أقلام فكرية

والتر بنيامين: نقد العنف في تفسير علاقته بالقانون والعدالة

علي رسول الربيعيأريد أن أتناول مباشرة وبدون تقديم تعريف عن مجمل اراء والتر بنيامين او سيرة حياته أو فلسفته، تمييزه بين العنف الأسطوري (القانوني) والعنف الأآلهي أو المقدس. إن آراءه ملغزة  لذا كانت عرضة لأكثر التأويلات أختلافا وتطرفا والتي أثرت بدورها في تحديد كيف يمكن أن تُقرأ مقالة بنيامين ومغزى نقده للعنف. أريد أن استشهد بالفقرة ذات الصلة بنقاشنا هنا كاملة لأن سأعود لها لاحقا ايضا.

"يعرض المظهر الأسطوري للعنف الفوري نفسه، بعيدًا عن إنشائه لأنقى مجال، أنه متطابق بشكل أساسي مع كل عنف قانوني، ويحول الشك بشأن هذا الأخير إلى يقين بخبث وظيفته التاريخية، وبالتالي يصبح التدمير إجباريًا. في نهاية المطاف، تطرح مهمة التدمير بالذات مرة أخرى مسألة العنف الفوري النقي الذي قد يكون قادرًا على الدعوة لوقف العنف الأسطوري. وكما هو الحال في جميع المجالات التي يتعارض فيها الله مع الأسطورة، فإن العنف الأسطوري يواجه من قبل الإلهي حيث يُشكل هذا الأخير نقيضًا له من جميع النواحي. فإذا كان يُعتبر العنف الأسطوري هو القانون التشريعى فإن العنف الإلهي هو القانون المدمر. إذا كان الأول قد شكل حدود المجموعات، فإن هذا الأخير يدمرهم بلا حدود. إذا كان العنف الأسطوري يحمل في آن واحد الذنب والعقاب، فإن القدرة الإلهية هي التي تملك قدرة التكفير فقط. فإذا هدد الأول، فإن هذا الأخيرة تضرب. إذا كان الأول أو السابق دمويًا، فإن هذه الأخيرة تقتل من دون إراقة أية دماء. قد يمكن مقارنة أسطورة نيوب مع حكم الله لرفقاء قورا كمثال على هذا النوع من العنف. لقد كان حكم الله بضرب وجهاء اللاويين، وقد ضربهم دون سابق إنذار، دون تهديد، ولم يتوقف بل إستمر الى حد الابادة. إلا أنه يوجد كفر في الإبادة أيضًا، وتظهر جليًا العلاقة العميقة بين قلة سفك الدماء والطابع التكفيري لهذا العنف، فالدم هو رمز الحياة الخالصة. من ناحية أخرى، ينبع إنحلال العنف القانوني (لا يمكن عرضه هنا بالتفصيل) من ذنب الحياة الأكثر طبيعية، التي تسلم او ترسل المعيشة البريئة والتعيسة إلى القصاص الذي "يُكفر" لمجرد ذنب الحياة الخالصة- ومما لا شك فيه أنه ينقي المذنب أيضًا ليس من الشعور بالذنب فقط، ولكن من القانون. إنه ليس من شان الحياة الخالصة وسيادة القانون على المعيشة ان تتوقف. يُعتبر العنف الأسطوري سلطة دموية على الحياة الخالصة بحد ذاته، بينما يُعتبر العنف الإلهي قوة نقية على جميع أشكال الحياة من أجل لقمة العيش. إن الأول يطلب التضحية، بينما يتقبل الثاني ذلك".

 Benjamin, Walter Benjamin selection Writing, pp. 249-250.  وسنعود اليه كـ: بنيامين من ص 237-250.))

 يتطلب منا فهم هذه الفقرة العودة الى التمييز الذي وضعه بنيامين منذ بداية مقالته. فقد أخبرنا، تتلخص مهمة نقد العنف في تفسير علاقته بالقانون والعدالة، وأن السبب الذي يصبح به القانون عنيفا بالمعنى الدقيق للكلمة هو عندما يدخل في علاقات أخلاقية/( بنيامين). وهكذا يوضح بنيامين منذ البداية أن نقده يتعلق بالعنف بقدر ما يُحمل هذا العنف على قضايا أخلاقية، وأكثر تحديدا بقدر مايتعلق بالقانون والعدالة. إبتداءً، يفترض التقليدان الرئيسيان في القانون مقدما – القانون الطبيعي والقانون الوضعي-  مايدعوه بنيامين  بالدوغما (العقيدة) المشتركة. تفصل هذه الدوغما بشكل حاد بين الغايات العادلة والوسائل المبررة. يحاول القانون الطبيعي، من خلال عدالة الغايات، تبرير الوسائل، ويحاول القانون الوضعي لضمان عدالة الغايات تبرير الوسائل. "./ (بنيامين) لايمكن الخروج من قيود هذه الصيغة الاً بأمتلاك معايير مستقلة. / (بنيامين) لذا وضع بنيامين مسألة الغايات العادلة جانبا وركز أهتمامه على الوسائل التي تنتج العنف فقط. على الفصل بين ما يسمى بـ " العنف الشرعي أو غير الشرعي". / (بنيامين) ولكن سنبقى ندور في حلقة مفرغة ما لم نوضح ماذا يعني العنف هنا. قال بينيامين أنه وضع الأساس للفصل الضروري بين تشريع قانون العنف وحماية قانون العنف وهكذا فأن كل عنف بوصفه وسيلة يكون أما لتشريع القانون أو لحمايته. واذا لم يكن مطلباً لأيً من تلك الصفات (التشريع والحماية) فأنه سيفقد كل صلاحية. ويترتب على ذلك، كل عنف بوصفه وسيلة يكون منخرطاً في الطبيعة الأشكالية للقانون نفسه. يبدو، أبتداءً، التمييز بين عنف تشريع القانون وعنف حمايته واضحا. فعنف تشريع القانون هو ذلك النوع من العنف المطلوب لتثبيت القانون، بينما عنف حماية القانون هو ذلك النوع المطلوب لفرض وحماية القانون. وندرك من الأمثلة التي يضربها بنيامين أن هذين النوعين من العنف مترابطان مع بعضهما. وربما أوضح مثال على هذا الترابط هو المواقف الثورية التي تبلغ أوجها في كتابة دستور جديد من قبل سلطة دستورية تشرع قوانين تكون ملزمة لأولئك الخاضعين للقانون. ولكن هذا القانون سوف لايكون قانوناً مالم يفرض ويحمى. فلايكون هناك معنى للحديث عن عنف تشريع القانون مالم يكن هناك أيضاً عنف حماية القانون. وغالبا ما يكون التمييز بين هذين النوعين من العنف واضحاً.

  أريد أن أشير ،هنا، الى الأعتراض الذي يواجه تأكيد بنيامين على الصلة الوثيقة التي تربط القانون بالعنف، أعتراض يرى أن تصور بنيامين للقانون يحملُ تشويهاً كبيراُ لمعنى القانون، لأنه لم ينصف الوظيفة الإيجابية لحكم القانون وسيادته. إنه أعتراض صحيح فلم تقدم مقالة بنيامين فهما شاملا للقانون، لكن أبرزت له وجهاً كان مهملاً ومستخفاً به ألا وهو عنف القانون. وأوضح مايكون ذلك في أوقات الأزمات، ولاسيما عندما ترى الدولة نفسها تواجه تهديداً جديا.

  لم يقدم بنيامين تصنيفا متماسكا للعنف في مقالته هذه الأ أنه لفت الأنتباه الى أحد أهم التمايزات أو الأختلافات بين أنواع العنف، التميز بين العنف الأسطوري (القانوني) والعنف الألهي أوالمقدس. فيرى أن العنف الأسطوري "يعرض نفسه بشكل مباشر ًومتطابقا مع كل عنف قانوني".1  وعليه أصبح القضاء على العنف القانوني ُملزماً، ولا يتم القضاء عليه ألاً بالعنف الألهي أو المقدس. فهذا العنف نقيض العنف الأسطوري من النواحي كافة. ولكن ماهو هذا العنف الألهي؟  يجيب قراء مقالة بنيامين عن هذا السؤال باشكال مختلفة وبطرق متعددة.

   رغم أن لدي ًالكثير من الشكوك ما اذا كان نص بنيامين يسوغ تأويلات جوديث بتلر

)  Butler, J “Critique, Coercion, and Sacred Life in Benjamin’s ‘critique of Violence’ ‘’ in Political Theologies: Public Religious in a Post- Secular World, pp.202-19. New York: Fordham University Press, 2006.) وسايمون كراتشلي (Critchley,S, The Faith of the Faithless: Experiments in Political Theology. New York: Verso, 2012.

فعلاً، لكن أريد أفحص بعض مطاليبهم الرئيسة التي سلطت الضوء على الأسئلة الأكثر أهميًة عن العلاقة بين اللاعنف والعنف. فقد أكدا على أنه ينبغي النظر الى نقد بنيامين الى العنف في سياق ملاحظاته حول اللاعنف. فقد طرح بنيامين السؤال هل من الممكن أو يحق أن تخول السلطة الألهية للإنسان حتى لو أستعملها الناس ضد بعضهم. وجوابه أنها غير قابلة للتنازل. فيرى أن للسؤال: هل لي أن اقتل؟  جواباً واحداً يتعذر تفاديه متمثلاً في الوصية الألهية " لا تقتل"./( بنيامين) ويؤكد على أنه لايمكننا أن نستنتج من هذه الوصية " إدانة وشجب لكل أنواع العنف والقتل من قبل إنسان لآخر" فليس الوصية معياراً للحكم ولكنها بالأحرى دليلا أو مرشدا لأفعال الأفراد والجماعات التي عليها أن تهتدي بها في تعاملها مع كل حالة بذاتها وبمعزل عن الحالات الأخرى فلكل حالة ظروفها الأستثنائية أو الخاصة، وتقع عليهم مسؤلية تجاهلها إذا ما قرروا ذلك. لذلك تم فهمها على أنها رفض صريح لأدانة القتل إذا ما كان دفاعا عن النفس./ (بنيامين)  ولا تفهم الوصية " يجب أن لا تقتل" كقانون، أيً بالمعنى نفسه الذي يفهم به القانون كتشريع للعنف أو حماية له. فترى بتلر، في تأويلها للوصية، " أنها، بدون أدنى شك، لاتشبه عنف القانون أو أكراهه، بل بالأحرى هي تؤسس لوجهة نظر تقود الى تدمير القانون كألزام أكراهي، فلايمكن أن تكون الوصية " يجب أن لا تقتل" شبيهة بالقوانين التي تم تدميرها من قبل القانون الألهي. إنها يجب أن تكون نوع من العنف الذي يقاوم العنف"../ (بنيامين)  ولكن إذا كانت ليس قانوناً بالمعنى نفسه لتشريع قانون العنف أو حمايته، فكيف نفهمها أذن؟ لا تُـفهم الوصية من قبل بتلر وكراتشلي بوصفها أمراً أو وصيةً حتمية لاتسمح بأيً استثناءً، أنها دليل أرشادي للفعل تتطلب أتباعها ويمكن أن يكون لها استثناء.( كراتشلي ص 212-218) فعلى الرغم من أن هناك أمراً قوياً: لاتقتل، قد تكون هناك ظروفاً استثنائيةً تجيز القتل. لايمكن أن يكون هناك قانوناً عاماً أو مبدأ شاملاً يمكننا من التقرير مقدماً ما يعتبر في الواقع حالةً استثنائيةً. فالتعامل يكون مع كل حالة بمفردها من قبل الأفراد والمجتمعات. فاذا ما تجاهلوا الوصية، واذا ما قرروا أنهم يواجهون حالةً استثنائيةً قد يكون فيها القتل ضروريا تقع عليهم مسؤلية هذا التجاهل. يتحول العنف المقدس/ الالهي، طبقا لتأويل بتلر وكراتشلي، الى نوع من اللاعنف لأن الأمر الالهي لاتقتل أمراً واضحاً، على الرغم من أنه لايقصي العنف المادي في ظروف استثنائية.

   بصرف النظر ما اذا كان تأويل بتلر وكراتشلي صحيحاً أو مطابقاً للمعنى الذي كان يقصد بنيامين بالعنف الالهي فقد سلم كلاهما باللاعنف كمطلب أخلاقي، وقد دعاه كراتشلي بالمطلب الأخلاقي المطلق. ينسجم هذا المطلب مع الرأي أن هناكَ استثناءً لايكون فيه العنف مسموحا به فقط ولكن مبرر أيضا. لايمنع الألتزام الأخلاقي المبدئي باللاعنف من الأعتراف بأن هناك حالات أستثناء. فقد كانت هناك ظروفاً تاريخية تم بها تبرير عنف المقاومة والقتال المسلح. ويمكننا هنا االأستشهاد بوجهة نظر فرانز فانون في " معذبو الأرض" الذي يمكن أن يقرأ كتبرير للمقاومة المسلحة ضد قسوة وعدوانية النظام الكولونيالي( الأستعماري). ولكن تطرح وجهة النظر هذه صعوبات عديدة حول العلاقة أو التفاعل بين العنف واللاعنف. وبالعودة الى نص بنيامين " نقد العنف" ومواجهته باسئلة جدية وعميقة مثلاً: كيف يمكن لشخص أن يعتبر لوصية " يجب أن لا تقتل" وزنا أو سلطة أخلاقية اذا كان لايسلم أبتداءً بأن الله كلم بها موسى. وحتى اذا سلم بهذا لاتوجد هناك قاعدة أو قانون عام يقرر على ضوءه مايعتبر ظرفا استثنائياً، ثم ماهي أنواع الأعتبارات التي عليه أن يضعها في حسابه بهذا الخصوص ليقرر أنه يواجه حالة استثنائية تبرر له العنف أو القتل؟ وحتى اذا تم التسليم بأن على الشخص أن يبذل الجهد ويتجاوز كل تلك الصعوبات حتى يصل الى هذا القرار الذي يخص حالة بعينها، كيف يمكنه القيام بذلك؟ هل هناك أيً معيار أو دليل لتقدير أو تقييم وجهة النظر المؤيدة والأخرى المضادة حتى يكون العنف مبررا؟ نجد أن نص بنيامين هذا يترك مسائل عديدة بدون حل وتبقى كذلك غير محلولة حتى مع تأويل بتلر وكراتشلي للعنف الالهي أو المقدس بوصفه شكلاً من اللاعنف.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

……………………………..

  1- Benjamin, Walter Benjamin selection Writing, p.249.

 

في المثقف اليوم