أقلام فكرية

الكسندر كوجيف ونهاية التاريخ (3-3)

موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار)

ترجمة: علي حمدان

***

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve)، (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

نهاية التاريخ والرجل الأخير

رؤية كوجيف لتحقيق الغاية في التاريخ، مارست تأثيرا متجددا، في السنوات الأخيرة، ولاسيما في ضوء انهيار الشيوعية السوفياتية ودولها الحليفة. اذا فحصنا الرؤية التي صاغها كوجيف، يمكننا ان نرى بالضبط لماذا يستلهم انصار (او المدافعون) للنظام الرأسمالي العالمي لما بعد الحرب الباردة الهاما من أطروحة كوجيف.

بالنسبة لكوجيف، ستكون المصالحة التاريخية هي في تحقيق اعتراف متساو بجميع الافراد. سيزيل هذه الاعتراف الأسباب الرئيسية للحروب والصراعات، وبالتالي سيدخل العالم في سرادق السلام. وبهذه الطريقة، يبلغ التاريخ، من الناحية السياسية، في ذروته في النظام العالمي الذي تختفي فيه الطبقات - بمعنى هيجيلي، لم يعد هناك "سادة" و"عبيد"، فقط انسان حر يعترف ويؤكد حريته وحرية الاخرين بشكل متبادل.  تتخذ هذه اللحظة السياسية شكل القانون، الذي يمنح الاعتراف العالمي لجميع الافراد، وبالتالي يرضي رغبة الفرد الخاص في ان يتم تأكيده كمتساو بين الاخرين.

في الوقت نفسه، ستؤدي تقدم قدرات الانسان الإنتاجية، وقدرته على  استغلال الطبيعة وتحويلها لتلبية احتياجاته ورغباته الشخصية، الى الازدهار والتحرر. بالنسبة لكوجيف يجد تكامل القدرات الإنتاجية للإنسان لا تتحقق في الشيوعية، ولكن في الرأسمالية.  مثل ماركس، كان يعتقد  كوجيف ان الرأسمالية قد اطلقت القوى الإنتاجية، وانتجت ثروة لم تتخيل من قبل. علاوة على ذلك، كما يعتقد ماركس،، يعتقد ان اتساع الرأسمالية  كقوة متجانسة، تنتج معيارا ثقافيا عالميا يدمر الارتباطات المحلية والتقاليد والحدود ويحل محلها قيما برجوازية.

كوجيف يتبع منهجا مختلفا عن الماركسية ( وتياراتها مثل اللينينية) عن طريق رفضه فكرة ان الرأسمالية تحتوي على تناقضات ذات طابع حتمي ستؤدي بالضرورة الى انهيارها ويتم تجاوزها بواسطة الشيوعية. كان ماركس يعتقد ان ظروف العمال في القرن التاسع ستزداد سواء، حيث قد يؤدي ضغط المنافسة السوقية الى استخلاص مزيدا من ُفائض القيمة من العمال بوحشية، في محاولة للتوازن مع تراجع معدل الربح، وهذا سيؤدي الى افقار البروليتاريا، وعجز الرأسمالية عن تجنب مثل هذه الازمة سيستدعي  اطاحة علاقاتها من قبل طبقة العمال التي حصلت على الوعي الطبقي في ظل ظروف بؤسها. ومن ناحية أخرى، يعتقد كوجيف ان الرأسمالية في القرن العشرين وجدت سبيلا للخروج من هذه التناقضات، واستطاعت بواسطة نظام السوق من القيام بنجاح  في توزيع الثروة التي تنتجها. بعيدا عن ان تفقر بشكل متزايد فئة  العمال  أصبحت الطبقة العاملة تتمتع برخاء غير مسبوق. هذا هو السبب في ان كوجيف ، بداية من عام 1948، كان يعلن ان الولايات المتحدة هي النموذج الاقتصادي للعالم" الما بعد التاريخ"، الأكثر كفاءة ونجاحا في السيطرة على الطبيعة من اجل تلبية احتياجات الانسان المادية، وبالتالي اكد، قبل انهيار الإمبراطورية السوفياتية النهائي، ان الحرب الباردة ستنتهي بانتصار الغرب الرأسمالي، وذلك سيتم تحقيقه من خلال وسائل اقتصادية وليس عسكرية.

سوف يجلب نهاية التاريخ ايضا اشكالا متميزة أخرى، فلسفيا، ستنتهي بالمعرفة المطلقة التي تحل محل الايدلوجيا. فنيا، سيعبر الوعي المتصالح عن نفسه من خلال الفن التجريدي-بينما يلتقط الفن التصويري والتمثيلي التفاصيل الثقافية، فان هذه التفاصيل قد تلاشت، مما ترك الاشكال الجمالية التجريدية كتجسيد للوعي الشامل والمتجانس.

ومع ذلك، فان موقف كوجيف من نهاية التاريخ العالمي متناقض تماما. من جهة، يتبع ماركس عندما يرى العالم ما بعد التاريخ بصورة مثالية، حيث تكون حرية شاملة، وتحرر من الحرب والحاجة، مما يترك المجال ل"الفن والحب واللعب وما الى ذلك؛ باختصار، كل ما يجعل الانسان سعيدا". ومع ذلك ينتاب  كوجيف تشاؤم في الوقت نفسه. في انثروبولوجيته الفلسفية، يتم تحديد الانسان بنشاطه النافي(Negating)، بكفاحه للتغلب على نفسه والطبيعة من خلال النضال والتحدي. هذا هو التعريف الوجودي للإنسان. ومع ذلك، فان نهاية التاريخ تشكل نهاية هذا النضال، مما يحيد الانسان من النشاط الذي صاغ جوهره. نهاية التاريخ تجلب "موت الانسان" ؛ بشكل متناقض، ينحرم الانسان من النواة التعريفية لوجوده في لحظة انتصاره. ان الانسان ما بعد التاريخ لن يكون "انسانا" كما نفهمه، ولكن سيتم "تحييده"، بحيث تعتبر نهاية التاريخ "الإبادة النهائية للإنسان كما هو بمفهومه الصحيح".

تأثير كوجيف

كان  لفكر كوجيف تأثير عميق على فرنسا وخارجها. يمكن تتبع لعديد من الروابط في الفلسفة الفرنسية التي تدين بدرجات متفاوتة لتأثير كوجيف، حيث ان إعادة تفسيره المميزة للفيلسوف هيجل كانت حاسمة في استقبال الفكر الهيجيلي في فرنسا. ومع ذلك، هناك أيضا عدد من الفلاسفة المهمين الذين استفادوا مباشرة من الهيجيلية الكوجيفية واستخدموها بدورهم لإنشاء مواقف فلسفية متميزة.

أولا: يجب ان نلاحظ أهمية هيجيلية كوجيف في تطور فلسفة سارتر. لايزال هناك جدل مستمر بشان ماذا كان سارتر حضر شخصيا ندوات هيجل في الثلاثينات. ومع ذلك، يمكن اعتبار بشكل معقول ان القراءة الوجودية والماركسية "لعلم الظواهر" كانت بنفس التأثير الذي سببه " الوجود والزمن " لهايدجر للموقف في "الوجود والعدم " الذي قدمه سارتر. من الأمور المركزية لسارتر، التي تجد جوهر الانسان في حريته كنشاط سلبي خالص، يفصل وجوديا الانسان عن العالم الطبيعي. يتضمن تفسير سارتر لكيفية العلاقة بين "السيد والعبد"  تفسير كوجيف في إعادة صياغتها وجوديا، على الرغم من عدم وجود التفاؤل الذي يعثر على إمكانية التوفيق في هذا الصراع بين الموضوع والذات( بالنسبة لسارتر، فإن الجدلية هي بتكرار الصراع من اجل الهيمنة الذي يحاول فيه كل طرف تحقيق حريته من خلال اذلال كيان الاخر). علاوة على ذلك ، فإن محاولات سارتر اللاحقة للتوفيق بين المادية التاريخية والوجودية تدين بفضل كبير الى صياغة كوجيف للتوفيق بين "الماركسية والوجودية".

كان جاك لاكان احد الفلاسفة البارزين التي تعتبر نظرية كوجيف حاسمة بالنسبة له. تم تطوير نظرية لاكان للتطور النفسي الاجتماعي من خلال توليفة من فرويد والبنيوية، تحليلها من خلال تفسير كوجيف" السيد والعبد" التي أعاد صياغتها بصورة دياليكتكية. بالنسبة للاكان، متبعا كوجيف، يتم تعريف الذات البشرية قبل كل شيء بواسطة الرغبة، ان تجربة النقص، توأم لتجربة الرغبة، توفر الشرط الوجودي لتشكيل الذات؛ انها فقط من خلال المزج بين التجربة التوأم للنقص والرغبة الذي يصل من خلالها الكائن الى وعي يفصله عن العالم الذي كان في السابق مندمجا فيه تماما. علاوة على ذلك، كان لاكان يسرد  تطور الوعي الذاتي في الطفولة، الذي يتجسد في تحليله لمرحلة المرآة، يكرر الوساطات الذاتية للوعي  التي عرضها كوجيف لطلابه الفرنسيين (بمن فيهم لاكان) في محاضرات هيجل.

اثر كوجيف بشكل عميق أيضا على جورج باتاي وريموند كوينو، على حد سواء من خلال المحاضرات التي حضروها ومن خلال الصداقات التي ابقاها معهما لسنوات عديدة بعد ذلك. غالبا ما يرتبط كوينو مع اندريه بريتون والسرياليين (الذين انفصل عنهم في عام 1929) لكن رواياته تقدم رؤية للعالم تعتمد بشكل عميق على كوجيف. تصور العديد من كتبه الأكثر شهرة، الحياة في نهاية التاريخ؛ حيث لا يوجد حركة تاريخية أخرى او تقدم او تحول قادم، وشخصياته تعيش في نوع من "الحاضر الابدي" يهتمون بأنشطة الاستمتاع اليومية، حيث يعود التاريخ كشيء يمكن الاستمتاع به كمعلم سياحي، او كحالة تأملية للماضي، ينظر اليها من وجهة نظر نهايتها. باتاي (عالم الانثروبولوجيا، والفيلسوف، والمصور الاباحي عميد جمالية ما بعد الحداثة الحديثة، ومعاداة العقلانية)، كان ربما اكثر من صاغ توقعات كوجيف التشاؤمية في مواجهة " موت الانسان". كان انتصار العقل بالنسبة لباتاي، لعنة، ان انتصاره الحتمي في مسيرة الحداثة التي لا يمكن وقفها جلب معه التجانس والنظام وخيبة الامل. كان انتصار العقل كتاريخ يعني نهاية الانسان وموته، حيث تم استبدال القوة المفرطة والمدمرة للسلبية بتوازن متناغم ومتبادل. استجابة باتاي، وهي نضال تحرري ضد هذه القوى من خلال استحضار الرغبات المنحرفة والجنون والمعاناة، تأخذ  تشخيص كوجيف حرفيا، وتنظم مقاومة بطولية ضد تيار القوى التاريخية.

ربما كان تأثير كوجيف خارج فرنسا اكثر وضوحا في الولايات المتحدة. حيث حققت أفكاره شهرة جديدة وكشفا مع نشر فرانسيس فوكاياما نهاية التاريخ والرجل الأخير(1992)، في اعقاب الحرب الباردة. كان فوكاياما طالبا لألان بلوم، الذي كان بدوره تلميذا للسياسي المهاجر " اليميني" الفيلسوف ليو شتراوس. كان شتراوس هو الذي قدم جيلا من طلابه الى فكر كوجيف، في حالة بلوم، رتب له للدراسة مع كوجيف في باريس في ستينات القرن العشرين. لا يقدم الكتاب الذي يعد من اكثر الكتب مبيعا على مستوى العالم، اقل من تبرئة مظفرة لأطروحة كوجيف التي يفترض انها متبصرة بان التاريخ وجد نهايته في الانتصار العالمي للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، مع الزوال النهائي للماركسية السوفياتية، والهيمنة العالمية للرأسمالية، وصلنا أخيرا الى نهاية التاريخ. لا يوجد المزيد من المعارك التي يجب خوضها، ولا مزيد من التجارب في الهندسة الاجتماعية التي يجب تجربتها، لقد وصل العالم الى حالة متجانسة يسود فيها الجمع بين الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية وجميع الأنظمة الثقافية والايدلوجية الأخرى ستكون جزء لا رجعة فيه من الماضي. يتبع فوكاياما كوجيف في ربط  انتصار الرأسمالية بتلبية الاحتياجات البشرية المادية. علاوة على ذلك، يرى انها الالية الأساسية لتوفير الاستحقاق والقيمة. تمثل النزعة الاستهلاكية والنمط السلعي، بالنسبة لفوكاياما، الوسيلة التي يتم من خلالها التوصل الى الاستحقاق. يرغب البشر في ان يقدرهم الاخرون، ووسيلة هذا التقدير هو التشبه باقتناء الأشياء التي يقدرها الاخرون انفسهم. ومن ثم يصبح نمط الحياة والموضة اليات للتقدير المتبادل في عالم ما بعد التاريخ الذي يحكمه منطق الفردية الرأسمالية.

***

في المثقف اليوم