أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: مأزق الانسان بين الحتمية والإرادة الحرة

يتمحور النقاش في موضوع الحتمية مقابل الإرادة الحرة حول أمرين اثنين وهما: هل ان سلوكنا يتقرر نتيجة لقوى خارجة عن سيطرتنا، ام ان الناس قادرين على ان يقرروا بأنفسهم أفعالهم وتصرفاتهم بطريقة معينة.

الحتمية Determinism

الاتجاه الحتمي (الجبري) يقترح ان لكل سلوك سبب، ولهذا يمكن التنبؤ به، وان الرغبة الحرة ليست الاّ وهماً، وسلوكنا محكوم بقوى داخلية وخارجية ليس لنا أي سيطرة عليها.

الحتمية الخارجية

الحتمية الخارجية (البيئية) ترى ان سبب السلوك يقع خارج الفرد، مثل تأثير الآباء، الإعلام، او المدرسة. الاتجاهات التي تتبنّى هذا الموقف تشمل السلوكية behaviourism ونظرية التعلّم الاجتماعي. فمثلا، النفساني باندورا Bandura(1961) أوضح ان الأطفال يصبحون عدوانيين من خلال ملاحظتهم وتقليدهم لعنف آبائهم.

الحتمية الداخلية

الفريق الرئيسي الآخر المناصر للحتمية يشمل اولئك الذين يتبنّون منظورا بايولوجيا. هم يرون ان العوامل المقررة للسلوك هي داخلية وليست خارجية. طبقا لعلم اجتماع البايولوجي، ان التطور يحكم سلوك الأنواع الحية والجينات الوراثية لكل فرد. فمثلا الطبيب، باولبي Bowlby(1969) يؤكد ان الطفل لديه حاجة فطرية للارتباط بشخص هام. سمات الشخصية مثل الانفتاح او العصابية والسلوك المرتبط بهما يتأثر بقوى عصبية وهرمونية داخل الجسد. لا حاجة لمفهوم الكائن البشري المستقل. بالنهاية، هذه الرؤية تنظر لنا باعتبارنا ليس اكثر من مكائن بايولوجية، وحتى الوعي ذاته يُفسر كمستوى من الإثارة في النظام العصبي. فرويد ايضا نظر الى السلوك باعتباره موجّه من داخل الفرد على شكل حوافز غير واعية او أحداث طفولة، تُعرف بالحتمية النفسية.

المستويات المختلفة للحتمية:

الحتمية الصلبة:

الحتمية الصلبة ترى ان الرغبة الحرة ليست الاّ وهماً وتعتقد ان كل حدث وكل فعل له سبب معين. السلوكيون يعتقدون بقوة بالحتمية الصلبة. أبرز ممثل صريح وواضح لهم هو B.F. Skinner . مفاهيم مثل "الرغبة الحرة" و "التحفيز" جرى نبذها كأوهام تنكر الأسباب الحقيقية للسلوك الانساني. طبقا لسكنر، الفرد الذي يرتكب جريمة ليس لديه خيار حقيقي. هو مدفوع في اتجاه بفعل ظروف بيئية وتاريخ شخصي يجعل خرق القانون أمر طبيعي وحتمي.

بالنسبة للملتزم بالقانون، يصبح تراكم المكافآت له تأثير مضاد. كون الفرد كوفئ لإتباعه القاعدة في الماضي، فهو سيقوم بهذا في المستقبل. لا تنطوي العملية على أي تقييم أخلاقي او حتى حساب ذهني . كل السلوك يخضع لسيطرة التحفيز.

الحتمية الناعمة Soft determinism

وهي تمثل منطقة وسطى، حيث ان الناس يختارون حقا، لكن ذلك الاختيار مقيّد بعوامل داخلية وخارجية. فمثلا، كونك فقير لايجعلك تسرق، ولكن ربما من المحتمل جدا ان تلجأ الى السرقة من خلال اليأس. الحتمية الناعمة تقترح ان بعض السلوكيات مقيّدة أكثر من غيرها وهناك عنصر الرغبة الحرة في جميع السلوكيات. غير ان المشكلة في الحتمية هي انها غير منسجمة مع افكار المجتمع حول المسؤولية والسيطرة على الذات التي تشكل الأساس لإلتزاماتنا الأخلاقية والقانونية. قيد اضافي آخر يتعلق بحقيقة ان علماء النفس لايستطيعون التنبؤ بسلوك الشخص بشكل دقيق بنسبة 100% بسبب التفاعل المعقد للعوامل التي تؤثر على السلوك.

الرغبة الحرة

وهي الفكرة باننا قادرون على امتلاك الخيار في كيفية التصرف و اننا احرار في اختيار سلوكنا. بكلمة اخرى، نحن احرار في الاختيار. فمثلا، الناس يمكنهم عمل خيار حر في ما اذا هم سوف يرتكبون جريمة ام لا(مالم يكونوا اطفالا او مختلين عقليا). هذا لا يعني ان السلوك عشوائي، وانما يعني اننا متحررون من التأثيرات السببية لأحداث الماضي. طبقا للرغبة الحرة، الفرد يكون مسؤولا عن أفعاله. احدى أهم الافتراضات الرئيسية للاتجاه الانساني هي ان الناس لديهم رغبة حرة، وان السلوك ليس كله مقرر سلفا. الاستقلالية الشخصية personal agency هي المصطلح الانساني لممارسة الرغبة الحرة. الاستقلالية الشخصية تشير للخيارات التي نتخذها في الحياة، والمسارات التي نسلكها وما يترتب عليها من نتائج.

بالنسبة لعلماء النفس الانسانيين مثل ماسلو (1943) و روجرز (1951)، يرون ان الحرية ليست فقط ممكنة وانما ايضا ضرورية اذا اردنا ان نصبح كائنات بشرية تعمل بكامل طاقتها. كلاهما يرى ان تحقيق الذات كحاجة انسانية متفردة وشكل من التحفيز يجعلنا متميزين عن كل المخلوقات الاخرى. هناك خط يجب ان يُرسم بين العلوم الطبيعية والاجتماعية.

لنأخذ مثالا بسيطا، عندما يحصل رد فعل لعنصرين من المواد الكيميائية، لا معنى هناك لتصور انهما يستطيعان التصرف بأي طريقة اخرى غير الطريقة التي يقومان بها. غير انه، عندما يجتمع شخصان ، هما ربما يتفقان، او يختلفان، او يصلان الى تسوية او يدخلان في نزاع وهكذا. لكي نفهم سلوكهما نحن نحتاج لفهم كيف يختار كل طرف العمل اثناء العلاقة.

بالضد من علماء النفس الحتميين الذين يعتقدون ان ما "هو حاصل" هو حتمي، هناك الذين يعتقدون ان الانسان لديه القدرة للسيطرة على مصيره. هناك ايضا موقف وسطي يعود الى علم النفس التحليلي لفرويد. فرويد يبدو مناصرا للحتمية في كونه يجادل ان افعالنا وافكارنا مقررة باللاوعي. غير ان هدف العلاج هو مساعدة المريض للتغلب على تلك القوى. في الحقيقة، بدون الايمان ان الناس يمكنهم التغيير فان العلاج ذاته لا معنى له.

تلك الرؤية اتخذها العديد من الفرويديين الجدد. احد أبرز المؤثرين كان ايريك فروم (1941). في (الخوف من الحرية) هو جادل ان جميعنا يمتلك امكانية السيطرة على حياته لكن العديد منا يخشون القيام بهذا، وبالنتيجة، نحن نتخلى عن حريتنا ونسمح لحياتنا لتُحكم بالظروف وبالناس الآخرين والايديولوجيات السياسية او المشاعر اللاعقلانية. ان القدرية ليست حتمية، والاختيار الذي من خلاله نعمل الخير ام الشر، يراه فروم هو جوهر الحرية الانسانية.

تقييم نقدي

يرى علماء النفس المناصرون لرؤية الرغبة الحرة ان الحتمية تمحو الحرية والكرامة وتحط من قيمة السلوك الانساني. عبر خلقه قوانين عامة للسلوك، يتجاهل علم النفس الحتمي فرادة الكائن البشري وحريته في اختيار مصيره. هناك انعكاسات هامة للأخذ بأي جانب من النقاش. التوضيحات الحتمية للسلوك تقلل من المسؤولية الفردية.

الشخص الذي يُعتقل لإرتكابه هجوم عنيف ربما يبرر ذلك في انه لم يكن مسؤولا عن سلوكه – ذلك ناتج عن تربيته ، او نتيجة ضربة في الرأس اثناء الطفولة المبكرة، او بسبب التوتر الأخير في العلاقات، او مشاكل نفسية. بكلمة اخرى، سلوكه كان مقررا.

الاتجاه الحتمي ايضا له تأثيرات هامة على علم النفس كعلم. العلماء مهتمون باكتشاف قوانين يمكن استعمالها للتنبؤ بالأحداث. هذا يمكن رؤيته بسهولة في الفيزياء والكيمياء والبايولوجي. علم النفس، كعلم يحاول نفس الشيء – تطوير قوانين، لكن هذه المرة للتنبؤ بالسلوك. لو نحن نجادل ضد الحتمية، نحن بالنتيجة، نرفض الاتجاه العلمي لتوضيح السلوك.

الأمراض العقلية يبدو تتجاهل مفهوم الرغبة الحرة. فمثلا، الافراد الذين يعانون من الامراض النفسية يفقدون السيطرة على افكارهم وافعالهم ، والناس ذوي الكآبة يفقدون السيطرة على مشاعرهم. من الواضح، ان اتجاها حتميا خالصا او رغبة حرة خالصة لا يبدو ملائما عند دراسة السلوك الانساني. معظم علماء النفس يستعملون مفهوم الرغبة الحرة للتعبير عن الفكرة بان السلوك ليس رد فعل سلبي لقوى وانما ان الافراد يستجيبون بقوة للقوى الداخلية والخارجية.

عبارة الحتمية الناعمة عادة تُستعمل لوصف هذا الموقف، حيث ان الناس حقا لديهم الاختيار لكن سلوكهم هو دائما ما يكون بسبب شكل من اشكال الضغوط البيئية او البايولوجية.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم