أقلام فكرية

محمد يونس محمد: تجريد الفلسفة

موضوعة الفلسفة الفرنسية

من المهم أن نبدأ من فكرة ذات اهمية في مغزاها، فالفلسفة التي بدأت في عصور بعيدة لم تكن فلسفة بلد معين، وحتى بعد ظهور الامم بقت تلك الفكرة راسخة، وهي من فرضت بنسب عالية عدم الوقوف عند جنس بشري معين، لذا نحن عندما نفرق بين الفلسفة الالمانية والفلسفة الفرنسية يأتي ذلك للتأشير، وعادة لا يبلغ حدود المضامين الخطابية بملامسة تامة، وفقط المسميات هي التي تحيل مباشرة الى نوع الجنس البشري، واما على مستوى الخطاب فهناك اختلاف كبير ما بين مقومات خطاب لجنس بشري واخر، وقد امتازت الفلسفة الفرنسية عن اقرانها بتلك اللغة، فهي فلسفة مضامين لغوية من جهة، وهذا ما مهد لفلسفة البنيوية أن تنتشر بسرعة زمنية اعلى من مجريات الحداثة الزمنية، واذا كان هناك مجال تاريخي قد عكسه لنا ديكارت، والذي جعل من مقولته الشهيرة عنوان بارز ذا اهمية كبيرة في التأثير، حيث العقل الفاعل تمسك تماما بتلك المقولة، والتي مثلت العنوان الاوسع في تاريخ الفلسفة، فمقولات افلاطون وارسطو، وقبلها تضحية سقراط البليغة، وحتى تفاحة نيوتن، ومقومات اخرى لم تبلغ من الانتشار مثلما بلغته مقولة ديكارت، حيث البشرية صارت ترى علاقتها بالعالم قد تغيرت، وتحولت الى صيغة اخرى ذات جذب مفاهيمي، وهذا ما جعل ديكارت المقولة الفلسفية الاجدر، وليس فقط في عصر الفلسفة الوسيط، بل حتى ما بعد الفلسفة - اذا جاز لنا أن نطلق هذا المفهوم – تكرر تلك المقولة، والتي ترى البشرية بأنها تمكنت من خلق توازن نوعي ما بين مفهوم الوجود ومفهوم الموجود .

اذا عدنا الى اصول الفلسفة الفرنسية فنجد أن ميشيل دي مونتين قد سبقه فيلسوفا حول حياته بمقدرة الاخلاص والاحساس وصدق المشاعر الى اسطورة، فحياة الفيلسوف بيتر أبيلار الذي عاش من عام 1079 الى العام 1142، تصدرها ذلك الحب الاسطوري، بالرغم من كون أبيلار يمتلك خبرة عقلية في اللاهوت والمنطق، وكما كونه داخل اطار الدرس، لكن نمط العشق الذي منحه الى إلواز  كان خارج توصيفات المألوف، ولا يمكن درجه كسمة معتادة للحب، وتلك اولى بوادر الفلسفة الفرنسية بالتوجه لتجريد المعنى العام، والمدى الاسطوري لتلك العلاقة جعل جالة الحب تدخل في تفسير مضاد لواقع الحب المتعارف، وتلك الحال الاسطوري  نقر بوجود الممكنات في ذلك التاريخ من تأهيله الى المستوى الاسطوري، وفيلسوف المنطق والعقلنة لا يمكنه كبح او منع تلك المشاعر المتصاعدة الى ذلك المستوى، وكما أن عنصر التاريخ يمثل احدى الموجهات الى الاسطورة بنسب اكبر من أن يكون موجها للمنطق العقلي، حيث يشكل نسق الحياة العام التوافق مع ظواهر الاسطورة المتجاوزة لمعنى الخرافة الملتبس، وبذلك يكون ما عاش أبيلار في مشاعره ووجدانه اهم شخصيا مما يعيشه في المنطق العقلي، ولا نقر هنا بالمفاضلة ما بين ما هو استثنائي وما بين هو طبيعي ودارج، كما لا يمكن المقارنة ما بين الدرس واسطورة العشق .

في تفسير المنطق العقلي للفلسفة لا يمكن الحكم على التجريد حكما جازما، ففي الفصل اللساني هناك جنس لغة يقابل جنس لغة اخرى، ولا يمكن لجنس اللغة الأول أن يكون قيما على الجنس الثاني للغة، وتلك من الاشكاليات التي يقع فيها العقل الفلسفي، ولا نقر هنا بأن هناك جنس لغة احادي للغة،  وعلى وجه الخصوص في كشف مضامين الخطابات، وفي تفسير ثقافة فرنسا فهي الاسرع زمنيا بسيرورة الحداثة من جهة التغيرات الثقافية، ومن جهة اخرى شكلت فرنسا تلك الواحة الحرة بشكل تام، في انكلترا حددت حرية الخطاب القولي في البيكاديلي، ففي فرنسا هناك حرية كبيرة للخطاب وعلى وجه التحديد في النصف الثاني للقرن العشرين، وتلك الحرية مكنت اللغة من أن تسابق الزمن، وشارك الأدب الفرنسي في تسريع الحداثة بشكل ملحوظ، وشكلت موجة ما بعد الحرب العالمية الثانية طرح ما بعد الخطاب اذا جاز التوصيف، وشكلت الفلسفة الفرنسية التوافق بنسب اقل مع ذلك التسريع، ومن المهم أن نشير بأن الأدب الفرنسي طرح فلسفة جديدة، قلبت موازين الأدب، فقد تخلت الذات عن موقعها التاريخي، واستبدلت الاشياء والحاجات تلك المركزية، ولم تتدخل الفلسفة الفرنسية ازاء تلك الاشكالية، والتي نشير الى صحتها في مؤشرات الواقع، ونكرانها في المسارات العامة والسياقات، و ننكر أن تكون تلك الفكرة صدمت العقل فهي منبثقة من الواقع، وفلسفة الرواية الفرنسية تجنب تزويق الهم البشري، او استعارة صور الرفاهية المنحسرة وتقديمها في تفاصيل سردية كحقيقة تمثل النسيج الاجتماعي .

اذا قنعنا بالفكرة التي تضع ديكارت كأب للفلسفة الحديثة، واعتباره هو الصيرورة الانسب لتمثيل تلك الفكرة، لكن علينا أن نقر بأن الفلسفة خارج الجنس البشري، حيث يشير مؤشر النسب الى أن الفلسفة الالمانية هي التي اكثر مساحة بعد ديكارت، واذا كان دوستوفسكي يرى بأن الأدب الروسي خرج من معطف غوغول، لكن في اطار الفلسفة يختفي الجانب القومي نسبيا، حيث ما بعد ديكارت كانت النسبة الاوسع في الخطاب للفلسفة الالمانية، ولا نحتاج الى تفسير للمعطى الفكري للفلسفة وانبثاقها الملموس في الصفة العضوية للخطاب، وعلى وجه التحديد اكدت الفلسفة الالمانية الحضور الامثل على مستوى التداول، ومن الطبيعي يختلف الامر بين الحضور العضوي للخطاب وفي اطار الذات، والذات تعكس الحضور في المحيط المعتاد لها، واما الخطاب فيتجاوز في الواقع العضوي تلك المديات بالحضور المادي، واذا نقر بفكرة التأثر والتأثير، فيكون ديكارت تلك الصيرورة الفاعلة وقطب الجذب ايضا، وايضا هناك فكرة في حدود التصور، حيث لا يمكن اغفال الجانب النفسي ومدياته، وكن نجد المثال الاساس ما تمتلكه نقطة الجذب، وعلى وجه الخصوص حيث مثل ديكارت نقطة الفصل ما بين تاريخ مدرك ومعروف من الفلسفة، واخر في حالة الصيرورة، ولكن لا نقول بأن ديكارت هو وسيلة نقل من الماضي الى الحاضر والمستقبل لذلك التاريخ الفلسفي، لكن على مستوى الانطولوجيا نقر بأن ديكارت هو نقطة التحول الديناميكية .

