أقلام فكرية

هابرماس ووظيفة الفلسفة راهناً

علي رسول الربيعييرى هابرماس أنه في ضوء الانتقادات المعاصرة للفسلفة أو للابستيمولوجيا الأسسية يقع على الفلسفة مهمة أن تجد الفلسفة دوراً ووظيفة جديدةً لها. ولتوضيح المعنى المقصود بالفلسفة وألابستيمولوجيا الأسسية فيمكن القول إنها عموماً تيار العقلانية الفلسفية الذي يمتد ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وما هو مشترك بين هذا التيار هو تأكيد قدرة الانسان على كشف الحقيقة وبلوغ لعمق الدلالة انطلاقاً من قدراته العقلية الذاتية ويكفي استحضار اليقظة الذهنية حتى يتم الكشف عن كل الدلالات النصية والوجودية والمعرفية. وهناك العديد من التيارات الفلسفية مثل التأويلية ومابعد البنيوية، بالإضافة إلى المقاربات الحديثة لتاريخ العلوم، التي تشارك في نقد الفلسفة الأسسية. ويعد الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي في كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة" واحد من أكثر الذين وجّهوا انتقادات قوية الى فكرة أن يكون هناك ثمة أساس نهائي لتبرير فلسفي للعقل مستقلٌ عن أحداث التاريخ والثقافة. فترفض اللاأسسية العقلانية المستقلة التي تميز فلسفة الوعي كماهي ممثلة في ديكارت وكانط. فالذوات لاتشكل العالم ولكن بالأحرى أنها تتجسد داخل سياق عالم لغوي خاص.

 يرفض هابرماس الأسسية أيضاً ومعها أي أمكانية لمفهوم العقل المجرد. ويقول في الخطاب الفلسفي للحداثة "ليس هناك عقل مجرد يمكن أن يرتدي اللغة لاحقاً". وعلى كل حال فإن دفاع هابرماس عن مكانة العقل لايجعله يصل في نقده للأسسية الى حد تأييد اعتراض رورتي على المشروع الفلسفي برمته.

يرى هابرماس أنه يجب على الفلسفة أن تتقبل أنها لم تعد قادرة على لعب الدور الذي كان يأمل كانط أن تقوم به، وهو توضيح "أسس العلوم لمرة واحدة وإلى الأبد، وتحديد حدود ما يمكن وما لا يمكن تجربته". ويؤكد أيضاً على أن هذه المحاولة للفلسفة لإرشاد العلوم إلى مكانها الصحيح لم تعد مقبولة. والشئ نفسه يمكن أن يقال عن دور الفلسفة بوصفها أحكاما على جميع المسائل الثقافية مثل التفريق بين مجالات قيم العلوم والأخلاق والفن، وكذلك مطالبتها الضمنية بإضفاء الشرعية على هذه المجالات داخل الحدود الخاصة بكل منها. فمثل هذه المهمة لايمكن للفلسفة أن تقوم بها أو تحققها. والسبب في ذلك هو أن هذه البنى العقلانية لا تحتاج إلى أساس أو تبرير في السياقات الحديثة، ولأنها هي مايميز الحداثة نفسها. فمهمة إعطاء تسويغ فلسفي لمجالات القيم المتمايزة والمختلفة هي بكل بساطة زائدة ولا حاجة لها.

 وعلى الرغم من أن الفلسفة لم يعد بإمكانها المطالبة بدور الفاتح لأبواب العلوم والحاكم عليها ولكن يمكنها أن تبقى تطالب بوظيفة الحارس للعقلانية. وإذا كان لها أن تفعل ذلك، فعليها أن تقود مساراً بين التقليد المشكوك فيه والذي لم يعد موثوقاً فيه للفلسفة الأسسية من جهة، وبين الهروب إلى ذلك النقد الشامل ضد العقلانية من جهة أخرى. فيرى هابرماس أنه من أجل إعادة بناء العلوم يمكن للفلسفة أن تدخل في علاقة تعاونية مع مشاريع بحثية معينة في العلوم الإنسانية من خلال لعب دور الممثل لنظريات العلوم التجريبية في المطالبات القوية بالصلاحية الشاملة. وبعبارة أخرى، يمكن للفلسفة أن تقدم فرضيات إعادة بناءِ للعلوم الإنسانية يمكن استخدامها في البيئات التجريبية. وفي المقابل، قد يقدم البحث التجريبي تأكيداً غير مباشر لفرضية إعادة البناءهذه. أي يمكن للفلسفة أن تقدم فرضيات إعادة البناء التي تستخدم في الأطار التجريبي. وبالمقابل، قد يقدم البحث التجريبي تأكيدات غير مباشرة لإعادة بناء هذه الفرضيات. وسيتم استخدام الفرضيات في البحث التجريبي التي قد تسعى، على سبيل المثال، إلى شرح المعرفة البديهية للمواضيع المختص "القواعد العالمية الشاملة المفترضة للتجربة العقلانية وللحكم، بالإضافة إلى التواصل اللغوي". فيقع عمل هابرماس الفلسفي في سياق هذا التعاون من أجل اعادة بناء العلوم الإنسانية. 

يمكن للفلسفة أن تأخذ على عاتقها مهمة مساعدتنا في إيجاد توازن بين اللحظات المنفصلة من العقل في تواصل الحياة اليومية بعد أن لم تعد قادرة على وضع نفسها كحاكم على مجالات وفضاءات قيم الثقافة. فيمكنها أن تكون الوسيط المفسّر بين مجالات العلم والأخلاق والفن، في حين يتم احترام العقلانية الخاصة لكل مجال بحيث إنها لم تعد معزولة عن بعضها البعض. فرغم أن هذه المجالات متميزة عن بعضها من الناحية المفاهيمية لكنها تتداخل باستمرار. ولهذا السبب يرى هابرماس أن هناك ضرورة ملحة لنظرية عامة حول الفعل التواصلي يمكن أن تتعهد بمطالب الصحة والمشروعية  في كل من هذه المجالات، وتقوم في الوقت نفسه بدور المفسّر والمترجم نيابة عن عالم الحياة.

 يفهم هابرماس هذه الأدوار الجديدة للفلسفة باعتبارها سمة لنموذج تحول من فلسفة الوعي إلى فلسفة  الفهم البيذاتي المشترك. وسعت فلسفة الوعي لتأمين أسسها في موضوع وحيد، معزول، مستقل بذاته، منفصل بعقلانيته، وغير مجزأ، ومستقل عن كل طوارئ تاريخية واجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه الأسس قد انهارت تحت أقدامنا، إلا أننا لا يجب أن نصل الى مرحلة الشلل الفلسفي والقبول  بمواقعنا العرضية والطارئة في سياقات تاريخية وثقافية حقيقية. يمكننا أن نتفادى مثل هذا الشلل برفضنا النظر الى العقل بوصفه عقل محض أو مجرد غير متجسد، والنظر اليه كما هو متعين تاريخياً في الممارسة التواصلية في الحياة اليومية.

إن مهمة مشروع هابرماس الفلسفي هي التوضيح والتفسير، مع الوعي بقابلية الخطأ، والافتراضات البراغماتية للعقلانية في السير اليومي للوصول إلى التفاهم، والافتراضات المسبقة التي تسلم بأنها عالمية وشاملة طالما أنها لا يمكن تجنبها. وإنه يسعى لتأكيد فرضياته بالتعاون مع النظريات التجريبية في كفاءتها الشاملة. وفي اطار هذا المشروع لايكون ذلك الشلل الفلسفي ولا الابتهاج بنقد الفلسفة اللا أسسية هي الاستجابة المناسبة لأنهيار الأسس النهائية لفلسفة الوعي. لا تقف وظيفة الفلسفة بوصفها حارس للعقلانية ولكنها تحولت أيضاً الى لعب دور التأقلم مع الجوانب العقلانية ومع المصير التأريخي للعقل الذي تم كبحه مرات ومرات وأسئ استخدامه وتشويهه آيديولوجياً، وواصلت رفع صوتها بعناد  ضد كل ما يحول دون فعل التواصل الناجح.

أن ما يمكن ماتدعيه النظرية الفلسفية، من منظور هابرماس، هو أنه يمكنها أن تقدم  نظرية اجتماعية نقدية وإعادة بناء الافتراضات العملية البرغماتية للمحاولات اليومية لاستخدام اللغة كوسيلة من وسائل تحقيق التفاهم المتبادل.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعي

 

في المثقف اليوم