أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ماذا يعني آلان باديو بمعارضة الفلسفة؟

يحدد آلان باديو Alain Badiou (1) خيارا بديلا مستلهما من تاريخ الفلسفة. في هذا الخيار هاجم المفكرون نشاط الفلسفة واقترحوا شيئا آخرا بدلا عنها. مناهضة الفلسفة Antiphilosophy مصطلح استعارهُ آلن باديو من لاكان، يصف فيه أفكار عدد مبعثر (وموحّد) من الكتّاب في تاريخ الفلسفة . المصطلح يشير لكراهية هؤلاء الكتاب لفعالية الفلسفة، بالقدر الذي عُرّفت فيه الفلسفة كـ "بحث ميتافيزيقي عن الحقيقة" (بوستيل، مدخل لمناهضة فيتجنشتاين للفلسفة، 2019).

بالإضافة لهذه الكراهية، يقترح باديو ان مناهضة الفلسفة عُرّفت بافتراضها بديلا ونشاطا أسمى من الفلسفة، شيء يمكن ان ننفق به وقتنا بشكل أفضل من مطاردة تلك الأنواع من الحقائق التي انشغلت بها الفلسفة تقليديا، حقائق متعلقة بالوجود، الهوية، التجربة وغيرها. هذا المزيج من النقد وإعادة التوجيه يختار سلسلة من المفكرين كل واحد منهم تولّى منفردا مهاجمة اسس التفكير الفلسفي مستنتجا - بنقد لاذع وغير منافق – ان الفلاسفة على اختلاف انواعهم مقموعين، سخفاء، حمقى، وأشرار.

آلان باديو حول مناهضة الفلسفة والواجب الجديد للفلسفة

في تقييم باديو لهذه الظاهرة، يجب ملاحظة، انه يأتي من فيلسوف صريح – شخص مهتم بالنشاط الذي كان محل سخرية من قبل مناهضي الفلسفة. هذا لا يعني ان موقفه يعكس السخرية والرفض. بدلا من ذلك، يجد باديو في الخط المضاد للفلسفة سلسلة من الاختبارات الهامة والصعبة للفلاسفة يجب اجتيازها. العلاقة توصف كديالكتيك سقراطي مقصود. مناهضة الفلسفة تثير الإهانات وأسئلة تتطلب من الفيلسوف ليس فقط الدفاع عن موقفه وانما تمديده ليأخذ بالاعتبار المعارضات والمقترحات المضادة لمناهضة الفلسفة.

المقترحات المضادة هي ضرورية لمناهضة الفلسفة كما يصفها باديو. وبينما يخلق باديو تشبيها واضحا بين معارضة افلاطون والسوفسطائئن، ومجموعة فلاسفة ومعاصرين لهم من المضادين للفلسفة، هو صريح حول الفرق بين السفسطة والمضاد للفلسفة. الفرق يكمن في سخرية الاولى والكراهية العلنية للاخيرة، ولكن الاكثر أهمية هو مقترح المضاد للفلسفة بنشاط بديل: شيء اكثر قيمة من الفلسفة. هذا النشاط البديل والذي يدّعي انه مفيد وجميل وقوي وصادق بينما الفلسفة عاجزة وقبيحة ومعبّرة عن خداع ذاتي هو السبب المحفز لكتابة المضاد للفلسفة، الاقتراح الذي يستدعي هجوما واسع النطاق يجده باديو في كلمات نيتشة ولاكان وفيتجنشتاين.

بالنسبة لباديو، النشاط البديل المقترح من جانب مناهضي الفلسفة هو عادة خلاق وتقدمي جدا. المضاد للفيلسوف يقدم خياره ليس فقط كشيء يمكّننا من استخدام وقتنا بشكل أفضل، وانما ايضا كنقد للفلسفة: وسيلة لتسليط الضوء على ما لا تستطيع الفلسفة تفسيره او تتعامل معه. وسواء كانت في مجال الفن، العلوم السياسية، او العلوم، يقترح باديو، ان الخيار المقترح للمضاد للفيلسوف هو دائما معاصر – بديل جديد يتّهم الفلسفة بالفشل في معالجة العالم من حولنا. لذلك يرحّب باديو بالمضاد للفلسفة لتحدّيها الفلسفة في تبرير ذاتها ولإجبار الفلسفة على مواكبة عالمها، ولتجعل ذاتها منسجمة بالضبط مع تلك الفعاليات المُبجّلة من قبل الفلسفة، دون التخلّي عن كفاحها نحو الحقيقة. بهذا المعنى، يكتب باديو، ان المضاد للفلسفة "يحدد الواجب الجديد للفلسفة" – الأشياء التي يجب ان تجعل نفسها على وعي بها وتفكر بها والاّ فانها ستسقط في اللاّصلة والعجز التي هي موضع اتّهامات المضادون للفلسفة. من هذا التحدّي والرد الذي يتطلبه من الفلسفة، يراقب باديو بدقة ظهور فلسفة جديدة أكثر كفاءة، تأخذ على محمل الجد اتّهامات المضاد للفلسفة مهما كانت لاذعة. "الفلسفة" حسب قوله، "هي دائما الوريث للمضاد للفلسفة". (مناهضة فتجنشتاين للفلسفة، 2008).

منْ هم المضادون للفلسفة؟

فيتجنشتاين ليس وحده في قائمة باديو للمضادين للفلسفة. في الحقيقة، التفاعل بين المضاد للفيلسوف والفيلسوف هو – حسب تقييم باديو – ربما قديم قدم الفلسفة ذاتها، يعود الى بروتوغوراس وجورجياس، في موقفهما السوفسطائي المعارض لسقراط.

القديس بول Saint paul، شخصية دائمة الإعجاب لباديو، يظهر في سلسلة من الندوات يديرها باديو في باريس، كل واحدة تعالج احد مناهضي الفلسفة البارزين. وكما يفصل باديو في كتابه حول موضوع (القديس بول: اسس العالمية، 1997)، يرفض بول كل من النبوءة اليهودية "خطاب الاشارة"، والخطاب اليوناني في الفلسفة والحكمة، مفضلا الايمان الخالص. اشارة بول المضادة للفلسفة تتجسد في تأسيس مسافة مطلقة لا يمكن اختزالها بين حكمة الانسان والله، رافضا ادّعاءات الاولى في التحقق من الحقائق المطلقة. يصرح بول:

"ألم يجعل الله الحكمة في العالم شيء من الغباء؟ لأن غباء الله اكثر حكمة من الناس، وضعف الله اكثر قوة من الناس"

(1 cor.1:20-25) (2).

فلسفة فتجنشتاين المضادة للفلسفة، تهتم بشكل رئيسي بالخط الحديث المضاد للفلسفة، الذي جسّده مفكرون رئيسيون مثل نيتشة وفتجنشتاين ولاكان. ومع ان هذه القائمة تشير للمضادين للفلسفة الذين جرى التعامل معهم مطولا في ندوات باديو، لكن هناك ايضا يوجد في كتابات باديو ما يتضمن آخرين (بمن فيهم السوفسطائيين بالاضافة للمضادين الملائمين للفلسفة) مثل دريدا ويوتارد ورورتي وأي عدد من فلاسفة اللغة الذين يتخذون من التحقيقات الفلسفية لفتجنشتاين نقطة انطلاق لهم.

وبينما يصر باديو على ان المضادين للفلسفة يشتركون بهيكل هام، فان الاختلافات والارتباطات الداخلية بينهم احيانا تجعل ادّعاء باديو يبدو أكثر غموضا.

في الكتابة ضد "الانعطاف اللغوي" في الفلسفة، وايضا حتى بالنقد اللاذع حول "فلسفة اللغة العادية"، باديو ينزلق احيانا الى استياء غير واضح حول النسبية وحول فكرة ايلاء اهتمام للّغة بما يحقق تقدما (او اختفاء) للفلسفة، كأنه منزعج من الحاجة للتعامل مع اللغة تحت أي ظرف كان .

مع ذلك، في نيتشة، فيتجنشتاين، لاكان، يحدد باديوهيكلا اكثر شيوعا يربط كل واحد منهم بنوع رئيسي من المقترحات المضادة لمناهضة الفلسفة. باديو يلاحظ ان الفعالية المقترحة من جانب المضادين للفلسفة كاستبدال للفلسفة هي دائما تُطرح كشيء اما يعطي الكثير من الفائدة (نيتشة)، او الكثير من الروحانية divinty (القديس بول وربما فيتجنشتاين) او الكثير من الحقيقة (لاكان) قياسا بما أنجزته الفلسفة في أي وقت مضى. مع ذلك، الفعالية، لا تحتاج امتلاك أي علاقة صريحة مع مجال الفلسفة العرضة للنقد.

وهكذا، يقول باديو، ان بديل نيتشة المقترح هو سياسي، وبالنسبة لفيتجنشتاين هو جمالي، وبالنسبة للاكان هو علمي. كذلك، يدّعي باديو ان الفيلسوف المناهض يتقدم دائما بصيغة من الفعالية مفرطة في التشبّع، فيها تجريد يتجاوز أي ممارسة قائمة. وهكذا، هو يقول، فيتجنشتاين يقترح اننا ننخرط في فعالية جمالية أكثر جمالا وأدبية من أي فن حقيقي: فعل يسميه باديو الأعلى جمالا archiaesthetic، ولدى نيتشة الأعلى سياسيا archipolitical ولدى لاكان الأعلى علميا archiscientific.

فيتجنشتاين ومناهضة الفلسفة

يركز باديو أغلب نقاشه عن فيتجنشتاين فقط حول الرسالة المنطقية Tractatus ليجد فيها (بدلا من التحقيقات الفلسفية، او الكتابات اللاحقة الاخرى) التعبير الأكثر قوة عن تحدّي فيتجنشتاين للفلسفة. هنا نحن مرة اخرى نرى باديو يتعامل مع المضاد للفلسفة بقدر ما هي اداة او اختبار للفلسفة الصحيحة: الرسالة المنطقية تعرض اتهام فيتجنشتاين القوي للفلسفة التقليدية التي تتاجر دائما في الهراء – وهي لذلك تُعتبر الاهتمام الأكثر إلحاحا للفيلسوف.

لكن باديو هو ايضا مفتون بالحافز الفلسفي المستمر في الرسالة المنطقية، وفي مراوغة النصوص حول امكانية بيان الحقائق. من بين ما نبذه فيتجنشتاين من اسئلة فلسفية وأجوبة ( لميلها لحشر حقائق مزعومة في افتراضات ليس لها معنى)، هناك بديل صوفي يتهرب من اللغة لكنه يبدو يستمد الجاذبية والخلود الذي تبحث عنه الفلسفة بشأن الحقيقة.

هذا "العنصر الصوفي"، اذا اريد كشفه او التقرب منه، لايتم ذلك بواسطة الفلسفة حسب قول فيتجنشتاين. . باديو وضع موقف فيتجنشتاين المضاد للفلسفة كاستبدال لمفهوم الحقيقة بذلك الخاص بالمعنى. ما ينتج هو مجموعة كاملة من الفلسفة تتعامل بافتراضات لا معنى لها، اشكال من فكر مزعوم ثبت انه مستحيل حتى في الميدان الواسع للواقعي (جميع تلك الحالات الراهنة التي يمكن ان تكون صحيحة)، وبعض الحشو الفارغ:

" 6.1: افتراضات المنطق هي حشو.

6.11: لذلك فان افتراضات المنطق لا تقول شيئا".

(الرسالة المنطقية، 1921)

عندما يحاول باديو تلخيص موقف فيتجنشتاينش المضاد للفلسفة في الصفحات الاخيرة من كتابه، هو يتعقبه رجوعا للعنصر الصوفي، والى أفكار فيتجنشتاين حول الطريقة الصحيحة لمحاولة بيان ذلك. الطريقة الخاطئة بالطبع، هي الفلسفة.

مقتبسا من رسالة من فيتشجنتاين الى فون فليكر Von flicker، يسلط باديو الضوء على وجود نوعين من المعنى في الرسالة المنطقية. فمن جهة هناك معنى ضمن العالم: معنى الافتراضات. هذا المعنى بُني من الذرات والقواعد المنطقية والصارمة المقيّدة بالإمكانية. ومن جهة اخرى، هناك معنى العالم، معناه، الذي يكمن خارج اللغة. عندما تنتهك الافتراضات في اللغة قواعد الاول في محاولة تمديد نفسها باتجاه الأخير، نحن امام ثرثرة او هذيان: "الهذيان هو فلسفة بمعناه الميتافيزيقي".

مشروع آلن باديو

فعالية الفلسفة بالنسبة لباديو هي شيء ضيق جدا. في الحقيقة، جزء من قيمة قراءة المضاد للفلسفة والاشتباك معه، حسب قوله، هو انه يذكّر الفيلسوف بالضبط بمدى خصوصية نشاطه . المضاد للفلسفة، يذكّر الفيلسوف عبر التجسيد اللغوي للسياسة، الفن، العلوم، انها بالضبط ليست هذه الاشياء، وانه لا يجب ان يسعى لإنتاج "الحقائق" بالطريقة التي يقوم بها. على طول عمل فتجنشتاين المضاد للفلسفة، يضع باديو المتشابهات بين المضادين للفلاسفة مع السوفسطائيين القدماء في جانب، ويضع نفسه مع افلاطون وسقراط في الجانب الآخر. بمقدار ما يضع نفسه في مصاف الفلسفة الافلاطونية، يصف باديو مشروعه كـ "شيء صعب":"ان اللاوجود يشكل القاعدة للوجود هو شيء يتباهى به السوفسطائيون. لكن الشيء الذي يصعب عمله هو ليس قول هذا والاستنتاج منه بمرح الشرعية "الديمقراطية" البليغة، انه ان تدير وجود بعض الحقائق". (مراجعة باديو لكتاب بربرا كاسين "الثيولوجي ضد الانطولوجي"، 2012).

الشيء الصعب هو ان الفلسفة والعمل الذي تقوم به، يُقارن مع الشيء السهل والذي هو السفسطة – والى مدى أقل – مع المضاد للفلسفة.

الاستنتاج السوفسطائي هو سهل لأنه لا يتطلب منا ان نؤدي العمل الرياضي والمنطقي للفلسفة لأنه يختزل عمق الفعالية الفلسفية الى تمرين لغوي خالص، متحرر من أي علاقة خاصة مع العالم او ما يكمن خلفه. غير ان هذا لا يمتد الى المضاد للفلسفة، حين يتم رفضها بسهولة باعتبارها متناقضة، لا أخلاقية، او خاطئة. اذاً مرتكزات الفلسفة هي غريبة: هل نحن نتفلسف فقط لأنها صعبة؟

Thecollector.com, March 5, 2023

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) آلان باديو فيلسوف فرنسي، وسابقا كان رئيسا لقسم الفلسفة في المدرسة العليا للاساتذة ومؤسسا لكلية الفلسفة في جامعة باريس الثامنة مع جيل دولوز، وميشال فوكو وجان فرانسوا ليوتار. كتب باديو حول مفاهيم الكينونة والحقيقة والحدث والموضوع بطريقة كما يدّعي ليست ما بعد حداثوية ولا مجرد تكرار للحداثة. ولد باديو في المغرب عام 1937، اشترك في عدد من التنظيمات السياسية وجادل بعودة الشيوعية كقوة سياسية.

(2) عندما يتحدث القديس بول عن "حماقة الله" فهو لا يعني ان الله أحمق. بل، هو يقول انه طالما طريقة الله في التفكير هي في توافق مع أشياء الروح، هذا يربك التفكير بالعالم. انه اكثر حكمة من تفكير الانسان لأن الاشياء الروحية هي اكثر حكمة من الأشياء الغير روحية.

في المثقف اليوم