من البداية تنطلق الافكار الى تأكيد صيغة من الصيغ الاساس التي اعتمدتها الفلسفة الفرنسية بشكل مباشر، فتحريك الثوابت في مستويات اصطلاحية للوجه الدلالي، وكذلك بث طاقة قاهرة في الجانب المستقر او الساكن من الفلسفة، كي يتمخض عن تلك الطاقة اطر تجديد المعنى الفلسفي، وبث نفس مختلف في الخطاب، والكشف عن مناخ فلسفي جديد بمقومات جذب واثارة، وجعل مسؤولية التفسير غائبة عن الحضور المطلوب، وقد تحولت علاقة الفلسفة بالإنسان بعد طروحات ديكارت، والتي اعادت الى المعنى الإنساني هيبته الوجودية، ولكن نقر بأن سيرورة الفلسفة الفرنسية قد مرت بتحولات ومنعرجات، كان لها المساس والتأثير المباشر بالخطاب، ويمكن اعتبار الفلسفة الفرنسية قد تداخلت بالأدب في القرن العشرين على وجه الخصوص، ودرج ذلك المسعى اللساني في اطار التحديث والتطوير من خلال مقومات اللغة المشتركة، وصار  يلوح ذلك المسعى الجديد، حيث استحدثت طبيعة جديدة للعلاقة ما بين الفكر والتجربة، لذا( أن من مميزات الفكر الحديث ازدياد التوفيق قدما بين العقل والتجربة، حيث انتهى او كاد ينتهي، عصر المنافسة القديمة بين العقلانية والتجريبية )1، ومسار العقل الجديد ليس فقط اجدر واكثر حرية، حتى احيانا تجد الدلالة تعيد تشكيل نفسها، بعد ما مرت به من ثلم، ولابد أن نقرق ما بين الجديد والتجديد، فالفلسفة الفرنسية لابد أن نقر هي الجديد، وصاحبة نسب عالية جدا من التجريد الواضح في سمات الخطاب .

لقد تمكن نيتشه من تجريد هيجل، وذلك قد شمل السمات الظاهر للخطاب، وعندما تقرأ خطاب نيتشه لا تجد اثرا لهيجل، ولا تلمس تراكم خطاب في الخطاب، وتشعر بأنك امام خطاب منفصل عن التاريخ الفلسفي، وهذا يسحبنا الى هنري برغسون الذي قاد المنعرج الدينامي والسياق الفني لخلق ذلك النفس الفلسفي الجديد في تاريخ الفلسفة الفرنسية، والتركيبة النفسية لبرغسون ذات النفس الما بعد التاريخي كان لها الاثر في تلك التحولات من تاريخ الفلسفة الى المعنى المثير ادبيا وفلسفيا. وبالرغم عدم تقديم برغسون خطابه عبر مستوى الخطابات المتعالية، لكن سمات التطور الخالق والوعي جديد، اثمرت من بلورة فلسفة بنسب تجريد كبيرة للتاريخ الفلسفي، وسعي الى انقاذ  القيم الفلسفية التي حددها المذهب المادي للفلسفة، او تلك التي بلورها المنهج العلمي بسياقات العقل العلمي، وقد تميز العقل في المؤالفة ما بين الغاية الفلسفية والقصد العلمي، وذلك ما منح الفلسفة الفرنسية ميزة الخلق والتنظيم اكثر بكثير من الفلسفات الغربية الاخرى، وما يفسر سابقا السعي لتوحيد الاضداد، اصبح في ظروف جديدة بصيغة اخرى تتناسب مع التطورات العامة للمعرفة والعلم، فقد اصبح السؤال المعرفي هو من ينيب عن التزام المحمول العلمي، وهذا ما انعش العلوم من فيزياء ورياضيات، بعدما اصبحت بتماس مباشر مع الفلسفة، ونجحت التجارب المشتركة، ويعود الفضل الى التجريد المناسب، اكثر ما وصف العصر في القرن العشرين بأنه عصر العلوم، وقد وسع بالشار حدود المنطق العلمي بطرح فكرة التجريب العلمي، والذي استعار فكرة ادبية اساسا، وانعش ابعادها لصالج المنهج العلمي وغاياته واهدافه .

***

محمد يونس محمد

.......................

1- نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة – جان لاكروا – ترجمة يحيى هويدي، انور عبد العزيز- المركز القومي للترجمة - ص 16

في المثقف اليوم