أقلام فكرية

النظرية التداولية: المفهوم والتصور (1)

ridowan alrokbiتقديم: تعد اللغة ظاهرة اجتماعية، مرتبطة أشد الارتباط بثقافة مستعمليها، هذه الثقافة التي يمكن تحليلها بحصر المواقف الاجتماعية المختلفة والمسماة سياقات مقامية، ففكرة المقام هذه هي الأساس الذي ينبني عليه الشق أو الوجه الاجتماعي للغة، وهو الوجه الذي تتمثل فيه الأحداث والظروف والعلاقات التي تسود ساعة أداء المقال[1].

وعلى هذا الأساس يعتبر السياق أحد المحاور الأساسية، التي أفضى الحوار بصددها إلى تثوير الدراسات اللغوية التي تمخظت؛ فأنجبت درس التداوليات، الذي لا يمكن اعتباره إلا دراسة للأقوال، باعتبار السياق كما يذهب إلى ذلك ستالناكر Stalnaker وفرانسيس جاك*. ولذلك فللسياق أهمية كبيرة وضرورة لا غنى عنها لمحلل الخطاب، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الدلالة والمعنى.

وبهذا فالسياق يمثل خاصية أساس من بين الخصائص التي يقوم عليها أي استعمال، لأية لغة طبيعية، ذلك" أنه يوجد على الأقل في كل موقف تواصلي، شخصان أحدهما فاعل حقيقي، والأخر على جهة الإمكان، أي المتكلم أو المخاطب على التوالي، وكلاهما على الأقل ينتميان إلى جماعة لسانية، أي طائفة من الأشخاص لها نفس اللغة، وترابط ضروب الاتفاق والتواطئ للقيام بالفعل المشترك الانجاز[2]. داخل سياق مقامي محدد.

تقوم النظرية التداولية للنص على مفهوم مقام الخطاب، لهذا كانت البلاغة العربية تختار كنقطة انطلاق لها هنا مقام الخطاب، حيث كان الخطيب يقف في الموقف المخصص له، ويسعى إلى كسب انتباه المستمعين مراعيا بذلك أقدارهم وحالاتهم حسب تعبير الجاحظ، وهذا ما نلمسه بدقة في صحيفة بشر بن المعتمر، التي تعد منطلقا أساسيا للتفكير البلاغي المراعي لمختلف العناصر التداولية في عملية التواصل.

ونقصد بالنظرة التداولية؛ تلك النظرة التي تقوم على البحث في العلاقات التفاعلية بين النص وبين منتجه من جهة، وبينه وبين متلقيه من جهة أخرى، مع مراعاة مختلف العناصر المقامية المؤثرة في هذه العلاقات.

وهكذا استطاعت النظرية التداولية؛ أن تعيد النظر في مجموعة من القضايا التي كان يرتكز عليها البحث اللساني، وهي من بين هذه المناهج التي نبهت على ضرورة أخذ الاستعمال اللغوي بعين الاعتبار، وبعبارة أخرى أرادت تجاوز القدرة على الانجاز، أي تجاوز البنية الصورية إلى الكلام في كل حيويته وعفويته، والى المتكلم بكل ما له من اعتقادات ونوايا معرفية، والى المخاطَب بكل ما له من فهم وقدرة على التأويل.

والتداولية ليست تخصصا منغلقا على ذاته، بل اقتحمت العديد من الموضوعات التي كانت تُصنف ضمن موضوعات الفلسفة التقليدية مثل، الاقتضاء والاستلزام الحواري والأفعال اللغوية، إلى جانب ذلك تخوض التداولية اليوم في بعض الموضوعات التي ما زالت تشغل بال الفلاسفة والمناطقة، كمسألة الفرق بين الألسنة الطبيعية واللغات الاصطناعية المنطقية، وكذا الفرق بين الاستدلال المطبق في الألسنة الطبيعية، والبرهنة المنطقية المطبقة في مجال المنطق والرياضيات مثلا، إضافة إلى الاهتمام بموضوع الحجاج الذي يشكل أحد موضوعاتها الرئيسة.

