أقلام فكرية

فلسفة حقوق الإنسان والعولمة المعاصرة

ميثم الجنابيإن فلسفة الحق هي الصيغة الأكثر نموذجية لمسار المغامرة الإنسانية في ميدان الإبداع النظري والعملي المتعلق بتناسب الحرية والنظام. وهو الأمر الذي جعل ويجعل من فكرة الحق والحقوق جزء من معاناة البشرية بشكل عام، والنزعة العقلية- الأخلاقية بشكل خاص، في تذليل ما أطلق عليه الفلاسفة القدماء عبارة القوة الغضبية، أي الغريزة وبقايا القيم الضيقة. وليس المقصود بالمغامرة الإنسانية الكبرى هنا سوى البحث عن قواعد تربط في كل واحد حصيلة التجارب العقلية والأخلاقية بالشكل الذي يجعل منها منظومة فاعلة في عملية ارتقاء الإنسان، وعلاقاته العامة والخاصة، الى مصاف الرؤية المجردة.

إن حصيلة التجارب الإنسانية بهذا الصدد هي على الدوام صيغ متنوعة ومختلفة ومتباينة من اجل إيجاد النسبة الضرورية بين الحرية والنظام. وهي النسبة التي شكلت من حيث الجوهرية إحدى المرجعيات الخفية والعلنية، المدركة وغير المدركة في صراع القوى الاجتماعية على امتداد التاريخ الإنساني من اجل بناء "المدينة الفاضلة" و"النظام الأرقى". ومن ثم لم يكن اختلاف الرؤى والنظم الفلسفية والعقائدية سوى اختلاف المسالك في بلوغ الغاية المتسامية عن الأمثل والأفضل والأرقى. وهي قيم جوهرية بالنسبة للحق والحقوق بسبب جوهريتها بالنسبة للحقيقة. فالحقيقة هي التي تربط فكرة الحق والحقوق وتؤسس لديمومتهما بوصفهما قيما تاريخية وإنسانية. مما يجعل من التجارب الحقوقية أيا كان شكلها درجة في رقي الإدراك النسبي للوحدة الحية والضرورية بين العقل والأخلاق. مع ما يترتب عليه من إدراك نسبي ودائم لضرورة الوحدة الحية والمتطورة بين الحرية والنظام. وهو الأمر الذي جعل من مرجعية الحرية والنظام – مرجعية كونية وضرورية بالنسبة للرقي التاريخي للإنسان والمجتمعات والأمم والدولة.

إن الارتقاء الفعلي في مسار التأسيس النظري والعملي للوحدة الحية بين الحرية والنظام بوصفها وحدة عقلية أخلاقية هو ارتقاء نسبي وتاريخي وثقافي. بمعنى انه محدد بمستوى تذليل "طبقات" التجارب السابقة لفكرة الحق المجرد. وهي طبقات طبيعية تتراكم في مجرى صيرورة الأمم والدول والثقافة. وعلى قدر ارتقاءها من مصاف الأسطورة والدين والفكرة السياسية (الايدولوجيا والعقائد الأصولية) الى ميدان الاقتصاد والثقافة، ترتقي وتتهذب مكونات الرؤية الحقوقية في موقفها من مرجعية الحرية والنظام بوصفها مرجعية كونية.

غير أن المرجعية الكونية تبقى قبل بلوغها حالة "الإجماع العام" جزءا من تجارب الأمم. وتجارب الأمم تجارب ثقافية، بمعنى أنها لا يمكن أن ترتقي بحد ذاتها الى مصاف "التجربة الكونية". فتجارب الأمم هي نتاج لتأثير مباشر وغير مباشر لماضيها وحاضرها وأثرهما في كيفية حل إشكاليات وجودها الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الفرد والجماعة والدولة ضمن إشكاليات المعاصرة. وهو الأمر الذي يجعل من رؤيتها عن فكرة الحق والحقوق جزء من تجاربها التاريخية الثقافية.

بعبارة أخرى، إن الصيغة التاريخية للحق والحقوق هي التعبير النموذجي عن مستوى تطور الدولة والأمة وفكرة الحق في مجرى التأسيس النظري والعملي لمرجعية الحرية والنظام. وعلى كيفية حل هذه القضية تتوقف نوعية وقيمة مساهمتها الفعلية في الارتقاء الى مستوى الحق الثقافي (الإنساني) العام، التي تشكل فلسفة حقوق الإنسان احد نماذجها الرفيعة.

إن المهمة لا تقوم في صناعة أصنام أيا كان نوعها وحجمها ومذاقها، بل في تحطيمها من اجل تأسيس الالتزام الواقعي والعقلاني تجاه الاحتمالات المتنوعة في حل الإشكاليات الكبرى القائمة أمام المجتمع. وذلك لأن مضمون الحرية الحقيقية يقوم في توفير شروط البحث عن البدائل الواقعية والعقلانية وحق تجسيدها في مشاريع تخدم تكامل الفرد والمجتمع والدولة كل بمعاييره، الفرد بمعايير الحقوق والواجبات، والمجتمع بمعايير ضمان شرعية المؤسسات، والدولة بمعايير إدارة وتنمية هذه الشرعية. وهي شروط يستحيل تحقيقها خارج واقع وتجارب التاريخ الفعلي للأمة.

ففي ظروف العالم العربي الحالية يفترض تأسيس الحرية تفكيك البنية التقليدية والاستبدادية والأصولية في الفرد والمجتمع و"الدولة" على كافة المستويات. وهي مهمة ممكنة التحقيق من خلال إرساء المنظومة المتكاملة للحرية الفردية والاجتماعية على أسس عقلانية تدرك حدودها الواقعية ضمن التاريخ المعاصر.

وهي حدود ينبغي أن تستمد مقوماتها من إدراك طبيعة تطور الدولة العربية المعاصرة وأسباب إخفاقها على الصعيد القومي والعالمي. لذا فإن من الضروري أن يكون الإدراك شاملا للبديل الواقعي والعقلاني للإشكاليات الكبرى التي تواجهه في كافة ميادين الحياة، بدأ من التربية والتعليم والصحة وانتهاء بإرساء أسس الحرية كمرجعية ثقافية قومية عبر الإصلاح الدائم لآلية فعل المؤسسات الشرعية للدولة. فهي السلسلة الضرورية لإرساء أسس الحرية بوصفها بحثا عن البدائل العقلانية والواقعية وحق تجسيدها في مشاريع تخدم تكامل الفرد والمجتمع والدولة كل بمعاييره.

ولا يعني جعل الحرية مرجعية ثقافية سوى تحويلها إلى مبدأ متسام وقانوني أعلى من كل التأويلات السياسية والحزبية المشروطة بالمصالح العابرة وأحكام العقائد والتفسير الأيديولوجي المسطح. فهو الأسلوب الذي بجعل الحرية كيانا قادرا على تقيد سلوك الجميع، كالحقيقة بالنسبة للإبداع. وهي غاية يستحيل تحقيقها دون خوض غمار المعركة السياسية والاجتماعية والثقافية المعقدة في ظروف العالم العربي الحالية من اجل تحويل الحرية إلى مرجعية تحكم آلية تنظيم عمل المجتمع على كافة المستويات. وبالتالي غرس الحقيقة القائلة، بان الحرية هي شرط الإبداع الحقيقي وحقيقة الثقافة السياسية الحية. وبالتالي فإنها مهمة فردية واجتماعية يتحمل مسئوليتها الأفراد والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية بقدر متكافئ. وذلك لأن الحرية هي ليس فعلا فرديا ولا حتى اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا، بقدر ما هي منظومة متكاملة من القيم والمفاهيم والأفكار والقواعد التي لا يحدها شيء غير إدراك ضرورة التكامل الذاتي للفرد والمجتمع والدولة كل بمعاييره الخاصة. من هنا استحالة بناء منظومة الحرية الفردية دون تكامل وجودها الاجتماعي في مؤسسات المجتمع المدني، ومن المستحيل تحقيق ذلك دون بناء المؤسسات الشرعية للدولة. مما يستلزم في ظروف العالم العربي الحالية، التركيز على أولوية إبداع منظومة الحرية بوصفها رؤية متكاملة تتضمن وحدة الأبعاد التاريخية والسياسية والروحية لفكرة الحرية.

والمقصود بالأبعاد التاريخية لمنظومة الحرية، هي الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على صياغة المشروع الواقعي للحرية، أي الصيغة المعقولة لوعي الذات التاريخي المتحرر من استبداد الماضي. ولا يعني ذلك هنا سوى الوعي المتحرر من القبضة اللاهوتية والأيديولوجية والسياسية المباشرة للماضي. إذ ليست فكرة الحرية في صيغتها الواقعية سوى الرؤية التي تفترض كحد أدنى إزالة القدسية عن الماضي، وكحد أعلى الانتماء الحر إليه بمعايير الرؤية الثقافية. وهي رؤية مبنية على توفير الشرط الدائم للاجتهاد الحر، الذي لا يقيده شيئا غير التمسك بقواعد الحق ومنطق الحقيقة.

أما المقصود بالأبعاد السياسية لمنظومة الحرية، فهي الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على تحقيق المشروع الواقعي عبر تذليل استبداد الحاضر. بمعنى التخلص جهد الإمكان من ثقل التأثير المباشر لما يسمى بالمهمات الآنية، والسعي لتحقيق الأبعاد الفعلية للحرية، بوصفها حلقة في سلسلة بناء أبعادها الإستراتيجية. فالحرية هي ليست نتاج الحاضر والماضي، بل والمستقبل أيضا. وبالتالي فإن تحريرها من قبضة الماضي يفترض بنفس القدر تحريرها من قبضة الحاضر. ولا يمكن تحقيق ذلك دون إيجاد النسب الضرورية بين تعميق وعي الذات التاريخي الحر باعتباره اجتهادا مخلصا للحق والحقيقة، ورؤية الأبعاد المستقبلية (الإستراتيجية) في كل فعل اجتماعي وسياسي وحقوقي وثقافي واقتصادي آني.

أما المقصود بالأبعاد الروحية لمنظومة الحرية، فهي الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على تعميق فكرة تعدد المشاريع وتهذيب البدائل، وبالتالي النظر إلى الحرية بوصفها فعلا يتكامل فيه الماضي والحاضر والمستقبل. إذ ليست الأبعاد الروحية الحقيقية، سوى  مشاريع الإبداع المستندة إلى تراث الأمة ومرجعياتها الثقافية، أي المشاريع التي تبني آفاقها على أساس توليف الرؤية الواقعية والعقلانية والخيال المبدع.

إن توحيد هذه الأبعاد في الذهنية الاجتماعية والسياسية والفكرية للفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة، بدأ من مناهج التربية والتعليم وانتهاء بالقانون العام، هو الأسلوب الوحيد لتكامل الحرية بالنظام. وبالتالي تحويل الحرية إلى نظام. مما يجعل من الحرية نظاما ذاتيا للحق المتراكم في الثقافة القومية. وبالتالي يعطي لها شرعية التغير والتبدل والتطور حسب الإجماع العام. وفي هذا تكمن الضمانة الفعالة لوحدة الحرية والنظام بوصفها مرجعية عليا. إذ ليست حقيقة الحرية سوى النظام الذاتي للحق المتراكم في الثقافة القومية.

تبرهن التجارب التاريخية للأمم جميعا على أن حقيقة الحرية هي نظام، كما أن حقيقة النظام هي حرية. فحرية بلا نظام تؤدي بالضرورة إلى حرب أهلية ومن ثم إلى فساد شامل، بينما نظام بلا حرية يؤدي بالضرورة إلى فساد شامل ومن ثم إلى حرب أهلية. مما يعطي لنا إمكانية القول، بان حرية بلا نظام هي كنظام بلا حرية. الوسائل مختلفة والنتيجة واحدة وهي الخراب الشامل. ذلك يعني ضرورة النظر المرن الى وحدة الحرية والنظام. فوحدتهما ليست مطلبا سياسيا أو أمرا مرهونا بمتطلبات السياسة ومهماتها الآنية، بقدر ما ينبع من إدراك ما أسميته بضرورة المرجعيات الثقافية الكبرى بالنسبة لبناء الكينونة العربية وتطويرها المتجانس في مختلف مكوناتها.

ومن دون الخوض في تاريخ فكرة النظام وتأسيسها الفلسفي في مختلف المدارس، أشير هنا فقط إلى أن الجلي فيها كونها لم تزل تشكل محور الرؤية السياسية والأخلاقية للفلسفة ولب فلسفة الحق وفكرة القانون والحقوق. وفي الواقع لا يمكن تخيل الفلسفة الاجتماعية والسياسية والرؤية الحكيمة المستنبطة من تأمل "تاريخ العبر" العالمي دون الوصول إلى إدراك قيمة النظام بالنسبة لآلية فعل الدولة والنتائج المترتبة عليها.

فقد بدأ الفكر الفلسفي والديني ومن قبله الأسطوري والعادي، بفكرة النظام ليجدها في كل تجانس متخيل ومقبول ومعقول. ورفعها بعد ذلك إلى مصاف التجانس التام في الفلسفة، والجنة في الدين. بل حتى أساطير الشعوب وحاكياتها وخرافاتها جعلت من النظام كينونة ذائبة في إعجابها الكبير بالبطولة والحق والخير والشرف والضمير، أي في الفضائل المعقولة القادرة على ترتيب الشعور والإحساس في وجدان أقرب إلى نغم الموسيقى ودقات القلوب العاشقة.

فقد كان "النظام" دائما مكونا جوهريا بالنسبة للوعي الاجتماعي الباحث عن تجانس شامل وتام لوجود الإنسان. وتحول على امتداد التاريخ إلى "فكرة" مركزية التفّ حولها الفكر الأخلاقي بمفاهيم الخير والحسن، والفكر الجمالي بمفاهيم الجميل والرائع، والفكر السياسي بمفاهيم الجمهورية المثلى والمدينة الفاضلة، والفكر الحقوقي بمفاهيم العدل، والمنطق بمفاهيم القواعد. كما شق لنفسه الطريق إلى كل نماذج ومستويات الوعي الاجتماعي بالطريقة التي كان يتلمس ويرى ويسمع ويتذوق ويرى النسب الحسنة والجميلة والمثالية والعادلة والمنطقية، أي الشعور بقيمة وأهمية وفاعلية النظام المتسامي في الوجود. من هنا، فإن حقيقة النظام تتعارض تمام التعارض مع ما هو متعارف عليه ومألوف في عرف الدكتاتوريات الفجة، التي لا يتعدى مضمونه عندها أكثر من هراوة تهشيم الحسن والجميل والمنطق والعدل في الوجود. وهو "نظام" يشكل بحد ذاته خروجا على حقيقة وجود الأشياء وتدميرا لها، مهما بدا في الظاهر "فعالا" و"مغريا" في "إنجازاته" المباشرة. وذلك لأن حقيقة النظام تقوم في توفير شروط الحرية بوصفها بحثا عن البدائل الواقعية والعقلانية وحق تجسيدها في مشاريع تخدم تكامل الفرد والمجتمع والدولة كل بمعاييره، الفرد بمعايير الحقوق والواجبات، والمجتمع بمعايير ضمان شرعية المؤسسات، والدولة بمعايير إدارة وتنمية هذه الشرعية. وهي شروط يستحيل تحقيقها خارج واقع وتجارب التاريخ الفعلي للأمة. ذلك يعني إن حقيقة النظام بوصفه مرجعية هو مرجعية المنظومة.

وفي ظروف العالم العربي الحالية يفترض تأسيس النظام تفكيك البنية التقليدية والأصولية في الفرد والمجتمع و"الدولة"، عبر إرساء المنظومة المتكاملة للنظام الاجتماعي والسياسي والحقوقي على أسس عقلانية تدرك حدودها الواقعية ضمن تاريخ العالم العربي المعاصر. وهي حدود ينبغي أن تستمد مقوماتها من إدراك مستوى الخراب الذي حل في بنية الدولة والمجتمع والثقافة في العالم العربي. وهو خراب يرتقي في غلب مكوناته الى مستوى "المنظومة" من ها ضرورة أن يكون الإدراك شاملا للبديل الواقعي والعقلاني في فكرة النظام بوصفه مرجعية ثقافية. وهو أمر ممكن التحقيق عبر الإصلاح الدائم لآلية فعل المؤسسات الشرعية للدولة، باعتباره الشرط الضروري لإرساء أسس النظام بوصفه بحثا عن البدائل العقلانية والواقعية وحق تجسيدها في مشاريع تخدم تكامل الفرد والمجتمع والدولة كل بمعاييره.

