أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ارسطو والتمييز بين الاسترخاء والترفيه

في نقاشه لجوهر السعادة، يطرح ارسطو تمييزا هاما بين الاسترخاء والترفيه. الاسترخاء يُعتبر ضروريا بسبب استحالة استمرار الفعالية، لكن الترفيه هو الذي يحتوي على الخير الحقيقي للحياة. الخلط بين الاسترخاء والترفيه يؤدي الى ضياع السعادة العليا.

في الكتاب العاشر من الأخلاق النيكوماخية يحدد ارسطو طبيعة السعادة، والتي هي حسب زعمه "غاية العيش" او الهدف من الحياة. هو يقول، السعادة ليست ميلا وانما فعالية. ويضيف، بعض الفعاليات يتم اختيارها لأجل شيء آخر، بينما اخرى يتم اختيارها لأجلها بالذات. والسعادة توجد في الفعاليات الأخيرة لأن السعادة ليست في طلب أي شيء. الفعاليات التي يتم اختيارها لأجل ذاتها هي تلك التي يكون فيها الهدف ليس اكثر من الفعالية ذاتها، ومن هذا النوع ايضا تأتي الافعال الفاضلة.

سيكون من الغريب لو كانت السعادة تكمن في التسلية بدلا من الفعالية الفاضلة، لأن الانسان سيكدح ويعاني كل حياته لأجل لاشيء غير التسلية. في الحقيقة، هو يسلّي نفسه فقط لكي يستخدم نفسه. التسلية هي نوع من الاسترخاء الضروري بسبب عدم آمكانية استمرار الفعالية. أي شخص محظوظ حتى العبد يمكنه ان يتمتع بالمتع الجسدية بما لا يقل عن أحسن الناس، لكن لا احد يخصص للعبد حصة في السعادة مالم هو يخصص لنفسه ايضا حصة في حياة الانسان. بالنسبة للسعادة، كما قيل، لا تكمن في المتعة الحسية وانما في الفعالية الفاضلة.

التأمل الفلسفي

بعد ان أعلن ارسطو ان السعادة تكمن في الفعالية التي يتم اختيارها لأجل ذاتها، وخاصة في الفضيلة، جادل بانه في جميع هذه الفعاليات ان ما يقود الى أعلى سعادة هو التأمل الفلسفي. متعة الفلسفة هي الاكثر روعة، كما يقول لنقائها وديمومتها. الانسان تميّز بالعقل اكثر من أي شيء آخر، وان حياة العقل هي الأكثر اكتفاءً ذاتيا واكثر سرورا وأسعد وأحسن والأكثر حبا للجميع. في الحقيقة، فعالية الله التي تتخطى كل الفعاليات الاخرى في الخير، يجب ان تكون تأملية. كل الحياة تهدف الى الله والخلود: النباتات والحيوانات تشارك في الخلود من خلال التناسل، لكن الانسان يأتي أقرب من خلال التأمل الفلسفي. التأمل ومن ثم السعادة هما ثمار الترفيه. لأننا منشغلون سنتحتاج للترفيه، واننا نعمل الحروب لكي نعيش بسلام. المرء لكي يكون سعيدا لا يحتاج الى العديد من الأشياء العظيمة، وان حياة الفضيلة والتأمل يمكن ممارستهما بسهولة بوسائل معتدلة. الشخص السعيد لابد ان يبدو غريبا طالما ان العديد من الناس التعساء يفكرون وتتحكم بهم فقط المكتسبات الخارجية.

الترفيه في السياسة

يعود ارسطو لموضوع الترفيه في كتابه (السياسة). الدولة كما يقول يجب ان تهدف لشيء أكثر من مجرد البقاء او الكفاية الذاتية: الانسان يجب ان يكون قادرا على الانخراط في الاعمال والذهاب الى الحرب، لكن الترفيه والسلام هما افضل، هو يجب ان يقوم بما هو ضروري وبما مفيد، لكن ما هو مشرّف هو الأفضل... اذا كان مخزيا للفرد ان لايكون قادرا على استعمال خيرات الحياة (النقود، المتعة، الشرف)، فمن المخزي ان لا يكون قادرا على استخدامها في وقت الترفيه، لأنه عندما يحصل على السلام والترفيه لن يكون أحسن حالا من العبيد. لكي يجعلوا لديهم وقتا للترفيه والفضيلة والتأمل، يجب على المواطنين الاثنيين ان لا يشاركوا في الزراعة او التصنيع والتي هي فعاليات تُترك للعبيد.

استشراف المستقبل

كل منْ يحب عمله ويقوم به لأجله، سوف يتفق مع ارسطو: بان آداء هذه الفعالية، سواء كانت وظيفة او هواية، هو مصدر للنعيم. واذا كانت هذه الفعالية تساعد او تلامس الآخرين، عندئذ تكون سعادتنا الاكثر اكتمالا.

لكن معظم السعادة التامة تأتي من التفكير في الفعالية المفضلة، هدفها، ومعناها. فمثلا، انه شيء عظيم ان تحب العمل في الحديقة، وانه اكثر عظمة ان نفهم لماذا نحب العمل في الحديقة، لأنه يخبرنا عن شيء أبدي وعالمي حول ماذا يعني ان تكون انسانا، ويربطنا مع كل شخص آخر يحب او أحب او سوف يحب الحديقة.

من الضروري التمييز بين الوقت المنفق في التسلية والاسترخاء، بسبب استحالة استمرار الفعالية، والزمن المنفق في الترفيه، اي، في التأمل، الصداقة والفعاليات الفاضلة الاخرى. الضرورات الاقتصادية قادتنا لربط وقت الفراغ خصيصا بالتسلية والاسترخاء. العديد من الناس المتقاعدين ، لم يعودوا بحاجة للتمتع على الساحل او امام الشاشة، وسيجدون انفسهم في خسارة، بسبب انهم لم يتعلموا ابدا الترفيه (في الحقيقة، الكلمة اليونانية للترفيه – schole – هو الأصل لكلمة "مدرسة"). ولكن عبر الخلط بين الاسترخاء والترفيه نكون خسرنا ثمار الهدوء والحضارة، وهكذا، أعلى السعادة.

اخلاق ارسطو، كفلسفة أخلاقية، والتي سميت ايضا أخلاق الفضيلة، هي حديثة بشكل مذهل، وحتى مستقبلية، عندما يحصل الناس على مزيد من وقت الفراغ ستتولى الروبوتات المسؤولية من العبيد والعمال. لقد تغير الكثير منذ عهد ارسطو، ومع ذلك قليل جدا.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم