أقلام فكرية

سامي عبد العال: الرحمة كمفهومٍ بلا عُنف (3)

لا يعني وجودُ تأسيسين للإسلام: (الإسلام كدين عالمي) وإسلام الرحمة (كمفهومٍ كوني) أنهما متصارعان لا محالة. فبخلاف أية نبرةٍ صارمةٍ أخرى، ليس التأسيسان المُشار إليهما منفصلين بالضرورة. طالما وُجدت الرحمة، فبإمكانها إعادة تفسير (إعادة تفهُم) كل متعلقات الإسلام المُؤرّخ، وبإمكانها كذلك أنْ تُغير أنماط الأفكار والتدين. التأسيسان متداخلان لصالح الإنسان ومن أجل إيجاد صيغةٍ أكثر رحابةً لفهم قضايا الحياة والإعتقاد والدين.

إن الجانب المعياري المفتوح يُوجد داخل الرحمة وملحقاتها بطريقة حرةٍ. فهي الأكثر انفتاحاً، وتستطيع أن تبطل عنف الأفعال والممارسات غير المقبولة إنسانياً، وتستطيع أن تنقّي اتجاهات الكراهية، وتغربل المواقف الحدية، وتُحلل انحرافات التاريخ، وتعدل التوجُهات أيضاً. وكذلك بإمكانها أنْ تقدم تأويلاً حُراً لنصوص الإسلام ومصادره.

إنَّ انتشال الرحمة من بعض تشوهات التراث الاسلامي يتم بمساءلة الأخير وتطويره وفقاً لمعايير الرحمة ونظامها الكوني ميتافيزيقياً وبشرياً. انتشال يجري من خلال تاريخ الإنسانية وداخله بالدرجة الأولى، فمفهوم الرحمة يُظلّل كافةَ جوانب البشرية، ولا يستغني عنها، ولا ينظر إليها بإزدراءٍ. إنَّه يدرك (الأخطاءَ البشرية) تمام الإدراك ويعالج القضايا بالوسع والفهم لا بالحذف والإنكار. ولعلَّ جغرافية هذا المفهوم هي نفسها جغرافية العالم بما في جوفه من معتقدات ومجتمعات وثقافات وأديان وفي مقدمتها الإسلام. وعندما تكون الرحمةُ منظوراً كاشفاً لتنوع الحياة، فهذا فحواه إضاءة الدروب الوعرة والطرق المتعرجة لأجل المستقبل. ولا يجب أنْ يكون الحد الفاصل هو العنف، لكن الحد الفاصل هو الفهم والحرية.

كلُّ ذلك الرهان الفكري وارد ببساطة مع شديد الاحتراز من السقوط في نزعة ساذجة أو استسلامية أو تبريرية. لأنَّ القرآن من زاوية الرحمة- وهو النص المصدر- لم يَقُل بذلك العنف. وهذا يعني التعامل الفلسفي الرصين مع القرآن كنصٍ قابل لانتاج مفاهيم إنسانية كبرى. ولئن كان البعض يلتزم تجاهه بنزعىة سلفية صرف، وإذا بدا أنَّ هناك آيات تمس العنف، فالرحمة ستعيد تأويلها ضمن آفاق القرآن. وأكثر من هذا، فإن كل أعمال العنف التاريخي وتنظيراته غير منصوص عليها في المصادر العملية والدينية الرصينة. وأنَّ ارجاع الرحمة إلى (مقولة الله) في الاسلام هو تدمير جذري لكل ما بُني عليها وتراكم من دلالات تكفيريةٍ واقصائيةٍ. وأنَّ الرحمة تدير عقارب الزمن إلى (نقطة بيضاء) تجاه البشر والخلائق جميعاً، تمثلُ دعوةً من الخالق إلى إزاحة ما علق بالأديان، إلى كشط الترسبات الثقافية بسكين كوني حاد.

الرحمة في القرآن

ورد لفظُ "الرحمةِ" في القرآن قرابة مئتين وثمانٍ وستين مرةً (268) بأشكال مختلفة وفي سياقات متنوعة. ولكنها تُغطي مساحةَ الدلالة الكونية والإنسانية والزمنية والاجتماعية إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ. وقد ذُكر اللفظ في أكثر مواضعه بصيغة (الاسم) تحديداً. حتى لا يكون ثمة جدال أو تردد من المتلقين تجاه ما يطرحه مباشرةً. فالاسم ينطلق مرتبطاً بمدلوله بألف ولام التعريف أو بمصدرية المعنى مع حقيقة المسمى.

ونحن نعرف أنَّ القرآن نصٌ مؤسِس لجوانب الإسلام، وأنَّه يقرر مفاهيم مختلفة كل الاختلاف عما هو شائع، وحتى إذا كانت مفاهيم متواترة، فإنه سرعان ما يفرغها من حمولاتها الثقافية، ويعيد إدراجها وفقاً لنظام الدلالة ورؤى الحياة العامة له. وكذلك عندما يُرسخ القرآن مفهوماً، فدلالته ترتبط بإستعماله وما يهدف إليه ربطاً بمرجعيته الكونية. ومن ثمَّ، يبدو أنَّ المعاني التي يطرحها تمثل المعاني عند الدرجة الصفر للتفكير، حيث يستند إليها جُل التفكير المسمى إسلامياً.

وهذا فحواه أنَّ الأمر بالغ الأهمية إزاء (البُعد الكوني) للرحمة، نحو قول القرآن إسماً عن الله .." إنَّه هو التوّاب الرّحيم" (البقرة/ 37) . لأنَّ الاسم يشيرُ إلى دلالة الكلمة بأصالة المُتصف بها (الإله) ، حيث لا تمْر الدلالةُ عرّضاً، بل هي عين المُسمّى الفاعل. فحينما يعْلم البشر أنَّ الإله الخالق توابٌ رحيم، فهذه الصفات هي التي تمثل (حقيقة الإله) ، لا حالة عابرة تستوجب التغيُر كما في عرف البشر مع تقلب الأحوال، إنما تستلزم اليقين بوجودها من طبيعة الإله نفسه[1].

وكذلك وردت الرحمةُ في أربعة عشر موضعاً من القرآن بصيغة (الفعل) تطبيقاً لدلالة الإسم، وكونّه ممارسةً خارج حدوده أو بالأحرى تكسر الحدود عن وعي وتروٍ، نحو ذكر القرآن بوضوح: " قالوا لئن لم يرحمنا ربُنا " (الأعراف/ 149) .

هكذا توزعت آياتُ " الرحمة" كما جاءت بالقرآن على كلّ شيءٍ في الكون:

1- الله رحمة (عين الذات) :

الرحمة هي المعادل الميتافيزيقي - الأنطولوجي لمعنى (الوسْع الذاتي الإلهي) "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً" (غافر/7) . والوسْع ليس مجرد معنى فحسب، ولكنه وجودٍ وإرادة وفعلٍ أيضاً. وكأنَّه لا توجد أيةُ رحمة نافذةٍ إلاَّ بقدر ما هي نوع من الوسْع. أي أنَّ الرحمة تمثل الوسع بإطلاق، وتظل كذلك بضمان الخالق الواسع. هذا هو الطرح الجديد بخلاف تاريخ الرحمة ارتباطاً بمفهوم التبادل والمقايضة في بعض الأديان والثقافات. وليس مرتبطاً بالأفعال الإنسانية - خيرةً أو شريرةً- حتى تصدرُ الرحمة عن الله. ولذلك كلما تقوَّت فكرة التوحيد تقوَّت بالتبعية الرحمة، لأن الإثنان شيء واحد.

ونظراً لأنَّ الله واحد، فهو رحيم رأساً. وليس هناك إله رحيم بإطلاق في حالة تعدد الآلهة، فقد يكون الوضع مهيئاً في حالة التعدد إلى الصراع والانتقام والثأر. كما أنَّ من يستطيع أنْ يقول أنا الإله من غير منازع هو من يرحم بإطلاقٍ ويعرّف نفسه بهذه الهيئة إلى البشر ويعرّف البشر والكائنات إلى نفسه. والتسميّة هنا تسميةُ خلق لا تسمية مُسمى وحسب.

تلك لفتة في غاية الخطورة للأديان، لأن وصف الله ذاته بالرحمة يعني أنه لا يمكن لإنسان أنْ ينكرها، وفوق ذلك غدت عقيدة. الأمر يخاطب المؤمنين هكذا: مثلما تؤمنون بالله، فعليكم الايمان والامتثال للرحمة، والأدق أن الرحمة بهذا التكوين الميتافيزيقي بإمكانها أنْ تعود إلى الجذور وتشق عصا العنف والتشدد مرة واحدة. وتعطي الممتثل لها قوة إزاحة التراكم حول رؤيته وأفكاره وصولاً إلى المصادر الأولية، وهي بهذا المعنى إعلان عن حياة جديدة، رغم كون الإنسان قد بلغَ من الكراهية عتيّاً.

وهذا المعنى الفلسفي الخاص بالرحمة عبارة عن تعريفٍ وهُويةٍ وقدرة ميتافيزيقيةٍ على الفعل. لأنَّ الرحمة في الإسلام معبرةٌ عن وجود الإله في مقابل جميع الأشياء والكائنات. فلولا الله ما كان شيءٌ، إن المعنى يجري بحد الضرورة التي تعود إلى رسم المشهد من تلك البداية. والرحمة كوسعٍ هي الكفيلة بوضع الخلائق في معيِّة الإله ووجوده. والآية تقول بالرحمة على سبيل الرعاية والعناية والقيام والجُود دون إنتهاءٍ.

وطالما ظهرت تلك النقطة القصوى للوسع الإلهي، فإنَّ الله هو عين الرحمة، إذْ لو تصورنا وجوداً بلا قسوةٍ ولا انتقام فهو إثبات أنه إله. يردد المؤمنون في كافة أمورهم الحياتية: " بسم الله الرحمن الرحيم" (الفاتحة /1) . هي عبارة الإبتداء النصي والوجودي، الفاتحة للمعاني والكلام والأعمال والحياة[2]، كأنَّه لا توجد ثمة فاتحةٌ سوى بالرحمة. ولم تكن هنالك عبارةٌ انطولوجية مثلها في القرآن تبرز درجة التسمية بهذا الانفتاح.

وتأكيداً لدلالة الوسع، رَجع القرآنُ إلى أصل الإنسانِ، وهو حادثة آدم المنطوية على ذاكرتها الخاصة حين عصى الأمر الإلهي. كان رد فعل الله واضحاً داخل إطار الرحمة أيضاً: " فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ فتابَ عليه إنَّه هُو التَّوابُ الرَّحيمُ" (البقرة/37) . وآدم هو الذي تلقي التوبة، أي كانت المبادرة الإلهية بدرجة الرحمة أسبق من تفكير (آدم) في أثر المعصية. لأنَّ وسعاً إلهياً قد شمل- بحكم الخلق والإيجاد- حياة آدم وأفعاله وما لا يمكن تصوره. فكان منطقياً أنْ تمارس الرحمة دورها في جوانب حياة أبناء آدم:" ذلكُم خيرٌ لكُم عندَ بارئكُم فتَابَ عليكم إنَّه هو التَّوَّاب الرحيمُ" (البقرة/ 54) .

الرحمة بهذا المستوى تتعلق بكل معاني البارئ، أي الخالق المبدع الذي يوجد الأشياء من عدمٍ وواهب الحياة. هو مبدع الأكوان، حيث لن يُسقط أحداً من رحمته، فالرحمة من ثمَّ تُساوي الخلق كل الخلق وجه لوجه. ونظراً لأنَّ الله في الإسلام لا يتخلى عن مخلوقاته، فالمصير الذي ينتظرهم هو الخيرية انطلاقاً من التوبة. فالخير في مقابل التوبة أمرٌ إلهي بموجب كون الإله ذاته توّاباً رحيماً. اللافت أنَّ البارئ هو المسئول عن محو خطايا مخلوقاته نتيجة الرحمة التي هي منه ارتباطاً كما يقول الراغب الاصفهاني بـ (الإحسان المجرد) ، لأنها من الله إنعام وإفضال ومن الآدميين رقة وتعطُّف[3].

والخط الواصل بين البارئ والرحمة هو المناجاة، التطلع إلى الأعلى فوق الأشياء. بالطبع فإن مجرد الدعاء هو تذكير برحمة الخالق (أو الخالق كرحمة)، "وأَرنَا مَناسِكنا وتُبْ عَلينَا إنّك أنْتَ التَّوَّاب الرَّحيمُ" (البقرة/ 128) . إذ يعبر الدعاءُ عن علاقةٍ مباشرةٍ بين الله والمخلوقين، ولكن كون الله تواباً (كثير التوبة) وكونه رحيماً (كثير الرحمة)، فقد أسسا العلاقة بعين الرحمة. علماً بأن التوبة تحمل داخل طياتها فعلَ الخطايا من البشر، والرحمة تعبرُ ضمناً عن جوهر الذات الإليهة بما هي كذلك. فلو لم يعرف المؤمنُ أنَّ الله هو الرحمة، ما كان ليخاطبه بالمعنى نفسه!!

يؤكد القرآن الإعتراف الإلهي بالرحمة قصداً: " فأولئك أتُوبُ عليْهم وأنا التَّوَّاب الرَّحيمُ" (البقرة/160) . والآية تنطوي على إعترافٍ بالتوبة من قبل الله على أولئك الداعين إياه بالمغفرة. وتبدو الرحمة نوعاً من الغفران والتوبة كحالةٍ لمحو الخطايا، حتى لا تكون كلُّ رحمةٍ خاليةً من استحقاق إلهي. فهي هنا (مقدّرة واستحقاق) من عين الذات. وكأنَّ الآية تحدد نموذجاً متماسكاً للرحمة مهما كانت الخطايا لأولئك الذين يطلبونهما. وربما من المرات النادرة التي يعبر فيها الله بـ (الأنا) عن وجوده مقروناً بكونه توّاباً رحيماً خاصةً، أي أنه مَيّز وجوداً ذاتياً له هو الأولى بالتجلي الدائم. والأنا هو الفيصل لاعتبار الرحمة بالغة الفعل من باب: أنَّ الأنا الإلهية مطلقةُ التحقق والمعنى. والله يحُول دون تطفل القضايا الإنسانية المُضافة إلى وجوده عرضاً مثل: الشفقة واللين والموائمة والتصالح والتساهل وغيرها، فجاء الله رحمةً. إن الله هو جوهر الرحمة، والرحمة هي جوهر ذاته دون مبررات أخرى.

ولا يخفى على القارئ أنَّ الذات الإلهية من تلك النقطة تتصل بوحدانيتها في الإسلام. يعبر القرآن: " وإلهُكُم إلهُ واحدٌ لا إلَه إلّا هو الرَّحمن الرَّحيم" (البقرة/ 163) . إذ تستبق الرحمة دوماً إساءةَ الفهم أو التقدير في شكل بذلها دون مقابل، وأن المقدّس المانح للرحمة قادرٌ عليها بلا مقدماتٍ ولا شروط. ولذلك تعدُّ الرحمة من جنسْ التوحيد في الإسلام. إنَّ الرحمن هو الواحد ولا شيء سواه، وهنا تأتي المسئولية بالنسبة للأفراد من واقع الإيمان. لأنَّ كل فعل إيمان يستند بطريقةٍ أو أخرى إلى فعل رحمة الذي هو فعل توحيد. وينسب القرآن (حد الإله) إلى البشر (إلهكم) من باب الإطمئنان، ومن ثمَّ ينسب الله الرحمةَ إليه بالمثل (الرحمن) .

المقصود أنه لا تظنوا أنَّ ما تؤمنون إلهاً غير رحيمٍ، وأنه سينزل بكم العقاب لا محالة. فالأمر بالعكس، يؤكد القرآن" يُحببكُمُ اللهُ ويَغْفر لَكُم ذُنُوبكُمْ واللهُ غفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران/ 31) . والحب بمثابة (النسغ الأصيل) الذي تنهل منه الرحمة معينها الذي لا ينضب. فالحب يصلُ إلى شفافية الوجود إزاء الآخرين. ويرفع الله مستوى التوقُع لدرجة مبادرته هو ذاته بالحب تجاه الناس، فالرحمة من تلك الجهة تكسر (التراتب المطلوب) لفعل الغفران بمعناه اللاهوتي، حين كان تاريخُ الرحمة لوناً من التذلل والتمسكن واستعطاف سلطة أعلى. لكن الآية القرآنية تضع فعل الحب خلفية ًكمصدرٍ للرحمة، وكأنَّ الرحمة فعل (حُب حر) ، فعل هبة للوجود، وذلك لمجرد وجودنا في نطاق أُناسٍ ما، أناس يقفون مع الرجاء صوب الآخر جنباً إلى جنبٍ.

2- نبي الرحمة:

أبلغ توصيف لعلاقة السماء بالأرض أنها علاقة رحمة بالدرجة الأولى. وليس يدركُ ذلك إنسانٌ قدر ما يدرك صاحبُ الرسالة، فما بالنا بمصدر الرسالة (الله) .. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين" (الأنبياء/ 107) . ما يهمنا بجانب ما قيل: أنَّ القرآن ترك بصمة القائل (الله) في الكاف بنهاية أرسلنا (ك) مع ورود الرحمة كغاية حصرياً (أي تفيد الحصر والتأكيد بالوقت عينه) .

لقد حرص الله أنْ يكون ذاته موجوداً لغوياً هو الفاعل بالخطاب الرحيم، وترك النبي في الخلفيةِ على هيئة مخاطب غائبٍ (أرسلناك) ، وكانت الرحمة هي القصد الكلي للقول والرسالة. والمغزى أنَّ الرسالة هي الرحمة بعينها لا غير، وأنَّ النبي يجب عليه أنْ يتمثل دائماً كونّه رحمةً، وأنَّ الرسالة التي يحملها خارجة من هذا المصدر لكل الناس حتى الأعداء[4].

الأخطر في الآية أن الرحمة تتجاوز الإختلافات الطبيعية والبيولوجية والثقافية بين البشر، أي أنَّ مفهوماً للدين لا يستوعب (عن قصدٍ) معنى الرحمة وطرائقها وبنيتها وغايتها حتى وإن كان مفهوم الدين هو الإسلام نفسه. والآية تقول إنه ربما سيكون الإسلام فريسة للأيديولوجيات والطوائف والنحل والمذاهب، ولذلك فدلالة الحضور الإلهي (الكاف) تُعلِّق إمكانية التحكم في الرحمة، ولن يترك فرصةً لوضعها في شروط خاصة وأنَّها تعلو كونياً على كافة ترتيبات المذاهب. والآية تؤكد حرصاً على كونية الرحمة بقدر حرص الإله عليها، حتى وإنْ كان الوسيط (النبي) موجُوداً ويجسدها.

ولكمْ صوَّر أصحاب المذاهب أنَّ الرسالة مشروطة إيمانياً في التاريخ، غير أن المعنى الخاص بالآية يحطم هذه الصورة أو تلك. وبمجرد ذكر العالمين يأخذ المعنى قوسّه الأوسع دوماً، ولن يعود على مطية الأيديولوجيا أو السياسة، إنما سيذهب لكل "آخر كوني". و هذا المعنى هو معنى يعرفنا أنّ هناك عالمين لا عالم واحد، عالم ظاهر وآخر باطن. فلئن كان البعض يتحيّن رؤية الشفقة في عيون أقرانه طلباً للرحمة، فما بالنا بمن لا نعرف ولا نُدرك من كائنات، وهم جزء من كوننا الفسيح الخارج عن نطاق السيطرة البشرية.

تبلغ الرحمة شأنا كونياً خطيراً، لدرجة أن الله - بلفظ القرآن- يُخرج الرسول من معادلة الرحمة لو وَجَدَ في نفسه شيئاً من الناس. وهذا ذروة الاقرار الإلهي لمعنى الرحمة إجمالاً، " فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ " (الأنعام / 147) . والفكرة تعالج هواجس المخالفين في الإعتقاد أيضاً، وليس المخالفين في التوجهات داخل الدين الواحد فقط. وبخاصة أنه ليس من حق أحدٍ أنْ يمنع رحمة الله حتى وإنْ كان رسولاً حامل الرسالة. فلا يمكنه أنْ يتدخل في المعنى الكوني للرحمة، لأنّها أكبر مما يحتمل بمنطق ما يُحمّل أيضاً. والمفارقة أنَّ نبي الإسلام هو الصاحب الرسالة، ولكن رسالته تقول بالرحمة التي لو اقتضى الأمر أنْ تخرج عن مسارها الاعتيادي لفعل اللهُ ذلك. أي أنه يمكن للرحمة أن تهدم أي شيء يقف في طريقها ولو كان منصوصاً عليه في رسالة السماء، وهذا شرط يُقدم نفسه على أية شروط أخرى مهما كانت من صميم الرسالة الإلهية.

ولئن كان النبيُ قد شعر بغُصةٍ من صدود الناس، فعليه أن يتذكر أن الرحمة سابقة على ما يشعر به، وأنه ليس مرجعها الخاص، ولكنها تعود إلى الله "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ" (آل عمران /159) . والرحمة تمثل فعلاً نبوياً وسيطاً، لكيلا يظن ظانٌ أن الرحمة قد تتقهقر عن كونيتها في وقت من الأوقات. وتلك الفكرة بعيدة الجذور فيما يطرحه الناس من تصوراتٍ، وتبدو كأنَّها مادة إنسانيةً خالصة بالفعل. فالله يقول: إنه حتى ما جادت به (النبوة) في شخص الرسول، إنما كانت نتيجة الرحمة التي هي مصدرها الله. وأين تكون؟ إنَّها موجودة في داخل النبي ذاته؟ أي حتى أن ما يمتلكه النبي من أخصِ ما يملك، سيكون هناك وجود لرحمة إلهية داخله.

واتساقاً مع ذلك،" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ" (النساء /175) . وفي هذا الصدد، يُحيّد القرآن الرسول نفسه كي يلتقي الإنسان بالله مباشرةً، فلم يأتِ على ذكر الرسول، ولكن الإيمان يفتح المجال مع مصدر الرسالة بخلاف أي شيء آخر. والرحمة لا تحتاج استئذانا ولا تقتضي توقيفاً تحت المساءلة، لأن الإيمان يجعلها في هذا السياق صلاحية كونية مفتوحة.

والنبي (مثل سائر المؤمنين) عليه أنْ يتحيّن معنى الرحمة: "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنك أنت الوهاب" (آل عمران/ 8). فطلب الرحمة يأتي من نقطة قُصوى تعلو كافة الكائنات والأشياء مثلما كانت إنطلاقتها. تعلو بالمنطق نفسه مع قدرتنا على التمييز، لكونها أوسع مما نتخيل ولكونها مادةَ الإيمان الأولى فيما تقول الآية. وهي الدرجة المؤشرة إلى لون من الهداية دون زيغ. وتعلن الآية أنَّ الرحمة mercy هبة gift، والهبة من تلك الجهة تجري دون مقابل ولا ترقب النتائج. أي أنَّها منحةٌ لا ترد ولا تقدر إلاَّ بذاتها المعطّاه للإنسان[5].

والإشكالية أنَّ الرحمة والهبة لا تُصنفان عادة على أساس العلاقات الإنسانية أو على قاعدة المقابل الذي يوازيها، هما كلمتان خارج حدود الهيمنة أيا كانت عناوين الدجما التي ترعاها. ولذلك حرصت الآيةُ على تسمية الله بالوهاب كواهب للرحمات والنعم دون حدود. والتسمية نوع من الإقرار إلى كلية الرحمة طالما كان هو الله. وليس يوجدُ لدى البشر ما يُسمى بالوهاب حصراً، لأنَّ الإنسان ينخرطُ في بذل الرحمة طالما يستطيع. والأية تستحثه أنْ ينتظر الهبة المطلقة في معانى الرحمة: عليك أنْ تكون لديك قدرة هبة لا قدرة استئثار، قدرة بسط لا قدرة قبض.

3- كتاب الرحمة:

لأول وهلةٍ في تراث الأديان أنْ يكون الكلامُ رحمة بين دفتي كتاب. قد نعرف أن سلوك الرحمة يبدو كحالة بين قوسين في رتم الحياة المشتركة، وقد يكون حثاً على حالة من التعايش بين البشر المختلفين، ولكن أن يكون النص الإلهي ذاته رحمة، فهذا مفهوم جديد ليس ينال منه أيُّ تأويل عنيف لعباراته وآياته. يقول القرآن: " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" (القصص /86) .

وهذا أقصر تلخيض لكل كتاب وحي، فمن باب الرحمة جاءت الكلمات والمعاني والمبادئ والتعاليم والشعائر. ويقف القرآن مباشرةً منذ لحظته الأولة في وجه الاستحواذ على الكتاب. سواء أكان القائمون بذلك هم المسلمين العاديين أم المؤدلجون أم الفقهاء[6]، فلن يكون مشروعاً ناجحاً بحال، لكونه يخالف نقطة الإنطلاق. والمعنى هنا كوني وأصيل، لأن الكتاب جزء من الرحمة بصيغة المجهول هكذا. والكتاب دال يعبر عن القراءة كفعل رحمة ومعرفة وفهم معاً.

والمدهش أنْ تصبح القراءة رحمة هي الأخرى وربما تعد الفكرة (أقصى تحول) قد يحدث في مفاهيم التعايش والحب وقبول الآخر. وهو تحول يقطع الطريق على توظيف النصوص المقدسة لقطع الرقاب وتمزيق الأجساد والإرهاب والتنابذ بالهويات الدينية. وليس هذا خطأ في الطريقة والأسلوب، بل هو خطأ في المبدأ ذاته، وهو يساوي التعارض مع دلالة الله وقدرته الوجودية في الاسلام. "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا" (فاطر/2). فالرحمة التي يصعب إمساكها، ولاسيما أنَّ الكتاب مستمر في التاريخ بحكم اللغة وبحكم قدرته على تأويلات الرحمة مادام هناك إنسان وعوالم مختلفة.

قد يُقال: لماذا تكون الرحمة كتباً مقروءاً ومنظوراً؟ وهل ثمة أمر ما يستوجب الرحمة؟ هذان السؤالان استفهامان منطقيان تماماً، بحكم تفكير الإنسان وشعوره الطبيعي بالاحتياج للرحمة. وهذا ما يستند إليه القرآن في إطلاق إنسانية المعنى لكل البشر لا يتوقف على الخطايا: "رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًاً" (الكهف/ 10) . فطلب الرحمة والإنتظار المعقود لها أمران مهمان لتلقي الهبة. وليس الطلب هنا استعطافاً ولا إثارة للشفقة، لأن كتاب الرحمة مفتوح للجميع وليس متوقفاً على استدرار الرحمات من الله.

تختلف الرحمة (بهذا المعنى) عن الرحمه في تاريخ اللاهوت، لأنها في القرآن كتاب موثوق لا حادثة، نص لقانون كوني لا استثناء، ورغبة من المؤمنين والتقاء مع هبات الله لا تذلُّل، وتراحم حُر لا استعطاف وتملق. والمعنى هنا لا يلوي على نقيضة (القسوة والعنف) . لأنه لو فعل ذلك، لكانت للرحمة قيودٌ تتكبل بها في غير حالةٍ، ولن يستحقها أناس بخلاف غيرهم. فكل قيد سينعكس على صاحب الرحمة وسيحد من قدرته، وهذا أحد أسباب أن الله قد أطلق معنى الرحمة.

تلك هي الرحمة التي يستحقها في الزمن: (من يكون ومن كان ومن سيكون) على امتداده: "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" (56:/ الحجر) . ذلك لأنها مرتبطه بالمصدر وكما أن الكتاب يحتاج قراءة حقيقية ومثابرة، فكذلك لن يقنط أو يحبط من عدم بلوغ الرحمة إلاَّ من لم يستطع القراءة جيداً، إلاَّ هؤلاء الذين لم يفهموا الرسالة جيداً، وإلاَّ من لم يتمكن من فك شفراته الإلهية الإنسانية. وأن تجنب الرحمة أو إساءة القراءة يعدُّ ضلالاً لا يحول مع ذلك دون استحقاقها.

" كَتَبَ على نَفْسه الرَّحْمةَ ليَجْمعنَّكم إلى يَوْم القِيَامَةِ لارَيْبَ فيهِ" (الأنعام /12) . ماذا تسمى الكتابة على النفس وبخاصة من الله؟! هل هي ضرورة وجودية؟ كيف يكتب الله المطلق شيئاً ذاتياً يخص به ما هو نسبي؟ الرحمة هي الشرط الوحيد تقريباً الذي يضعه الله على نفسه، كأنه يبطل تصوراتنا العنيفة حول ذاته لصالح رحمته التامة. والشرط من قوة الشارط وقدرته على انفاذه كقانون إلهي، فليس معقولاً في الإسلام أنْ يشرط أيُّ مخلوقٍ الرحمةَ على الله، ولكن الرحمة بمثابة القوة التي تمثل (قدرة القدرة الإلهية) ، لأنَّها تكتب وجودها على خالص الأكوان.

وفعل كتب فعل ماض، أي أمر محتوم بالرحمة منة حيث لا يكون حتم على الذات الإلهية من أية كائن كان أو سيكون. فلو قال الله يكتب الله على نفسه الرحمة لكانت أمراً طترئاً ولوقال سيكتب على نفسه الرحمة، لكانت الكتابة خاضة للظروف والأحوال. ولكنه أكدها بصيغة الماضي ارتباطاً بالذات وقدمها.

وفي سياق آخر ربط الله الكتابة بفعل وتحقيق السلام والتواد والتسامح إزاء الآخرين: " فقُل سَلامٌ عليكُم كَتَبَ ربُّكُم على نَفْسه الرَّحمة" (الأنعام /54) . وفي الآيتين (كتب على نفسه) ، وذلك أمرٌ دال على منتهى التوحيد بين المعنى والفكرة، كأن الله من حيث الكتابة على نفسه لم يتح فرصة للتفكير فيما دونه، وكذلك لاعتبار الناس جزءاً حيوياً من وجوده. ومن ثم قضى الله بالرحمة على خلقه، حتى وإنْ أخطأوا وأذنبوا بقول الطبري[7]. فما مدلول أنْ يكتب على نفسه رحمة جامعة لغيره؟! أنَّ فعل الكتابة عمل خالق، أوجد الناس وقد تمت الرحمة بهم رأفة بالبشر كل البشر. لأنَّه لم يحدد أُناساً بعينهم يستحقون ذلك، لكنه كتب الرحمة لمنْ يكون وكفى.

***

د. سامي عبد العال

............

[1]- لو ثمة مقارنة باليهودية، سنجد أنَّ الذات الإلهية في اليهودية مثلاً كثيراً ما وُصفت في حالة صراع مع الشعوب الأخرى: " اِقْتَرِبُوا أَيُّهَا الأُمَمُ لِتَسْمَعُوا، وَأَيُّهَا الشُّعُوبُ اصْغَوْا. لِتَسْمَعِ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ نَتَائِجِهَا. لأَنَّ لِلرَّبِّ سَخَطًا عَلَى كُلِّ الأُمَمِ، وَحُمُوًّا عَلَى كُلِّ جَيْشِهِمْ. قَدْ حَرَّمَهُمْ، دَفَعَهُمْ إِلَى الذَّبْحِ. فَقَتْلاَهُمْ تُطْرَحُ، وَجِيَفُهُمْ تَصْعَدُ نَتَانَتُهَا، وَتَسِيلُ الْجِبَالُ بِدِمَائِهِمْ. وَيَفْنَى كُلُّ جُنْدِ السَّمَاوَاتِ، وَتَلْتَفُّ السَّمَاوَاتُ كَدَرْجٍ، وَكُلُّ جُنْدِهَا يَنْتَثِرُ كَانْتِثَارِ الْوَرَقِ مِنَ الْكَرْمَةِ وَالسُّقَاطِ مِنَ التِّينَةِ".. (التوراة، سفر أشعياء، الإصحاح الرابع والثلاثون) .

[2]- أبو الفرج الدمشقي الحنبلي، تفسير الفاتحة، تحقيق سامي بن جاد الله، الرياض: دار المحدث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427، ص ص 22-23.

[3]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة للطبع والنشر والتوزيع د. ت) ، ص 191.

[4]-Haya Eid, Muhammad: the Prophet of Mercy, New Vision for Translation and Culture, (Cairo, Egypt, 2012) , P41.

[5]- لعلنا نلاحظ أن عطاء الرحمة يخالف نمط الهبات المتداولة في المجتمعات البدائية القديمة، حيث كانت الهبات تقتضي رد الجميل في نسق رمزي يحكم المسألة اجتماعياً، وأحياناً يكون الإنسان المتقبل للهبة مديناً روحياً وجسدياً لصاحب الهبة ويقع تحت سيطرته السحرية والدينية.

Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies, Translated by W.D.Halls, With a foreword by Mary Douglas, (London and New York: Routledge, Firest Edition, 1990) , P16.

[6] - وحتى على مستوى التشريع والفقه كانت الإجتهادات الفقهية في الاسلام باباً للرحمة، وأن الاختلاف حول الأمور الحسنة والقبيحة ومناط الحلال والحرام أحد موجبات الرحمة والرأفة والأخذ بيد الناس إلى الخيرات. وتوضيحاً لذلك، ناقش أبو عبد الله الشافعي الاحكام الفقهية باختلاف المذاهب في مسائل العبادات والاجتماع والسياسة والحدود وغيرها وبيان الرحمة فيها.

راجع: أبو عبد الله العثماني الشافعي، رحمة الأمة في إختلاف الأئمة (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1987) .

[7] - محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الحادي عشر، تحقيق وتخريج الأحاديث محمود محمد شاكر، راجع الأحاديث أحمد محمود شاكر (القاهرة: مكتبة ابن تيميه، الطبعة الثانية د.ت) ، ص 392.

في المثقف اليوم