أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: نقاش حول مصدر السلطة الأخلاقية؟

كان سقراط أوقع نفسه في ورطة بتحقيقاته وأسئلته المتواصلة عن السلطة. هو أزعج  زملائه المواطنين كثيرا حتى انتهى به الأمر الى المحاكمة. وبالنهاية هو قبل بعقوبة السم بدلا من التهرب من القانون والذهاب الى المنفى.

وبينما هناك القليل من الفلاسفة تحلّوا بنفس شجاعة سقراط، لكننا عموما نبقى في شك حول مسألة اللجوء الى السلطة. نخشى ان هناك الكثير من مدّعي السلطات هم من المخادعين الذين أوكلوا لأنفسهم هذه المهمة دون معنى. لابد من تسليط الضوء والبحث الدقيق والتحقيق في الحكمة المعطاة. لابد ان نسأل عن أسباب، عن دليل، عن حجة. الحجج يجب موازنتها مع مزاياها وليس مع اصولها. الناس السيئون يمكن ان تكون لديهم آراء جيدة، والناس الجيدون يمكن ان تكون آرائهم سيئة. السؤال المشكك بالسلطة "منْ له سلطة القول" هو شائع جدا بين النسبيين الأخلاقيين.

في بعض السياقات، يبدو من المنطقي الإجابة بنعم  وافتراض ان هناك شخص ما لديه سلطة "القول"، او إملاء الحقيقة. فمثلا، المحكمة العليا قد تكون لديها سلطة القول فيما اذا كانت بعض القوانين دستورية. وببساطة اكثر، الوالدان لهما القول في تقرير وقت النوم عند الساعة الثامنة مساءً. في هذه الحالات، يتم القرار من جانب سلطة ملائمة. لكن الأسئلة الفلسفية تختلف عن هذا. نحن غير قادرين ان نقرر،مثلا، ما اذا كانت لدينا رغبة حرة او البت في مسألة وجود الله. ومهما كانت الحالة، لا توجد هناك سلطات ملائمة نفوض لها اتخاذ هذه القرارات. اذا كان لدينا زملاء فلسفيين رائعين، اكثر اطلاعا واكثر أناقة وفضيلة. لكن من المؤسف ليس لدينا زملاء لديهم السلطة في تقرير ما اذا كان الذهن هو الدماغ ذاته.

ربما لدينا سبب كاف للتشكيك في مصدر السلطة الاخلاقية. القلق الواضح هنا هو ان هناك اسبابا ذاتية هائلة تجعل من ادّعاء أخلاقي لشخص ما مرشدا لسلوك الآخرين. لنسمي هؤلاء اصحاب السلطة الاخلاقية  بـ معلمي الاخلاق. ليس من الصعب الاعتقاد بان هؤلاء معلمي الاخلاق الذين يتحدثون عن أهميتهم الاخلاقية هم يهتمون كثيرا بزيادة سلطتهم وثروتهم ومكانتهم. هم ربما ميكافيليين مستغلين. هؤلاء اساسا، يفتقرون لمعرفة كافية بالذات. ربما من المغري تجسيد الأحكام المسبقة للمرء عبر تفسير حياته وقيمه الخاصة كانعكاس لحقيقة أخلاقية عميقة.

نظرا لهذه المخاوف، نحن يجب ان لا نقبل دون نقد تصريحات معلمي الاخلاق. الأفضل ان نتبع مسار سقراط في التساؤل المستمر: لماذا يجب عمل هذا الشيء؟ ما الاسباب التي لديك لهذه السياسة؟ ما الحجة، ما الدليل؟ انا لا أقبل مجرد القول لي. العديد من الاخلاقيين النسبيين يشتركون بهذه الشكوك. ما الذي اذاً يقودهم للسؤال عن "صاحب سلطة القول" كطريقة لرفض حقيقة أخلاقية موضوعية؟ الاخلاقيون النسبيون عادة يبدأون من ملاحظات واقعية بان مختلف الثقافات تجيز مختلف العادات والقوانين والقواعد الاخلاقية. هناك اختلافات ثقافية واضحة بشأن قضايا مثل العبودية، عقوبة الإعدام، علاقات المثلية الجنسية واستعمال الكحول. الشخص المطّلع على هذه الاختلافات بالطبع يبدأ بالتساؤل منْ هو على صواب، ومنْ هو صاحب سلطة القول؟ سيكون من غير الحكمة الإفتراض سلفا اننا على صواب. ربما، لا أحد على صواب، واننا يجب ان نشكك بفكرة الحقيقة الاخلاقية. ربما لا وجود لحديث معقول عن الخطأ والصواب في مسائل الأخلاق. البعض يفضل آيس كريم عادي بينما الآخر يفضله بالفواكه. الاسبارطيون احيانا فضلوا وأد الاطفال، بينما نحن لسنا كذلك.

الحديث النسبي

من المثير للاهتمام حاليا ان معظم النسبيين الاخلاقيين لايسلكون هذا المسار المشكك. لنبدأ بحالة من الاختلاف لكي نرى منطق افتراضاتهم. ربما انت تعتقد ان الارض كروية. وانا ارى ان الارض مستوية. من حيث المنطق البسيط يبدو ان هناك ثلاثة احتمالات : اما انت لديك عقيدة زائفة، او انا عقيدتي زائفة، ام كلانا عقيدتنا زائفة. نفس الشيء، في حالة عدم الاتفاق الأخلاقي، يبدو انه اما انا على صواب، او انت على صواب، او لا احد منا صائبا. النسبيون، يلجأون لحالات لا تتبع هذا النمط. دعنا نقول انك تعتقد ان هناك وحش على جهة اليمين، بينما انا ارى ان نفس الوحش هو على اليسار. في هذه الحالة،من الممكن اننا كلانا لدينا عقيدة صادقة. ربما نحن نواجه بعضنا، نحدق بعيون بعضنا،نبحث عن شجاعة واطمئنان. او ربما ان الوحش انتقل اثناء حديثنا. في حالات اخرى يبدو ان الجملة "الوحش على اليسار"هي لا صحيحة ولا كاذبة: انها غير كاملة الى ان يتم تحديد اطار مرجعي – مثل "الوحش هو على اليسار لحد الان".

هنا ايضا نموذج يفترضه النسبيون للحقيقة الاخلاقية: هم يقولون ان القول "س هو صائب اخلاقيا" هو غير تام بنفس الطريقة في القول ان "س هو على اليسار". فمثلا،لو ان (ص) يؤمن ان العبودية مقبولة اما (د) يؤمن ان العبودية غير مقبولة اخلاقيا. يبدو كما لو ان جانبا واحدا يمكن ان يكون صحيحا. لكن الاقتراح النسبي هو ان كلا الطرفين هما صائبان قياسا لمنظورهم الثقافي: العبودية جائزة اخلاقيا لـ (ص) وغير جائزة اخلاقيا لـ (د).

من جهة، هذا النموذج للاخلاق يبدو اكثر تسامحا. ومن جهة اخرى، انه يعني ان المكانة الاخلاقية للعبيد لا تعتمد مباشرة على حقائق، مثل، رفاهية الانسان، المساواة، الكرامة، والاستقلالية. بل، ان أخلاق العبيد تعتمد على مواقف سلطة ملائمة، أي، المواقف الاخلاقية السائدة بين (ص) و (د).

الاستنتاج المدهش هنا، هو الخوف الواضح من ان المواقف الاخلاقية السائدة تفشل احيانا امام التمحيص الفكري الدقيق. ببساطة، يبدو كأن كل ثقافة وكل فرد يصل الى أشياء خاطئة أخلاقيا. هذا الفشل من السهل تحديده من بُعد، مثل عندما ننظر رجوعا في الاخطاء الاخلاقية لأسلافنا. هذا احد الاسباب يفسر لماذا من المفيد النظر في معتقدات اخلاقية بديلة والانتباه للنقد الخارجي. بالتأكيد، ثقافات اخرى تقوم باشياء افضل مما نعمل. عندما نخبر اجدادنا حول حياتنا الان، أي شيء يجعلنا خجلين؟، تعاملنا مع الحيوانات؟ موقفنا الرقيق تجاه تخصيب اليورانيوم؟ عدم احترامنا للبيئة؟ او شيء اصعب مما نتصور، هذه لا تبدو مجرد تقلبات للموضة مثل شكل البدلة او القبعة. انها تبدو مسائل يجب ان نفكر بها.

في الحقيقة، النسبيون عادة يبسّطون او يتجاهلون التفكير الاخلاقي من خلال عدم النظر في الاسباب الاخلاقية كلها، ويركزون على المعتقدات الثقافية. هناك مقارنة مفيدة مع فكرة المؤمن بان القانون الاخلاقي يتطلب واهبا للقوانين. طبقا "لنظرية الأوامر الالهية"، الفعل يكون صائب اخلاقيا اذا كان مطابقا لاوامر الله.  سقراط  يسأل ما هي الاسباب التي تجعل الله يأمر بافعال معينة. هذا يقود الى ما يسمى "مأزق ايوثيفرو"،في حوار افلاطون(1): اذا كانت هناك اسباب مستقلة تفضل الفعل كخيّر، عندئذ نحن يمكننا اللجوء مباشرة لتلك الاسباب، وعليه لماذا نجلب الله؟ وبالعكس، بدون اسباب مستقلة تجعل الشيء خيّرا، ستبدو اوامر الله اعتباطية. بالطبع قديس مثل اوغستين يلجأ الى شخصية الله الجيدة وانها ذاتها المعيار النهائي للخير، ويقول انه بهذه الطريقة تكمن الخيرية في الله او تأتي منه. لذا في هذه الطريقة فان المعيار الاخلاقي يقف مع خالقنا، وهذا يكون مفيدا ضمن الاطار الديني. اللجوء الى السلطة الثقافية بين النسبيين الاخلاقيين العلمانيين هو اكثر ارباكا. لماذا نعتقد ان عبء التبرير الاخلاقي يتوقف على المعتقدات الثقافية السائدة؟ ما الذي يعطي الثقافة سلطة شبيهة بالله لتقرير الحقيقة الاخلاقية؟

السؤال النسبي "منْ صاحب القول؟" يفترض سلفا سلطة اخلاقية شبيهة بنظرية الاوامر الالهية. كذلك، منطق حجتهم يتضمن جوابا واضحا لسؤالنا – أعني، المواقف الاخلاقية السائدة. رغم هذا، العديد من النسبيين هم مشككون بقوة بفكرة ان هناك موقف مفضل لسلطة تحترم الحقيقة الاخلاقية. فمثلا، هم عادة صدى للمابعد حداثي مايكل فوكو ورؤيته بان الادّعاءات بالمعرفة الاخلاقية يمكن استخدامها كوسائل للسيطرة والاحتفاظ بالسلطة. وهم بوضوح صائبين حول ذلك. في الحقيقة، هناك تاريخ كبير ومروع للأقوياء يفرضون طريقتهم بالحياة على الضعفاء والأقل قدرة باسم الحقيقة الاخلاقية. الفاتحون عادة لديهم معلمين اخلاقيين يقفون بجانبهم، يعملون على خنق المعارضة. هم يمكن ان يكونوا مخلصين دائما ومليئين بالحماس.

الرؤى الاخلاقية

يبدو ان استراتيجية النسبيين في ربط الحقيقة الاخلاقية بالمعتقدات الاخلاقية يخلق لهم مشكلة في الوقوف مع اخلاق السلطة دون ان تكون لهم رغبة بذلك. فهل يمكن العمل بطريقة افضل؟

هناك ثلاثة تصورات تأتي الى الذهن عندما نحاول التفكير بالسلطة الاخلاقية. الاول يتعلق بالمعلم الاخلاقي الذي ينقل ما يعتبره حقيقة اخلاقية مطلقة من موقع السلطة. هو ربما ينظر نزولا من منصة بالكنيسة لأغراض العبادة او من منبر استاذ جامعة او من حملات انتخابية للسياسيين. هو ربما يعتبر نفسه في مهمة تثقيف المواطنين. هذا التصور هو نوعا ما مخيف. في صيغته المتطرفة هو يستلزم مركب سام من السلطة واليقين الاخلاقي الذي هو مقدمة للسلطوية والتوتاليتارية والاضطهاد وحتى التطهير العرقي. اذا كان المعلم الاخلاقي لديه ما يقوله، عندئذ دعه يقف الى جانبنا بدلا من تسليم حقيقته من الأعلى. دعنا نناقش اسبابه لكي نستطيع النظر بها مجتمعين بروح من عدم التأكد.

البديل النسبي يبدو على الأقل خطوة نحو الأفضل. هنا يمكن ان نتصور أعضاء ثقافة مشتركة يتجمعون حول حقائقهم الاخلاقية مثلما يتجمعون في مخيم حول النار. هناك قياس للانسجام، و قبول بان مخيمات اخرى التي لديها نار اخرى يبدو تجعلهم متساويين في الدفء. هناك الاف المخيمات تشعل النار وهناك ايضا رؤى محافظة معقولة نتعلمها نزولا من الأسلاف – افكار عملت لهم بنجاح او على الأقل للغالبية منهم في وقت ما.