ولا يعني جعل النظام مرجعية ثقافية سوى تحويلها إلى مبدأ متسام وقانوني أعلى من كل التأويلات السياسية والحزبية المشروطة بالمصالح العابرة وأحكام العقائد والتفسير الأيديولوجي المسطح. بمعنى تحويل النظام إلى مرجعية تحكم حرية تنظيم عمل المجتمع على كافة المستويات. وبالتالي غرس الحقيقة القائلة، بان النظام هو شرط الحرية وحقيقة الثقافة السياسية الحية. وهي مهمة يتحمل وزرها الأفراد والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية بقدر متكافئ. وذلك لان حقيقة النظام هي منظومة متكاملة من القيم والمفاهيم والأفكار والقواعد التي لا يحدها شيء غير إدراك ضرورة التكامل الذاتي للفرد والمجتمع والدولة كل بمعاييره الخاصة. من هنا استحالة بناء النظام بوصفه منظومة دون تكاملها الاجتماعي في مؤسسات المجتمع المدني، ومن المستحيل تحقيق ذلك دون بناء المؤسسات الشرعية للدولة. وهو أمر يستلزم في ظروف العالم العربي الحالية التركيز على أولوية بناء الهوية الوطنية والقومية بمعايير الرؤية الثقافية من خلال تأسيس رؤية متكاملة تتضمن في ذاتها وحدة الأبعاد التاريخية والسياسية والروحية لفكرة النظام نفسها.

والمقصود بالأبعاد التاريخية للنظام هي الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على صياغة المشروع الواقعي للنظام استنادا إلى تجربة كل بلد عربي لحاله والعالم العربي ككل. وهو مشروع ينبغي أن يذلل كل المكونات التاريخية للتقليدية والأصولية من اجل غرس نموذج للوعي الذاتي مبني على أسس عقلانية لفكرة النظام الاجتماعي والدولة الشرعية ومؤسساتها القانونية. وهي أسس ينبغي أن تعمل على تعميق وتجذير الحرية الفردية والاجتماعية بوصفها الضمانة الذاتية للنظام.

أما المقصود بالأبعاد السياسية للنظام فهي الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على تحقيق البديل الشامل لأنظمة الحكم الدكتاتورية. بمعنى ترسيخ وتوسيع القاعدة الاجتماعية للمشاركة السياسية، بما يكفل بناء منظومة الحكم الديمقراطي وشرعية المؤسسات. ومن ثم جعل الحرية والنظام مكوكا فعالا لغزل مكونات ومقومات المجتمع المدني.

أما الأبعاد الروحية للنظام فهي الأبعاد المتراكمة في مجرى العمل على تعميق فكرة النظام بوصفه مرجعية ثقافية، أي منظومة متكاملة من القيم والأفكار والقواعد ملزمة للجميع بقدر متساو يحكمها القانون المدني والدستور الدائم.

إن بناء وحدة هذه الأبعاد في الذهنية الاجتماعية والسياسية والفكرية للفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة بدء من مناهج التربية والتعليم وانتهاء بالقانون العام الأسلوب الوحيد القادر على بناء تكامل حي لوحدة النظام والحرية. وبالتالي تحويل الحرية إلى نظام، والنظام  إلى حرية. ومن ثم تآلفهما في وحدة ذاتية ترتقي إلى مصاف المرجعية الثقافية - السياسية الكبرى. وفي هذا تكمن الضمانة الفعالة لحيوية الحرية والنظام بوصفها مرجعية. فهي الوحدة الوحيدة، التي تعطي للنظام معنى الحرية من حيث قدرته على إبداع نظام ذاتي للحق متراكم في الثقافة القومية نفسها.

إن "حقوق الإنسان" ليست لائحة بل جزء من تجارب الأمم. وهي تجارب متنوعة لكنها محكومة من حيث الجوهر بغاية واحدة، ألا وهي التأسيس المعقول للقيم بالشكل الذي يجعل منها منظومة متكاملة للارتقاء بالمصلحة العامة والخاصة الى مستوى الحقيقة والمنطق.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم