أقلام فكرية

الحياة أُحجية كما الموت (رؤية وجودية)

علي المرهجفي الدين إجابة عن أُحجية الوجود في الحياة، بل وإجابة عن وجود آخر أبهى وأجلى وأشف من وجودنا الواقعي، ولكن في التعقل بعض من نزوع أهوج نحو فك مغاليق أُحجية الحياة والموت، وفي كل رؤى الفلاسفة والمفكرين ما يُزيد هذه الأُحجية تعقيداً، ولكن عند المُعتقدين جواب جاهز مُطمأن لهم، يحل مُشكلة وداع من نُحب بشكل مُفاجئ، بل ووداع من نُبغضهم، "فأنت تُريد وأنا أُريد والله يفعل ما يُريد"، ولكن عند المُتعقل (أنا أريد) هذه ممارسة لفعل الإرادة فيها بحسب ما يروى الفلاسفة الوجوديون كوني حُر، فكوني حُر فهذا يقتضي أن أكون "أنا" خارج مُهيمنات المنصوص الغيبي، لأن هذا من مُقتضيات وجودي "أنا" الإنسان بوصفي كائناً حُراً، ولكن هل تُحل بهذا أُحجية هذا الوجود الذي فسره اللاهوتيون بأنه وجود ممُكن مُرتبط بواجب الوجود بعبارة الفارابي؟.

مُشكلة الحياة أنك تعيش فيها وتشغل نفسك بأفاعيلها، ولكنك لا بُد، بل ومن المحتوم أنك مُغادرُ لها، فوجودك يُنبئ عن عدمك القادم.

وبعض ممن لم يؤمنوا بالعيش في الحياة الدنيا ممن آثروا الموت عليها، عملوا على تفعيل الخطاب الوجداني والشاعري عند من سحرته نصوص السماء وتصويرها المُلذ لمن لا حياة له ولا فعل ولا تأثير عقلي، لأنه وهب ما وههبه الله من قدرة على التعقل ليجعلها أدة طيعة لمن فاقه في التفكير والتحوير لنصوص المقدسة، فآثر هو الإسترخاء وجعل التفكي من مهمة الأولياء، فأغلب من منح عقه الرواحة وعاش في فضاء الراحة والاستراحة هم ممن يعتقدون بأن في مُغادرتهم لهذه الحياة وتفضيلهم للموت، إنما هو إتباع وإيمان لمُبتغى الديانة، ألا وهو "الموت" بلغتنا نحن الذين نبتغي العيش في الحياة الدنيا، لكنها "حياة" أخرى لمن ملَ العيش في دُنيا ملؤها النفاق، فحينما تجف بساتين المحبة الإنسانية، فعند هؤلاء حياة الآخرة أجدى وأحلى، وعند من ظن أن مهمته القصاص من الذين في اعتقاده أنهم خالفوا أمر الله والسماء خيار في القضاء عليهم وعلى دُنياهم التي لا تساوي عنده "عفطة عننز" بالمُقارنة مع ما سيحصل عليه وما هو مُتاح في عوالم الآخر التي وعد الله بها من آمنوا به!!، وبين من جعل من مشكلتي الحياة والموت من المفكرين والناس البسطاء من الساذجين أمواج مُتلاطمة وبحور واسعة لا يابسة نرتجي التلاقي بينهما عليها، فهناك مفكرون ممن عشقوا الحياة الدنيا وتماهوا مع مُعطيات الصراع فيها، مثل (ماركس) و(فرويد) و(نيتشه)، وهناك فلاسفة ومفكرون حالمون ممن تماهوا وعشقوا وهاموا في "الوجود الآخر" (الحياة الأخرى)، فلم يجدوا في هذه الحياة الدنيا غير مثالات لما في عوالم المثال بلغة إفلاطون، فالحياة الحقيقية هي حياة النفس لا الجسد، بينما كان أصحاب ذاك الفريق يعتقدون بأن الحياة الحقيقية هي الواقع المُعاش بكل مخاضاته والصراع الذي فيه، وما الحياة "الطوباوية" سوى وهم صنعه اللاهوتيون من شتى الأديان وشاركهم فيه الفلاسفة المثاليون، أو العكس، وهم صنعه الفلاسفة المثاليون، فأُعجب به اللاهوتيون، فصنعوا وأبدعوا له عوالم خاصة هي عوالم المُتمنى الجميل العادل الحكيم غير المُتحقق في عالمنا الأرضي، لكنه جليَ بهيَ في عوالم المثال. فهل هناك من حل لأُحجية جدلية "الحياة والموت"؟، فما هي الحياة؟ هل هي العيش والتماهي مع مُعطيات عالمنا الأرضي في الحياة الدنيا؟، أم هي "الحياة" بلغة أخرى وبمعاني مُضادة للمُعتاد من التداول النظري والمُعطى العملي في الحياة الدنيا ليكون معناها ومبناها هو "حياة الأنفس" أو الأرواح بعد تململها من العيش وسط حياة زائفة مليئة بالصراع والخلاف والصراع، للننتقل لـ "حياة" أخرى مليئة بالتوادد والتراحم والمحبة، كما رغب اللاهوتيون من الفلاسفة والصوفية ومن سبقهم من الأنبياء.

وما "الموت"؟، فأما الموت في الحياة الدنيا عند من تماهوا مع دُنيا الواقع وعشقوا العيش فيها، فهي مُغادرة للوجود المادي "الحقيقي"، ولكن الموت عند من تماهوا مع رؤية اللاهوتيين من الأنبياء والفلسفة والصوفية فهي حياة أخرى لـ "أولي الألباب" من المؤمنين بالحياة الآخرة ويوم الحساب.

أما عند بُسطاء الناس من هؤلاء ومن سبقهم، فهم في "كل واد يهيمون"، وكل منهم يفهم مُشكلتي "الحياة والموت" بحسب المُهيمنات والمقولات السائدة في مُجتمعه وبيئته الثقافية، فحيثما ساد إتجاه في تفسير المشكلتين في مُجتمعه ولا معارض لهذا التفسير ولا ناقد سوى القلة القليلة من الناس، فهو حتماً ولا بُد متوافق ومؤيد ومُنافح ومُتبني للتفسير السائد اجتماعياً وثقافياً ودينياً في البيئة التي هو جزء منها، ولكن أسئلة من قبيل لماذا أنا أحيا؟ وهل في الحياة ما يستحق أن أعيش من أجله؟، وما هي مُبررات الوجود فلسفياً؟، وهل للحياة معنى من دون وجودنا نحن البشر؟ وهل الإنسان هو "الوجود الأقصى" بلغة بول تيليش؟، أو هل هو "خليفة الله" في الأرض وفق رؤية وتفسير فلسفي عقلاني لا ديني؟. هذه أسئلة لا يقترب ولا ولن يسأل عنها بُسطاء الناس، ولكن من يسأل عنها هم الفلاسفة، ولكن ما هو مقدار وقيمة ما طرحوه من أجوبة لحل مُشكل العلاقة بين الحياة والموت؟، وهل لهذه الأجوبة قيمة معنوية وعقلانية من حيث التداول في الفضاء أو المجال التداولي العام؟، أم أن هذه الأجوبة بقية حبيسة التداول الخاص في فضاء مُقيد بنُخبة مُعينة؟ ولم تلق أذن صاغية تُنصت لها داخل الفضاء الاجتماعي العام؟.

لذلك أنا أختلف مع زكريا إبراهيم بقوله في كتابه "مُشكلة الحياة" "أننا جميعاً نعرف قيمة الحياة"، فالحياة على عكس ما يقول:"أنها تحمل في ذاتها، أو من تلقاء نفسها مُبررات وجودها"، إنما الحياة تحمل في ذاتها مُبررات بؤسها وعدمها، فأنا لليوم لم أعرف "قيمة حياتي"!، فحياتي كفرد مُتفرد ـ ربما ـ تُخالف حياتي كفرد داخل جماعة، ووجودي الاجتماعي الذي لم أختره بنفسي ـ ربما ـ هو كل أو بعض من شقائي وبؤسي ورغبتي باللاوجود رفضاً لوجود لا كينونة ولا حضور ولا تأثير ولا فاعلية لي فيه، ولم يكن لي دور في قبوله أو الرفض.

العدم ليس هو الموت، إنما هو لاحق له، لأن الموت هو الذي يمنح للحياة بعض من بهاء حضورها وفاعليتها في الوجود الواقعي، أما العدم فهو الذي يصنع حياة حُرة لكائن حُرة تُصارع فكرة الموت لتبني فكرة جديدة تُعبر عن كينونة الإنسان الصانع للصيرورة، صيرورة الوجود المؤثر لا في حياة الإنسان أو موته، إنما في إعلانه الدائم عن كينونته "الوجود الدائم أو المُستمر" بعيداً عن التصور الساذج للجدل بين مقولتي الحياة والموت، لأن كينونة الإنسان الحُر صناعة لحياة جديدة خارج منطقي التصورين المادي والروحاني. هو تصور لصراع وتوتر مستمر بين أسبقية الوجود الإنساني "الكائن" و "ما ينبغي أن يكون"، والكائن هو وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا، و "ما ينبغي أن يكون" هو مرتبط بقدرة الإنسان على ملأ فراغات أسئلة الوجود "الميتافيزيقية" بحضوره المستمر وكينونته الفاعلة.

ومثلما أكد زكريا ابراهيم فهناك "سعادة بلا وعي" و "وعي بلا سعادة"، ولم يضع زكريا إبراهيم ثُنائية التقابل بين وجودين كلهما حلو، أو ربما مُر، ألَا وهما تقابل "السعادة مع الوعي" أو "تقابل والوعي مع السعادة"، والتقابل هنا بمعنى التساوي أو التعالق والتماثل في الحضور!. وكأن الفكر رديف للشقاء، أو ألَا حضور للوعي خارج الشقاء، والعكس صحيح، أي لا شقاء لمن لا وعي له، فكلما حضر الوعي شخص ما إزداد شقاءً، وهو ما يُمكين تسميته بـ "الوعي المُستكين" الذي يُقابل بالتساوي وعي العبد الغائب عن الحضور بفعل الممارسة الإقصائية للسيد.

أما ما أسماه (هيجل) بـ "الوعي الشقي" فهو المُضاد لفعل العبد المُغيب لدوره وحضوره، هو فعل للفيلسوف الواعي الذي أدرك مُتغيرات الواقع الحال وسعى لتغيير المُحال، فشقي من كُثر ما عانى من تحمل أعباء الإصلاح والتغيير رهن العبد لها نفسه (العامل) بلغة ماركس فقبل في أن يكون حاله كحال الآلة يقبل أن يغيب بها بوصفه إنسان ليحضر كآلة لا فعل له ككائن البشري إلَا حينما يكون ذاتاً فاعلة ومؤثرة في إعادة إنتاج الوجود ليكون الموت مُرادفاً لفعل الاستلاب هذا، والحياة فعل وجود مُرادف لشعور الإنسان بكينونته بوصفه مُشاركاً في تشغيل النتاج وسبباً في زيادة الإنتاج بلغة ماركسية كمرادف لكسر نمطية الصراع بين "الحياة والموت" وفق الرؤية الماركسية الناقمة على تشكيل "الحياة" الرأسمالية على غرار تصميم لا "حياة" له إلًا على غرار تصميم لـ "موت" "البروليتاريا" التي لا حياة للرأسمالي ولا وجود (موت) إلَا بفاعلية رأسمال حر لا صديق له وخليل، سوى القبض من فائض رأس المال، الذي صار اليوم هو الذي يضبط "هرمونية" النغم وزُحافه.

ولا حل لأُحجية العلاقة أو جدلية "الحياة" و"الموت" لا غرار "هرمونية" نسقية تضبط علاقة العدد بالنغم، ولا خارج هذه الهرمونية، بـ "الزُحاف" وعزف النشاز خارج "هرمونية" النسق المُعتاد الذي تصورناه أنه صورة مُفارقة لنمطية النسق وخرق ونقض وتفكيك للسائد المألوف منه، ولك من السائد والمُفارق أُحجية في الإستبدال وتبديل المواقع بين المألوف منه والمُفارق، فكم من مألوف اعتقدنا به، ففُجئنا بخطل تصوراتنا عنه، لأنه من عالم المفارق لا المألوف كما تصورنا، وكم من مُفراق تصورنا أنه خارج المألوف، فوجدنا أنه قريب لنا بعد حين، فهذه هي جدلية "المرغوب المحبوب" (الحياة)، كما تصونا في زمن، ولكننا ـ ربما ـ سنجد بديلاً له فيما تصورنا أنه من (المكروه) (الموت) حل لمشكل العجز والخوف والفشل الذي يُمكن أن يكون من سُبل البحث عن نجاحات لتجاوز ضعف الذات، "فمن لا يموت، لا يُمكن أن يكون قد عاش"!.    

 

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم