أقلام فكرية

فعل الولاء عند جوزيا رويس

خديجة ناصرييعتبر الفيلسوف الأمريكي صاحب النزعة المثالية جوزيا رويس من أكثر الفلاسفة تألقا في عصره، ويعتبر في الوقت عينه أحسن ممثل للحركة المثالية الأنجلو أمريكية من حيث كونه يتوسط النزعة المثالية المطلقة المتطرفة والتي يذهب مناصريها للتقليل من شأن الفردية في مقابل الانتصار للمثل العقلية المطلقة، وبين النزعة المثالية الشخصية التي غالت في تأكيدها على القدرات الفردية في مقابل التقليل من شأن القيم المجردة الكلية.

ويعد فكر رويس ذات الطابع الفلسفي الأدبي المتفرد الناتج عن جسارة عقلية نافذة، أحد الروافد المعرفية الخصبة ذات الرؤية الأخلاقية القيمية المتأنية للوجود متأثرا في مناحي كثيرة بالفلسفة الألمانية فقد وجد في فلسفة كانط الأخلاقية والمفكرين الذين جاءوا بعده نقطة انطلاق لتطوير مذهب يعترف بالمكتشفات الجديدة للعلم لكنه يتجاوز في الوقت ذاته قصوره ومحدوديته، من حيث كونه يقدم تفسيرا للواقع أكثر عمقا وشمولا، مع إفساح مجال أوسع للقيم الروحية الذابلة والفاقدة للمعنى والفاعلية في عالم يزداد إعجابا وانبهارا بالمستجدات العلمية وما حققته من أريحية وتيسير للشؤون الحياتية اليومية وما نتج عنه من سعادة آنية تلهي الإنسان عن مقاصده وتصرف نظره عن الحياة الفكرية النظرية في مقابل الانغماس المسرف في الحياة العملية والسعي الدؤوب لإرواء أوحال غرائزه المتصدعة وتحقيق مصالحه الشخصية.

ومن هنا جاءت فلسفته للتأكيد على البعد الأخلاقي للإنسان ورده لمنابع روحه الصافية التي عكر صفوها مغريات مادية جملت له الحياة وزينتها بغشاوة مزيفة حجبت عنه رأيت جوهر وعمق الحياة الحقيقية، وقدم لنا في كتابه الموسوم "فلسفة الولاء" أساس جديد لحياتنا الأخلاقية لخصه في "فعل الولاء" الذي هو في جوهره فلسفة حاضنة للإرادة والعمل الجماعي، فالولاء بتعبير رويس هو حب الفرد للجماعة واستعداده الفطري للانخراط في تجربة الحياة الجماعية بغية تحقيق ما يسميه "بالوحدة الأثيرة" أو "الجماعة المحبوبة"، فالإنسان في جوهره ذو تركيبة غرائزية تدفعه نحو التعاون الاجتماعي والميل للغيرية كما أشار إلى ذلك برغسون وعديد من الفلاسفة غيره من أمثال إميل دوركايم وماكس شيلر....الخ ممن نوهوا بأهمية الاتحاد البشري في تكتلات مجتمعية حتى ينمو فيه الاستعداد للعيش وسط جماعة سعيا لتحقيق الضبط الاجتماعي وبناء مثل قيمية مشتركة بين أفراد الجنس الواحد، فما نشهده في عالم اليوم من طغيان النزعة الفردية وارجاع قوام الحياة الإنسانية وأساسها للذات المتفردة المتميزة عن غيرها من الذوات بدعوى التحرر والتقدم لا يجد مبرراته في طبائع الإنسان الفطرية المتجذرة والمتأصلة في خلجات تجربته الشعورية، إنما مرد ذلك وأصله حصول الإنسان على قدر من الذكاء الاصطناعي ممثلا في المنجزات العلمية، ما جعله يتصرف بقوته العقلية على نحو أناني جرده من طبيعته الخيرة فأخذ يستخدم عقله المكتسب لأغراض تضر المجتمع وتواجه الإرادة العامة للمجتمع الإنساني.

وفعل الولاء كما بينه رويس ليس مجرد انفعال وإحساس عشوائي أو ردة فعل تصاحب أحداث خارجية متفرقة نابعة من شعور المرء بالخوف من فقدان مركزه ضمن الفضاء العام الذي يتواجد فيه، أو أنه حالة شعورية يبديها الإنسان بدافع الشفقة والتعاطف مع بعض القضايا ذات الحساسية في الشأن الإنساني أو مساندة بعض الأشخاص ممن يساهمون في الحفاظ على الصيرورة التاريخية وبناء مجد البشرية، أو التسليم بمبادئ عقلية تستدعيها الحياة الفكرية المنطقية للأفراد، أو السير على خطى الأولين وعلى هدى السابقين عملا بما يمليه علينا الضمير الجمعي أو الإرث العرقي المشترك...الخ، بل هو إمكانية إبداعية خلاقة يسهم في ربط مصير الإنسان مع مصير أقرانه في نوع من الوحدة والتكامل، تنصهر فيه مصالح الأفراد المشتركة في خدمة الصالح العام بحيث تصبح الغايات التي يبدي كل فرد الولاء لها نسقا يكون لكل واحد مكانه فيه في انسجام مع بقية الأفراد، ولا تتعارض أفعال كل شخص الموالية مع ولاء الآخرين لأغراضهم وغاياتهم، وذلك لا يتحقق إلا باتخاذ ما يمكن تسميته بالقاعدة الذهبية لرويس كموجه لكل سلوكياتنا وكضابط أخلاقي لكل آمالنا وطموحاتنا مؤداها "إبدأ بأن تكون مواليا للأشخاص وللغايات القرينة، ستجد أنك تنقاد بالتدريج إلى أهداف أوسع وأشمل"، وبذلك يتجرد الإنسان من أنانيته ويقتل في نفسه النزعة النرجسية بما تحمله من فرط حب الذات ويتخلص من النزعة السادية بما هي حالة مرضية تجعل الفرد يتلذذ بتعذيب الغير، في سبيل بناء مركب حضاري يتغذى بأسمى المشاعر الإنسانية وأكثرها رفعة تترجم حقيقة كون الإنسان كائن حاضن للقيم حامل في نفسه بذور التسامح والتضامن وتكريس الجهود للسير بالعالم نحو الأفضل

وبناء على ما وصل إليه رويس في تحليله للوضع الإنساني المعاصر وما لحق به من شتات وضياع وفقدان للمعنى وما يكابده الأفراد من قلق وجودي واحتضار أخلاقي وموت نفسي والذي أرجعه لغياب روح الولاء بينهم لقوله: "إن الحالة المفقودة للفرد هي حالة ألولئك الأشخاص الذين لم يجدوا ولاءهم، أو فشلوا في ولائهم بعد أو وجدوه"، يمكن التأكيد على أن عالمنا ليس بأفضل العوالم الممكنة إذا استعرنا المفهوم من ليبنتز كما يصغوه أنصار المذهب المثالي، الذين قدموا العالم على أنه خير مطلق وفي ذات الوقت تبرءوا من الشر وقدموا مبررا عقليا اعتبروا خلاله الشر جزء من خير أزلي متجاهلين بذلك الواقع العيني بما فيه من شرور، كما أن عالمنا ليس بأسوأ العوالم الممكنة كما احتضنته الفلسفات التشاؤمية التي بلغت مداها مع فلسفة شوبنهاور الذي تبرأ من الخير وقدم الكون كله على أنه شر مطلق لا يمكن تبديله أو تعديله أو اصلاحه لأن الشر هو أصل الوجود ومحركه ، إنما هو عالم قابل للتحسين كما وصفه وليام جيمس فهو يعتقد أن لدينا خيارات حرة ونعيش في كون متغير ويتخلق باستمرار وبذلك نستطيع أن نساعد بطريقتنا المتواضعة في أن نجعله أفضل وأحسن، فنحن لسنا بأشخاص عديمي الشأن والأهمية، ولسنا أفكار محددة منذ الأزل في عقل مطلق ولسنا أفراد عاطلين في إحباطات إرادة الاعتقاد، إننا أناس أحرار في عالم الجدة الذي نحاول أن نحسنه على الأقل.

وبالعودة لفعل الولاء الذي قدمه رويس كبديل عن الوضع المتشظي الذي وصل إليه عالمنا وكناظم يضبط سلوكات الأفراد ويعطيها بعد أخلاقي قيمي فإنه كما يعتقد رويس يمكن توقع ردة الفعل المباشرة لكثير من العقول المفكرة على هذه الأخلاق والتي تنحصر في القول بأن فعل الولاء ذو قيمة إنسانية متميزة يستميل النفوس ويوقد فيها شعلة لا تنضب لتحقيق التلاحم بينها، والعمل على تفعيل دوره في العلاقات الإنسانية واتخاذه منهج عملي تبنى عليه تعاملاتنا مع الغير، لكن صنوف الولاء متصارعة، فالأفراد غالبا ما يجدون غايات تجبرهم على ابداء الولاء لها، حتى أنه يتعذر في عديد المناسبات المصالحة والتوفيق بينها، فلكل جماعة بشرية أهداف تتعارض مع أهداف جماعات أخرى وهذه سنة رديئة عند الأمم المتناحرة. والإجابة التي يقدمها رويس للتخفيض من حدة الخلاف القائم بين الرأيين صياغته لمبدأ أخلاقي مفاده "فليكن لك ولاء من أجل الولاء"، فإيمانه هو أنه إذا كان الناس صادقين في مساعيهم الخاصة، ومتسامحين في الوقت نفسه مع تكريس الأناس الآخرين مجهوداتهم لمساعيهم المختلفة، وإذا كان الجميع ذوي عقول منفتحة، فإن كل صنوف الولاء تبرهن على أنها يمكن أن تتفق في نهاية الأمر.

إن القول بفلسفة الولاء عند رويس لا يأتي كمحاولة لتسليط الضوء على بعض المناطق المعتمة في فلسفات أجاد أصحابها نسج خيوطها لدواعي فلسفية تحتم علينا السبق في استثارة بعض المسائل المنسية لإثبات الجدارة الفكرية في الأوساط الفلسفية كما هو معمول به في وقتنا، إنما الدافع لذلك الإعلاء من قيمة الفلسفات الداعية للوحدة البشرية، المناضلة في سبيل تحسين السلوك الإنساني وتعديل مزاجه في تعاملاته مع الآخرين وبناء مجتمع أخلاقي قوامه التسامح والتعايش وقبول الآخر وفتح نوافذ الحوار الموصدة واحترام خصوصيات الغير بقدر يسمح باستيعاب فكرة أننا نتشارك ذات المصير في هذا العالم الذي شوهته أنانية البشر وأفقد جماليته الطمع المستبد بالنفوس المعتلة الساعية لتحقيق مجد مصطنع يشبع غرور بني البشر ويزيدهم استعلاء وقوة.

إن فكرة الولاء المشترك لا يعني قتل روح التميز والتفرد في مقابل الانتصار لفكرة التواري والانزواء تحت مظلة الجماعة المعتمة، إنما هو دعوة لخلق أسباب التنافس النزيه ورد الإنسان إلى طبيعته الخيرة التي جبل عليها في محاولة لإنقاذ المجتمع الإنساني الآيل للزوال، ومعالجة روحه المريضة التي أرهقها الصراع من أجل إثبات القوة والجدارة في عالم يقصي الضعفاء ولا يعترف إلا بمنطق المنافع الشخصية، وذلك كله بهدف بناء مجتمع حضاري يعطي للبعد الأخلاقي والقيمي والجمالي اعتبار في تكوينه لرؤية كونية عالمية مشتركة.

 

الباحثة: ناصري خديجة.

 ماستر 2 فلسفة القيم

 

في المثقف اليوم