وهكذا استطاعت التداولية اليوم، أن تقدم الإطار النظري الملائم الذي يسمح بمعالجة العديد من القضايا أو الموضوعات، في مقدمتها الأفعال اللغوية و الحجاج والاستدلال والمبادئ التخاطبية أو الحوارية... إضافة إلى أنها استطاعت أن تجدد البحث وبطريقة مبتكرة في العديد من القضايا التي كانت تنتمي إلى المجال المرتبط بالدلالة.

 

المـطـلـب الأول:

لا شك أن تحديد المفهوم له أهمية كبيرة في البحث العلمي الرصين، إذ يعتبر الخطوة الأساس والمهمة الأولى للمعرفة العلمية، التي لا يمكننا أن نضمن النجاة من الانفلاتات التي نكون عرضة لها بين الفينة والأخرى، نتيجة غياب حدود مفهومية للمصطلحات التي نشتغل بها. ولكن إذا حددنا المفاهيم قبل ارتيادنا غمار البحث ولُججه، سنكون قد ضمنا شرطا علميا في معالجة الإشكالية المدروسة، إذ الوصول بالخطاب العلمي إلى مستوى الدقة، يعني أولا تعريف المفاهيم، باعتبارها مفاتيحا للعلوم.

والتزاما بهذه الخطوة المنهجية؛ وتأسيسا عليها، لابد أن نحدد مفهوم التداولية باعتباره محور الدراسة وقطب رحاها، وكذلك مجموعة من المفاهيم التي تدور في فلك التداولية مثل: مفهوم الأفعال اللغوية؛ والاستلزام التخاطبي... إلى غيرها من المفاهيم التي سنقف عندها في هذا العمل.

 

1- مفهوم التداولية:

يقول ابن منظور: تَداوَلنا الأمرَ: أخذناه بالدُّوَل، وقالوا دَوالَيكَ أي مُداوَلةً على الأمر... وتداولتهُ الأيدي أخذته هذه مرَّة وهذه مرَّة.[3] وأدل الشيء: جعله مُتداولا، دَاولَ كذا بينهم، جعله متداولا تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.[4]

والتداول من تداول يتداول وجذره - دَولَ- وهو على صيغة التجاوز، وفيه الممارسة والتفاعل أيضا، وهذا واضح من خلال مادته المعجمية، إلا أن هذه المادة تنسحب على تعميم كبير من النَّكِرات - أمر؛ شيء...- هذه النكرات التي يمكن أن تستبدل باللغة والخطاب، لتفيد بعض التخصص الذي نرجوه. ومن ذلك نقول تداول اللغة: أي استعملها.

وعلى هذا الأساس استعملت كلمة تداولية مشتقة من فعل تَداولَ، وهو يفيد معنى ما تناقله الناس وأداروه فيما بينهم.

وفي تأملنا لهذا الفعل الذي يفيد معنى المشاركة، نجد أنه يجمع بين جانبين اثنين مترابطين، وهما التواصل والتفاعل" ومن ثمة يكون معنى التَّداول، أن يكون القول موصولا بالفعل"[5].

ولفظة التداول تفيد في العلم الحديث"معنى الممارسة ونعبر عنها ب: PRAXISLA - تفيد تماما الممارسة - وهي مقابل المصطلح التاريخي، وتفيد أيضا التفاعل في التخاطب"[6].

والتداولية هي أفضل كلمة يمكن استعمالها مقابلا لمصطلح Pragmatiqueوذلك لأنها تفيد معنى الممارسة، كما تفيد معنى التفاعل في الخطاب، وكل ذلك في إطار الدلالة والتداول على السواء.[7]

لا أحد يُماري في أن البحت التداولي وليد الثقافة الانجلوساكسونية، فقد تطورت في الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا بسبب الدور الذي اضطلعت به الاتجاهات التحليلية في الفلسفة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ما خلفته النظرية التشومسكية - التوليدية - في نموذجها من إخفاق، نتيجة تمسكها باستقلالية التركيب، مما أدى إلى التفكير في البعدين الدلالي والتداولي، على اعتبار أنه خلال القرن الماضي، توزعت علامات اللغة إلى بعدين أساسين:

- البعد النحوي: ويهتم بدراسة التراكيب: أي دراسة وضع الكلمة في الجملة، والجملة في مقاطع الجمل، من أجل إيجاد قواعد تحدد هذه التعبيرات المختلفة.

- البعد الدلالي: ويهتم بمعالجة علاقة العلامات والكلمات بالأشياء وأحوالها؛ أي الاهتمام بدراسة المعنى والمرجع.

ولما كان هذان البعدان لم يستنفدا مشاكل المعنى، ولا مشاكل الحقيقة؛ فإن التداولية تتدخل لدراسة علاقة العلامات بمستعملي هذه العلامات، والجمل بالمتكلمين. وبإيجاز" نجد أن النحو يدرس الجمل، وأن الدلالة تدرس القضايا، أما بالنسبة للتداولية فهي دراسة الأفعال اللسانية والسياقات التي تتم فيها."[8]

إن وقوف النحو التوليدي عند المكون الدلالي، ومحاولته الحفاظ على استقلال النحو باعتباره نظرية للقدرة الذهنية، وعدم تجاوز ذلك إلى مستوى استعمال وتوظيف اللغة، فتح الباب أمام نظريات تطعن في مصداقية صورنة اللغة. ولهذا سرنا نجد عند مطلع السبعينات من القرن العشرين، أن النحو التوليدي بدأ يفقد سيطرته على الدرس اللساني، حيث بدأت تنافسه مدارس واتجاهات جديدة لا تفصل اللغة عن مستعمليها.

والتداولية من بين هذه المناهج التي نبهت على ضرورة أخذ الاستعمال اللغوي بعين الاعتبار، وبعبارة أخرى أرادت تجاوز القدرة على الانجاز، أي تجاوز البنية الصورية إلى الكلام في كل حيويته وعفويته، والى المتكلم بكل ما له من اعتقادات ونوايا معرفية، والى المخاطَب بكل ما له من فهم وقدرة على التأويل.

وهكذا استطاعت النظرية التداولية؛ أن تعيد النظر في مجموعة من القضايا التي كان يرتكز عليها البحث اللساني. فعندما ننظر في الموقف الابستمولوجي الذي اتخذه دسوسير من مفهومي اللغة والكلام، حيث أقصاهما من حقل البحث اللساني، ونعت الكلام بالظاهرة الفردية الخالصة، كما نعت اللغة بكونها موضوعا غير متجانس، ومن ثم فإن الدارس لا يمكنه أن يجد فيها موضوعا صالحا للدراسة اللسانية.

وكذلك عندما ننظر في اللسانيات التوليدية مع تشومسكي الذي أعطى الأسبقية للقدرة على الانجاز، على أساس أن موضوع هذه النظرية هو القدرة المستترة التي يمتلكها مستعمل اللغة، والتي تتكون من معجم ومن نسق من القواعد النحوية، فإننا سندرك أن المقاربة التداولية للغة، قد جاءت لتحل محل كل من اللسانيات البنيوية والتوليدية.

فعلى العكس منهما جاءت المقاربة التداولية لتمد الجسور نحو لسانيات جديدة، وهي لسانيات التلفظ مع كل من بنفنيست Benveniste وأوستن Austin. ففي إطار التداولية – خاصة تداولية الأفعال اللغوية- لم يعد التمييز هو القائم بين اللسان باعتباره نسقا تجريديا؛ والكلام باعتباره تحققا فرديا. ولا بين القدرة والانجاز هو المعتبر، بل انصب الاهتمام على العلاقة القائمة بين الملفوظ وعملية التلفظ، أي بين نتيجة القول وفعل القول ذاته.

والتداولية ليست تخصصا منغلقا على ذاته، بل اقتحمت العديد من الموضوعات التي كانت تُصنف ضمن موضوعات الفلسفة التقليدية مثل، الاقتضاء والاستلزام الحواري والأفعال اللغوية، إلى جانب ذلك تخوض التداولية اليوم في بعض الموضوعات التي ما زالت تشغل بال الفلاسفة والمناطقة، كمسألة الفرق بين الألسنة الطبيعية واللغات الاصطناعية المنطقية، وكذا الفرق بين الاستدلال المطبق في الألسنة الطبيعية، والبرهنة المنطقية المطبقة في مجال المنطق والرياضيات مثلا، إضافة إلى الاهتمام بموضوع الحجاج الذي يشكل أحد موضوعاتها الرئيسة.

وهكذا استطاعت التداولية اليوم، أن تقدم الإطار النظري الملائم الذي يسمح بمعالجة العديد من القضايا أو الموضوعات، في مقدمتها الأفعال اللغوية و الحجاج والاستدلال والمبادئ التخاطبية أو الحوارية... إضافة إلى أنها استطاعت أن تجدد البحث وبطريقة مبتكرة في العديد من القضايا التي كانت تنتمي إلى المجال المرتبط بالدلالة.

وإذا ما رمنا معرفة الإرهاصات الأولى للاتجاه التداولي، فإننا سنجدها مبثوثة في أعمال فلاسفة اللغة، على أساس أن النظرية التداولية " تكاد تستلهم وجودها من المنطق، إذ تستنبط أساسا من فلسفة اللغة ونظرية أفعال الكلام بوجه خاص، وكذلك من ضروب تحليل الحوار، ومن الاختلافات الثقافية في كل تفاعل كما هو ملاحظ في العلوم الاجتماعية"[9].

وعليه يمكن تحديد منابع التداولية فيما يلي:[10]

ü المنبع الأول: وهو منبع فلسفي منطقي، عُرفت بداياته الأولى مع مؤسسين مباشرين أمثال: بيرس وموريسMoris (ch). وغير مباشرين أمثال فريج فينتنشتاين Wittgensteinإضافة إلى مؤسسين مجددين أمثال كارناب...

ü المنبع الثاني: وهو منبع فلسفي أيضا ارتبط بالفلسفة التحليلية، خاصة داخل ما اصطلح على تسميته بفلسفة اللغة العادية، ويمثل هذا التيار الفلسفي أوستن Austinمن خلال نظرية أفعال اللغة.

ü المنبع الثالث: وهو منبع لساني أسس له اللساني الفرنسي بينفنيستBenveniste داخل ما عرف بلسانيات التلفظ، ومن بعده ديكروDucrot Oswald وأنسكومبر Anscombre, JeanClaudeاللذين طورا هذا الاتجاه.

وهذه الإرهاصات الأولى نجدها كذلك في مناقشات جون أوستن Austin1950 وكذا في محاضرات بول كرايس Grice1967. هذه المحاضرات التي لم تسمح فقط بإحداث تقدم في مستوى معرفتنا باللغات الطبيعية، ولكن أحدثت تغيرا امتد إلى هندسة اللسانيات.

فاكتشاف الأبعاد التداولية للغة فتح أفاقا أرحب، وأنتج أسئلة جديدة ستكون مسوغا للاعتراف بالتداولية، باعتبارها أحدث بحث أفرزته اللسانيات الحديثة.* البحث الذي أصبح يولي أهمية وعناية كبيرة للشروط الخارج لغوية، والمتعلقة بالسياق والمقام والمتكلمين ومقاصدهم وحيثيات الاستعمال والأفعال اللغوية.

ومع ظهور النظريات التداولية التي ارتبطت بدراسات كل من أوستن Austin وسورل وكرايس Grice وغيرهم من التداوليين، تراجع دور المنطق في تحليل الخطاب اللساني، على أساس أنه كان يهتم بالتحليل الشكلي للغة. وبدأ الاهتمام منصبا على تحليل الأقوال باعتبارها أفعالا مرتبطة بالوقائع الخارجية، بمعنى بدأ الاهتمام بالكلام العادي في اللغة اليومية.

و على هذا الأساس تمكنت هذه النظريات من إرساء أسسها وطورت آليات اشتغالها؛ مراعية بذلك البعد الداخلي والخارجي في اللغة، حيث اهتمت بالعوامل الخارجية التي تتحكم في عمليات التخاطب.

يعود الاستعمال الحديث لمصطلح التداولية إلى كل من الفيلسوف تشارلتز موريسMoris (ch)، وهي تمثل عنده جزء من نظرية العلامة التي تتكون من ثلاثة أجزاء: التركيب، الدلالة و التداولية[11]. والفيلسوف رودولف كارناب Carnabالذي حدد اهتمام التداولية في الاعتقاد والقصد والملفوظ، داخل إطار علاقة منطقية تجمع بين هذه العناصر.

و إذا ما قمنا ببحث عن تعريف للتداولية، فإننا لن نجد تعريفا شاملا وموحدا لها، وذلك للأسباب الآتية :

أولا: لأننا لا يمكن أن نبرر التعريف إلا من خلال تطبيقه.

ثانيا: أن التعريف يضع البحث في إطار محدد ويضيقه في بعض الأحيان.

ثالثا: أن هناك اتجاهات عديدة تحاول تعريف التداولية، ومن ثم يصعب معها الوصول إلى صيغة موحدة.

لهذه الأسباب وغيرها كانت كل محاولات التعريف من طرف الدارسين لا تنسجم فيما بينها، إن لم نقل إنها تتضارب. فموريس Moris مثلا يعرف التداولية بأنها: " دراسة العلاقة الموجودة بين العلامات ومستعمليها"[12]. حيث اعتبرها " جزءا من السميائية التي تعالج العلاقة بين العلامات ومستعملي هذه العلامات."[13] وهذا التعريف واسع وغير محدد للتداولية، إذ يتعدى المجال اللساني إلى السميائي؛ والمجال الإنساني إلى الحيواني والآلي، على حد تعبير فرانسواز ارمينيكو.

كما أن هذا التعريف لا يحدد إلا الأهداف الوصفية للتداولية، إذا ما قارناه بتصور الفلسفة التحليلية؛ نجده يضيق مجال البحث. أما هذه الفلسفة فترى أن التداولية هي دراسة الأغراض اللغوية، فتكون بذلك قد ركزت على جانب الاستعمال اللغوي في الخطاب.

وعلى هذا الأساس يقدم جيوفري ليتشLeitch تعريفا لما تهدف إليه التداولية فيقول: "التداولية هي دراسة المعنى في علاقته بظروف الكلام، وحيثيات استعماله حيث اللغة نسق تواصلي."[14] ومفهوم ظروف الكلام يقوم عنده على خمسة أسس:

- المرسلون.

- سياق الملفوظ.

- هدف أو أهداف الملفوظ.

- الملفوظ باعتباره شكلا من الفعل أو النشاط.

- الملفوظ باعتباره نشاطا شفاهيا.

فالمتكلم يمتلك نية معينة للكلام، يعرف ما سيقوله، وما هو التأثير الذي سيحدثه بكلامه في المخاطب، ومن أي موقع يتكلم، ويعرف وضع المخاطب والسلوك المتوقع عنه.

وبناء على تعريف موريس الفضفاض نجد كلا من آن ماري دييرAnne Marie dillor وفرانسوا ريكاناتي François récantiيحاولان تحديد معنى التداولية لسانيا بكونها تهتم" بدراسة اللغة في الخطاب، شاهدة في ذلك على مقدرتها الخطابية."[15] في حين يذهب فرانسيس جاك .Françaiss إلى أن التداولية:" تتطرق إلى اللغة باعتبارها ظاهرة خطابية وتواصلية واجتماعية معا،"[16] أخذتا بعين الاعتبار لدور المتخاطبين أو المتكلمين، والسياق، باعتباره شيأ يتطلب الاهتمام به، حتى تتحقق العملية التواصلية، بمعنى أن التداولية تهتم بمجموع شروط إمكانية التواصل.

ولذلك ذهب فاندايكvan dayk إلى أن النظرية التداولية يجب " أن تسهم إسهاما مستقلا في تحليل الشروط، التي تجعل تلك العبارات جائزة ومقبولة في موقف معين بالنسبة للمتكلمين بتلك اللغة."[17]

ويعرف Levinson التداولية بأنها دراسة للمبادئ التي تجعلنا ندرك لماذا بعض الجمل غير عادية، أو غير مقبولة أو لاحنة أو غير واردة في اللغة المتكلم بها. ويضيف بأنه إذا كان النحو نظريات تتناول بنية أنواع الجمل... فان النظريات التداولية بالمقابل لا تفعل شيئا في تفسير البنيات اللغوية أو الخصائص النحوية أو العلاقات النحوية... وإنما تفسر أسباب المتكلمين أو السامعين في عملهم، خارج الترابط في سياق ورود الجمل بقضاياها. وبناء على هذا الاعتبار تعد النظرية التداولية جزءا من الانجاز[18].

أما فان دايك van dayk فيوسع مفهوم التداولية، ويجعلها علما يختص بتحليل الأفعال الكلامية ووظائف المنطوقات اللغوية وسماتها في عمليات الاتصال بوجه عام[19].

وتعرف التداولية غالبا بكونها دراسة للأقوال في سياقها، حيث النظر إلى اللغة باعتبارها نظاما تواصليا، حاويا لعناصر النسق اللساني الصرف المتداخلة مع كل ما يربط بها في محيط إنتاجها. وهي بذلك تبدو متجاوزة الدراسة التقليدية التي طالما وقفت عند النسق الشكلي للغة، إلى دراسة نسق الاستعمال. إن اللغة من هذا المنظور نسق علامات حامل لوظيفة في سياق حي.[20]

ويحاول بنعيسى ازابيط بعد استقرائه لمختلف التعاريف التي تناولت مفهوم التداولية الخروج بتعريف يقرب بين مختلف هذه التعاريف قائلا[21]: التداولية دراسة لظواهر الخطاب وتفسير لبنياته في ضوء الاستعمال والوظائف. وهو تعريف يلبي شروط التكامل بين ظواهر الخطاب وتقويم البنيات والمعنى كعناصر داخلية، وبين الاستعمال والوظائف والانجاز والسياق... كعناصر خارجية، كما يلبي شرط التفاعل والتداخل بين هذه العناصر المشكلة للأسس التداولية.

وتأتي أهمية التداولية من خلال كونها تهتم بمختلف الأسئلة الهامة، والإشكاليات الجوهرية في النص الأدبي المعاصر، لأنها تحاول الإحاطة بعديد من الأسئلة من قبيل:

- من يتكلم والى من يتكلم؟.

- ماذا نقول بالضبط حين نتكلم؟.

- ما هو مصدر التشويش والإيضاح؟.

- كيف نتكلم بشيء، ونريد قول شيء أخر؟.[22]

من ثم تستدعينا التداولية للإجابة عن هذه الأسئلة؛ إلى استحضار مقاصدنا وأفعال لغتنا، وسياق تبادلاتنا الرمزية، والبعد التداولي لهذه اللغة المستعملة، لذلك وُجد مفهوم الفعل ومفهوم السياق ومفهوم الانجاز في التداولية، باعتبارها مقاييس ومؤشرات على اتجاهات النص الأدبي في النظرية النقدية المعاصرة.

وتحدد فرانسواز أرمينيكو المفاهيم الأكثر أهمية في التداولية، في ثلاث مفاهيم أساسية تشكل الركيزة التي عليها يقوم الدرس التداولي وهي:

- مفهوم الفــعل: ويتنبه إلى أن اللغة لا تخدم فقط؛ تمثيل العالم، بل تخدم انجاز الفعل، فالكلام هو أن تفعل.

- مفهوم السياق: ونقصد به الوضعية الملموسة، التي توضع وتنطلق من خلالها مقاصد تخص المكان والزمان، وهوية المتكلمين... الخ وكل ما نحن في حاجة إليه من اجل فهم وتقييم ما يُقال، وهكذا ندرك أهمية السياق حين نحرم منه مثلا، أو حين تُنقل إلينا المقاصد عبر وسيط، وفي حالة معزولة عن السياق.

ولعل تركيز التداولية على السياق وأهميته في فهم العلاقة التخاطبية، هو ما دفع بماكس بلايك Max blyck إلى نعت التداولية باسم السياقية، لأنها في نظره علم الاستعمال اللساني ضمن السياق، أو بتعبير أكثر توسعا: هي استعمال العلامات ضمن السياق.

- مفهوم الانجاز: ونقصد به طبقا للمعنى الأصلي للكلمة، انجاز الفعل في السياق إما بمحايثة لقدرات المتكلمين، أي معرفتهم وإلمامهم بالقواعد، وإما بتوجب إدماج التمرس اللساني بمفهوم أكثر تفهما كالقدرة التواصلية.[23]

أما هانسون فقد حاول أن يميز بين ثلاث درجات للتداولية في برنامجه 1974مختلفة حسب طبيعة سياقها:

فتداولية الدرجة الأولى: هي دراسة للرموز الاشارية، أي للتعابير المبهمة حتما ضمن ظروف استعمالها؛ أي سياق تلفظها. ومن ثمة يكون سياق الدرجة الأولى هو الموجودات أو محددات الموجودات، ومن ثم فالسياق الوجودي و الاحالي هو المخاطبين ومحددات الفضاء والزمان.

أما تداولية الدرجة الثانية: فهي دراسة طريقة تعبير القضايا في ارتباطها بالجملة المتلفظ بها، في الحالات الهامة. إذ على القضية المعبر عنها أن تتميز عن الدلالة الحرفية للجملة، وبناء على ذلك يكون سياق هذه الدرجة موسعا كما عند ستالناكر، بمعنى انه يمتد إلى ما يحدس به المخاطبون، انه سياق الإخبار والاعتقادات المتقاسمة لا السياق الذهني.

أما تداولية الدرجة الثالثة: فهي نظرية أفعال اللغة، ويتعلق الأمر بمعرفة ما تم خلال استعمال بعض الأشكال اللسانية، فأفعال اللغة مسجلة لسانيا، إلا أن هذا لا يكفي لرفع الابهامات والإشارة إلى ما أنجز فعلا عبر هذا الموقف التواصلي.[24]

إن اهتمام التداولية باللغة داخل الخطاب[25]، يجعلها تحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة كما أسلفنا من قبيل؛ ماذا نصنع حين نتكلم.؟ وماذا نقول بالضبط.؟ ما هي العلامات النوعية التي ينبغي فعلها حتى يرتفع الإبهام والغموض عن جملة أو أخرى؟. ماذا يعني الوعي؟ كيف يمكننا قول شيء أخر غير الذي كنا نريد قوله.؟ هل يمكن أن نركن إلى المعنى الحرفي لقصد ما.؟ ما هي استعمالات اللغة.؟ أي مقياس يحدد قدرة الواقع الإنساني اللغوي؟. إلى غير ذلك من الأسئلة اللغوية والفلسفية التي تجعل من التداولية الحديثة حقلا تخصصيا واسعا، تتداخل فيه مجموعة من الحقول المعرفية السميائية منها والدلالية والتركيبية... حيث تهتم بدراسة الظواهر اللسانية ذات الطبيعة المتباينة، التي يمكن تحديدها منهجيا في أربعة مذاهب أساسية:

التداولية التلفظية:Enonciative أو اللسانيات التلفظية التي تهتم بدراسة العلاقات بين المعطيات الداخلية ومجموعة الحالات التلفظية الممكنة.

التداولية التعاقدية:Conventionnelle التي من خلالها يمكن للفكر أن يؤسس نوعا من الحوار، وهذه النظرية تدرس القيم التداولية في الجملة التي يمكن أن توظف تعاقدا لغويا خاصا، بحيث ان المنطق التخاطبي يتضمن مجموعة من القيم الدلالية المندمجة في موضوع اللغة المعين:

أ - قيم الإقناع

ب - قيم الإنجاح

وقد انطلقت هذه النظرية من أبحاث اللساني بورس. ثم تطورت في أطروحات أوستن Austin وسورلseurle خصوصا عند معالجتهما لمفهوم التخاطب، أو نظرية تعاقد الخطاب.

التداولية التخاطبية:Conversationnelleوهي التي تحتاج في موضوعها النظري إلى معطيات في الرمزية، وكذلك في نظرية التواصل. ومهما تختلف تصورات التداوليين لهذه المادة، فإنها تهتم بالمتكلم وعلاقته بالخطاب المعين.

التداولية المندمجة:Intégrée وقد نتج هذا النوع التداولي عند التجارب التي حاول اوزفالد ديكرو Ducrotمن خلالها أن يلحقها بالحقل التلفظي الذي سماه (الموضوع المتحدث فيه)، وهذا يدل على أن ديكرو يدافع عن تصور مزدوج للتداولية، حيث تأخذ الوظيفة الاستدلالية الحجاجية؛ باعتبارها وظيفة تلفظية لبنيتها الأساس والعقود اللغوية actes de langage التي سمحت له بانجاز عقود استدلالية حجاجية قيمتها التلفظية في الخطاب. وهذه الثنائية للتصور الذي دافع عنه ديكرو يمكن أن نؤطر فيها التداولية المندمجة، أو بتعبير أخر النظرية الدلالية التي تعطي الأهمية الأساس للمعطيات التداولية في إطار المعنى.[26]

وعلى العموم فالمنهج التداولي هو مستوى تصنيف إجرائي في الدراسات اللغوية يتجاوز دراسة المستوى الدلالي، ويبحث عن علاقة العلامات اللغوية بمؤوليها، مما يبرز أهمية دراسة اللغة عند استعمالها، ومن ثم فإنه يعنى بدراسة مقاصد المتكلم؛ وكيف يستطيع المرسل أن يبلغها في مستوى يتجاوز مستوى دلالة المقولة الحرفية، كما يعنى المنهج التداولي بكيفية توظيف المرسل للمستويات اللغوية المختلفة في سياق معين، حتى يجعل انجازه ملائما لذلك السياق.

وذلك بربط انجازه اللغوي بعناصر السياق الذي حدث فيه، فمنها ما هو ذاتي مثل مقاصد المتكلم ومعتقداته، وكذلك اهتماماته ورغباته، ومنها أيضا المكونات الموضوعية؛ أي الوقائع الخارجية، مثل زمن القول ومكانه، وكذلك العلاقة بين طرفي الخطاب. وتساهم هذه العناصر في تحديد الدلالة عند المتلقي، إذ يعتمد عليها في تأويل الخطاب في سياق معين، كما يعين على معرفة اثر السياق في لغة الخطاب عند إنتاجه.

 

د. رضوان الرقبـي- المغرب

في المثقف اليوم