء بين الجبان وبين من هم مجبولين بالجبن حدّ الشحوب!

 

ابراهيم رحيم  - الأهواز

30 كانون الثاني / يناير 2022

 

في المثقف اليوم