الخوف هنا هو حول أصوات معارضة عند حافات الجماعة، يحتشدون ضد البرد، و يشكّون بان ثقافتهم ضلّت الطريق. دعنا نأمل انهم ينتمون لثقافة تجيز هكذا معارضة لو تجرأوا للتعبير عنها. في الحقيقة، دعنا نأمل ان ثقافتهم مستجيبة للجدال العقلاني. ايضا، وان لا نفكر كثيرا حول الجماعات الاخرى من المخيمات الذين ينوون نشر نيرانهم بالقوة عند الضرورة. بالنهاية،التسامح ليس عقيدة أخلاقية عالمية.

التفكير الاخلاقي المفضل هنا لا يستلزم معلمين اخلاقيين يسلّمون الحقيقة نزولا. ولا يستلزم قبول المعتقدات التي صادف ان تكون سائدة لدى جماعة معينة. بل انها تستلزم تشجيع اعضاء جماعات اخرى مع افتراض مسبق بالمساواة والاحترام والجهل المشترك. لذا دعونا نتجول بعيدا عن مخيمنا الاخلاقي ونحاول النظر بافضل ما نستطيع في الكيفية التي يعيش بها الآخرون حياتهم، فرديا وجماعيا. لنقوم بهذا بدون اعتبار لأي سلطة اخلاقية مفترضة، وبدون افتراض ان أي شخص يعرف سلفا بالضبط ما يقوم به. في الحقيقة، الافتراض بان أي ثقافة تمتلك احتكارا للحقيقة الاخلاقية او للتفكير الاخلاقي الواضح يبدو كأنه شيء ما بين الساذج والمضحك. يبدو من المحتمل جدا اننا جميعا مخطئون بشكل ما، وصائبون بأشكال اخرى. دعونا نحاول اكتشاف أي العقائد هي تلك. نسأل لماذا الآخرون يعيشون كما يريدون ودعونا نفهم لماذا نحن نعيش كما نعمل. نحن ربما نتعلم شيئا ما جيدا وقد نتغير نحو الافضل.

اذاً، منْ هو صاحب القول؟ الجواب هو "لا أحد". لا مصدر متعالي ولا ثقافة س او ثقافة ص. ليس معلمو الاخلاق. نحن يجب ان نقاوم الافتراض بان أي شخص لديه سلطة خاصة فوق الشك تحترم المسائل الاخلاقية. الأسئلة الاخلاقية لم تتقرر بسلطات او بأوامر عشوائية. بل، في الحقيقة، نحن جميعنا نجلس حول ضباب اخلاقي، محاولين شق طريقنا بأفضل ما يمكن. هناك ضوء من مخيمات اخرى حولنا، لكنه عادة ضعيف. احيانا نحن علينا ان نغلق عيوننا مؤقتا وننتبه للمنطق والدليل بصرف النظر عن اصوله. نفس الشيء، دعنا نرفض الافكار التي لا تصمد للتمحيص النقدي بصرف النظر عمن يفترضها.

ربما احد يعرف أين تكمن الحقيقة الأخلاقية. بينما الآخر ليس كذلك. ان رهاننا الأفضل هو ان نفكر بهذه الاشياء مجتمعين بدون اللجوء للسلطة. لا أحد يستطيع القول لكننا جميعا نستطيع التشاور على قدم المساواة.

***

حاتم حميد محسن

............................

Who’s To Say? Philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) في مأزق ايوثيفرو يسأل سقراط هل اننا نقوم بالافعال الخيّرة لأن الله اراد ذلك ام اننا نقوم بها لأنها بطبيعتها خيّرة؟ اذا كنا نقوم بعمل الخير امتثالا لأوامر الله، معنى هذا لا توجد هنا اسباب منطقية للقيام بالعمل، فيكون العمل اعتباطيا، ليس له اسباب، فقط لأن الله اراد ذلك. اما اذا كان قيامنا بالفعل الخيّر لأن الفعل هو ذاته خيّرا، فستكون خيريّة الفعل هي المصدر الاخلاقي ولا حاجة لوسيط آخر.

في المثقف اليوم